بعد سنة من إنتخابه رئيسا للوزراء في الكونغو
وفي يناير عام 1961م وبعد سلسلة من الصراع التقليدى بين معسكر الشر الرامي إلي استعباد
البشر وبين إرادة الشعب المتمثلة بالشخصية المنتخبة في الإنتخابات الرئاسية والبرلمانية
الأولي التي شهدتها كونغو في تاريخها، قتل الزعيم الكونغولي باتريس لمومبا علي أيدى
العصابات الإجرامية التابعة للمستعمر البلجيكي وأعوانهم، الذين تربو في أحضان الغرب
وشربو كؤوس الذل أصنافا وسقط اللحم من وجوههم لكثرة دعارتهم وفسادهم أمثال: موبوتو
سي سوكو رئيس هئية الأركان الكونغولي، الذي كان جربا صغيرا للمستعمر وجيبا عميقا لبلجيكا،
التي كممت الأفواه وحبست الأنفاس وأغتصبت الفتيات، وفرضت علي المواطنينين الرشوة والأتاوي
التي أثقلت علي كاهلهم وزادة الحيرة والحرمان
لم تكن تهمة قتل لومومبا سوى تهمة ملفقة
لا تستند إلي اي دليل وبراهين واضحة، بل كانت تفتقر إلي المنطق ناهيك عن الشرعية كماكانت
إنتهاكا سافرا للمسار السياسي والعملية الديمقراطية الوليدة، ولم تكن سوى تعذيب للشعب
تغذيها الكراهية والحقد الدفين في قلب المستعمر، وفي الحقيقة والنظر إلي وراءا الزوبعة
السياسية لم تكن جريرة لومومبا سوى أنه وطنيا غيورا حاول إعاد الحكم إلي الوطنيين الأحرارا
ومحاربة المستعمر في الطرق السلمية، وبذالك كسب تعاطف الشعب بل وحب جماهير القارة ،ولم
تكن التهمة بالتاكيد أنه أدار البلاد ببلادة وبلا حنكة سياسية وحكم رشيد وعدالة قاصدة
وقاد الشعب إلي الفساد والحرمان والمحسوبية، بل أنه ورغم قصر التجربة قاد الجموع نحو
كونغو متعافية من أمراض المستعمر وأحجم دور المحتل في السياسة الداخلية الكونغولية
وفرض قرارت صارمة لايمكن للمحتل مساسها، مما أثّر سلبا مصالح البلجيكا والغرب وأنصف
لصاحب الحق والدار
لم يكن باتريس وطنيا غيورا ومناضلا نبيلا
كافح من أجل غد أفضل ومن أجل وطن تكون الحياة جملية ـ بدأت إرهاصاتها تلوح في الأفق
مع نيل الوطن للإستقلال ـ فحسب، بل كان متعلما
ومثقفا درس أرقي الجامعات وتتلمذ علي أيدي العلماء والفقهاء في بلاط الغرب، وسياسيا
درس أصول الحكم وتبحر فلسفة الصراع الأيديولوجي بين المستعمر وسكان افريقيا، وكان يتنمي
إلي النخبة الأروستقراطية المتعلمة في زمن الإستعمار البلجيكي مما زاد عقليته وثقافته
في الحكم وفلسفته الناجحة في إدارة البلد الذي تعيش فيه عشرات القوميات والأعراق الختلفة،
والذي يعج الطبقات والإنثربولوجيا المختلفة والأديان المتباينة
عمل لومومبا في بداية حياته في المناجم
كعامل بسيط يجري كعادة أترابه آنذاك وراء لقمة الهيش الكريمة ، ورأي بأم عينه المعاناة
والمعاملة القاسية التي يمارسها البيض ضد السكان الأصليين مما كون في قلبه جروحا لا
تندمل وقناعة راسخة بان هذا الوضع المخزي يجب ان يزول ويجب أن تنتهي مظاهر العنصرية
والتمييز العرقي وأن يكون الإنسان الكونغولي عالة علي وطنه وفقيرا في بلاده في حين
أن خيرات الوطن ينهبه الدخيل ويتمتع به الغريب.
لم تدم فترة عمله في المناجم بل بعد فترة
إنتدب إلي المدارس النظامية وتخرج محاسبا مرموقا يضع الأولويات لنهضة بلده، ودعا الشرفاء إلي مؤازرته والوقوف إلي جانبه، وما
لبث ان عم خبره في ربوع الوطن وعمت شهرته أركان الكونغو حيث أصبح وبمدة وجيزة نجما
لامعا ومناضلا حقيقيا يكافح من اجل الإستقلال الحقيقي لا الشكلي، مما مهد له الطريق
أن يكون محبوب الجماهير ومن عقد الجموع آمالهم لإصلاح ما أفسده المستعمر البغيض
عاش لومومبا حياة البساطة في وسط الشعب
وفكر الليالي الطوال وأنفق جل وقته كيفية الخروج من الأزمة الساسية والإقتصادية الراهنة التي يترنح بها الشعب الكونغولي، ويكاد
يعصف التعنت الإستعماري الإستحقاقات السياسية والحرية الطرية والإستقلال الوليد الذي
ولد بين المعاناة والقهر والإستبداد، والحرية التي نزعها الشعب عنوة من المستعمر في
ظل إمكانية بسيطة وكوادر نادرة وموارد متوفرة ولكن معظمها علي ايدي المحتل، ولتفعيل
أفكاره وطموحاته السياسية وقرآته للواقع والخارطة الجيوسياسية والإستفادة من البيئة
الحماسية المحيطة به ترشح نفسه في الإنتخابات بعد لقائه رؤساء القبائل في وطنه وزعماء
القارة بقيادة د.كوامي نكروما في العاصمة الغانية اكرا
شجع اللقاء علي المضي قدما في تطبيق أفكاره
الإصلاحية في الواقع الكونغولي البائس، وخرج
من المؤتمر بمساندة قوية من الأشقاء الأفارقة وكونت لديه ثقة كبيرة، واسس المؤتمر علاقة متينة بينه وبين القادة، إستطاع
من خلالها السعي إلي أن تعيش كونغوا أرضا وشعبا حرة من ساطور الإستعمار وسوط المحتل
ومن جلد الأذناب ونهب المحتل
لقد نال الشعب الكونغولي أسوأ انواع الإضطهاد
علي ايدي جبابرة البلجيكا وأذنابهم، ولم تنقطع إلي يومنا هذا آثار ذالك الماضي المزعج،
وقبل أن يبزغ نجم لوممبا كانت البلجيكا تنهب الأموال وتدنس الأوطان وتقتل الأفراد وبدم
بارد وبلا رقيب أو حسيب، وبعد أن تخرج لومومبا من الجامعات الغربية وفهم جيدا عقلية
الرجل الأبيض ومرض الفتاك الذي يلازم المستعمر والإزدراء الذي يمارسه، بدأ إستقطاب
النخب المثقفة رغم شحها وتوجيه رأي العام وتأليبه ضد المحتل، وقاد إضطرابات عمالية
وتظاهرات حاشدة أدت إلي سجنه عدة مرات
واجه لومومبا في بداية حياته السياسية باعتقالات
تعسفية ومضايقات قمعية ورصد لحركاته وسكناته، آخرها كانت إعتقاله ستة شهور بعد تأسيسه
الحركة الوطنية عام 1958م التي كانت أكبر حزب في الكونغو، وقادت مظاهرات حاشدة واضراب عام وتثقيف الناس وتوعيتهم
وتحريضهم علي المحتل والسعي إلي الحرية وإدارة بلادهم بأنفسهم، ولم يطلق سراح لومومبا
إلا بعد بداية المحادثات الجدية بين البلجيكا والممثلين والوجهاء ورؤساء القبائل وكافة
شرائح الشعب الكونغولي للخروج من الأزمة الراهنة والوصول إلي بر الأمان وشاطئ السعادة
الحركة الوطنية وما حظيت من تجمعات غفيرة
وشعبية جارفة وصل صداه إلي العواصم الأروبية، وأيقن المستعمر أن شرا محدقا قادم إليه فسعي لإجهاض التجربة وتشويه سمعة زعيمها،
ورغم ذالك تمكنت الجماهير الوفية للمومبا حمله إلي كرسي الحكم في اولي الإنتخابات التي
شهدتها الكونغوا، لأن الشعب الكونغولي كان يرى أن الحركة هي الوحيدة الجديرة بأن يدلي
صوته لصالحها، ولو لم يجهض الغرب إرادة الشعب لكنا رأينا اليوم كونغا أجمل وأحسن، لا
تقودها المصلحة وإراقة الدماء والعساكر التي تنهب الأموال تحت مسميات كثيرة منها الأمم
المتحدة والإتحاد الإقريقي والبعثات المتعاقبة لحفظ الأمن التي تجني الملايين ولا تحفظ
الأمن بل تسعي إلي تدهوره
بدأت بوادر التباعد والإنشقاق بين لومومبا
وبين البلجيكا بعد تأسيسه للحزب وما تلتها من الإعتقالات لقادة الحزب وكوادر النضال،
ولكن خطبة الإستقلال اللاهبة “الدموع والدم والنار” كانت القشة التي قصمت ظهر البعير،
لأنها كانت خطبة نارية شديدة اللهجة أرّخت وبشكل جذري مآسي الشعب ونضاله ضد العدو وحكت
وبإسهاب ثمانيين عاما من الإضطهاد والتنكيل ومصادرة الحقوق والحياة للإنسان الكونغولي،
وذكر في خضم خطبته أنه آن الأوان ليرحل المستعمر ويستلم الشعب زمام أمور وطنه، وحملت
هذه الخطبة العلقم والمرارة للمحتل وأغضبت ناظر الإستعمار وممثل البلجيكا في الحفلة،
ورأي أنها خطبة تفتقر إلي اللباقة السياسية والمرونة الدبلوماسية وتحرض الناس إلي الحماقات
وتقود البلد إلي الفوضي التي لا يعرف منتهاها!، وحملت الخطبة إلي الجموع الكونغولية
الحاشدة نسائم الحرية وتباشير جميلة لغد أجمل وحروف التحرر وكلمات الإستقلال الحقيقي،
والإنتفاضة لإيجاد الحقوق المهدورة ورمي رداء الخنوع والذل والبحث عن الحرية وبكل السبل
المشروعة
لم تنعم الجمهورية الوليدة بالإستقرارا
والأمن المنشود، ولم تستطع الإستفادة من خيراتها الطافحة كما أراد لومومبا، ولم يتسن
للشعب التنعم بحياة كريمة في داخل وطن يسوده الحب والوئام والوطنية، حيث بدأ في الأسبوع
الثاني من الحرية تمرد عسكري في الجيش وتضعضع أمني في الداخل وضائقة إقتصادية مقصودة
وبلبلة تقودها الحركات التابعة للمستعمر، وأنفصل إفليم كتانغا ـ أهم إقليم في الكونغو
ـ تواطأ مع سياسة تجفيف منابع وقوة لومومبا عن جسم الوطن تلتها إضطرابات عمالية مضادة
وأعمال عنف رهيب بدعم من البلجيكا.
وإزاء هذه الفوضى الخلاقة والوضع المزري
الذي لا يقبل مزيدا من الإنتظار والتفرج علي نكاية جروح الشعب والتمرد علي الشرعية،
حاول ريئس الوزرا المنتخب إصلاح البلاد وفرض هيبة الدولة في الكونغوا، ولكن كان وحيدا
في بئية موبؤة بالتبعية والرشاوي، وكان يفتقر إلي السند الحقيقي إذ كان جميع القوى
المؤثرة في اللعبة السياسية مثل الجيش والإعلام والإقتصاد علي أيدي المستعمر، الذي
كون دولة عميقة في الكونغو، ولم تقتصر المؤامرة في الداخل بل كانت معظم القوى المحلية
والخارجية موالية للمستعمر وأذنابه
وصل التوتر مداه حينما حاول الرئيس الذي
كان منصبه شرفيا إسقاط الحكومة المنتخبة وإقالة باتريس لومومبا، وحينما تتابعت الإنفصالات
التي يشهدها الوطن وتفاقم الوضع إستنجد لومومبا إلي الأمم المتحدة كحل أخير لإنقاذ
الكونغو من الهلاك المحدق وتشويه الجغرافيا الذي يتسارع بوتيرة رهيبة وحدّة سريعة ،ولكن
ومن الأسف كان الزمن متأخرا لا يسعف باتريس وتطبيق سياساته الوطنية، وكان البوق المرتزقة
وكعادته أسرع إلي الهدم ويقف إلي جانب المحتل لتدمير بلده
وتدخلت الأمم المتحدة ضد لومومبا! وبإيعاز
من الأمم المتحدة والحامية السويدية الموجودة في الكونغو ألقي القبض علي الرئيس الوزراء
المنتخب ووزير إعلامه ومرافقه ووجه إليهم تهما ملفقة وساذجة ثم أعدمو رميا بالرصاص
وعلي أيدي البلجيكيين ، ليعيش الشعب الكونغولي بعد هذا الغدر إلي حياة النكد وأتون
الحروب والصراعات التي لا تنتهي ،بل مازالت تلتهب وتلهم الشباب وتحصد الأرواح وتخلق
للكادحين معاناة لا تنتهي