ليالي
الشوق في الخرطوم كانت كثيرة ومتنوعة وممتدة بإمتداد خمسة سنوات عشت فيها طالبا
يقف على رصيف الشوق حيث لا أسمع إلا زقزقة عصافير الغربة فوق أغصان الحنين الواقعة
على قمة تلال الشجون، كنت أستأنس سراب الحب وصرير القلم وأنا أتهرب من إنكسارات
الحياة وأنياب المنافي. كنت أدور في دائرة المعارف وفلك العلم وهو فلك براق ولكنه
متعب ويتقاطر عن جبينك عرق يحفر الوجدان ليكتب الألم والمعاناة في صفحات أعمارنا،
ويمد حبل الوصال بيني وبين حياتها المتناقضة.
لم تكن الحياة حولي هادئة، بل كانت صخبة كثيفة الظل وقميئة اللون تحمل تفاصيلا
متشابهة وأشجانا كثيرة، ذاكرة الزمن أعادت إليّ الأغاني الكلاسيكية التي سمعتها في
غابر الأزمان ملطخة بنشيج الغربة ومعفرة بأرق الليل فتبعثرت أوراقي ودخلتني بحزن
لا ضفاف له ،وناجيت أجنحة الطيور النازحة من أوكارها والمتجهة إلي الجنوب الجغرافي
حيث يعيش أهلي وأصحابي.
ورحلت في
الليل وحيدا إلي أعماق الزمن السحيق وركبت عيدان الصبر وتسلحت رماح الأمل الصامدة
في وجه زوابع المشاكل وثملت من كأس الطرب أصنافا في تناقض صارخ وإنفصام واضح مع
طبيعتي الأصلية المتزنة وسجيتي الهادئة بشيء من الحدة واللامبالاة القاتلة.
وددت أن جسدي المنحول لم يكن قابعا هذه الليلة في
الزاوية الحادة من البيت المهجور، بل تمنيت أن يبلل المطر خلايا جسمي فيغرز البرد
أنيابه في مسام الجلد وشعيرات الجسد لأتلذذ دفء المشاعر الصادحة من بعيد ومن بين
نزق الندي ومن تلال خيالي الفسيح، ولكن ليل الخرطوم يعلمك الصمت ببراعة والتأمل
بسذاجة، وتتراكم الأمنيات فيه على زورق الحياة.
إثارة الليالي في الخرطوم التي لا تنتهي وتحرش النهار
ذكرتني السفر الرائع” ليالي الأنس في فيّينا ” حيث يصور الكاتب جمالية ليالي
فييّنا ما بين موسيقى موزارات ومتاحف فيّينا الخالده وقصورها المبهرة ذات الطراز
القولوني العجيب، ووصف متعتها وصباحها المطرزة بالموسيقى الكلاسيكية المبهرة
وإشراقة شمسها الوديعة، وتناول بإبداع عجيب إستمتاعه بالتزلج والتزحلق والتسلق على
الجبال الجليدية في شتاء فيّينا القارص والإستجمام على متن القوارب الصغيرة على
صفحة نهر دانوب في وسط فيّينا وعلى صهوة قطاراتها السريعة، وأورد تأملاته المثيرة
لروعة الطبيعة وعذرية الغابات المكثفة فوق الجسور الممتدة على عرض النهر في قلب
فيّينا النابض مما يوهم المرأ في أول الوهلة كأنها مدينة حالمة في وسط الغابات الإستوائية
في إفريقيا وجنوب شرق آسيا وليس مدينة تكتسي الحلل اليققة في زفافها إلي الشتاء
الزمهرير.
يملؤ الراقصون حول الكاتب في مشهد غير مألوف فيهرب
السفر في الجمال والنظر إلي الأكاليل المصطفة على جنبات الشوارع في طريقه إلي
السينماء الأوبرالي وهي تعرض أوبرا بيتهوفن في صدر المساء الأول وأوبرا بافوراتي
في الهزيع الأخير في مساء فيّينا المتميز.
ساقه الزمن وحده إلي عاصمة الأناقة وحاضرة العراقة
ولم يكن عاشق فيينا من الجيل الحالم في خلود الليل وسكون الأيام، بل كان يلجأ إلي
أنين الصمت ونبرة الشجن في داخل الأضواء الخافتة لحظة قراءة غراميات علمي بوطري،
وأبيات محمد الحضراوي، وروائع محمود
سنغب، وكان يتجرع الأشواق على مهل ويقتلع أشواك الحنين في
جذوع قلبه فتؤرق مضجعه وتهز الشعرة في رأسه.
وكان شرقيا أصيلا حافظ وده القديم ولازم البعد عن
التشبيب والهمسات القشريرية ومعاقرة الكؤؤس على وقع تساقط الثلوج والتلذذ بنظر
العيون الدعج والخصر الرخو والجسد الناعم، ولم يكن يرتمي إلي حضن جميلات فيينا
وشقراوات عاصمة المتعة لأنه كان غارقا في تلاطم ذكري الحبيبة وخيمة إنتماء الزوجة
البوليسية ، مما أفقد أن يعيش أجواء شاعريه ونغما جميلا خالدا في فنادق فيينا
الجميلة.
ولم يكن الفم الياقوتي يأسره ويدخله نشوة طفولية
ساذجه قد تتحول تحت تأثير نشوة الوصال غيثا من العاطفة يتدفق كشيخ في خريف السنين
يقبل حفيده الوحيد المبتسم في حضنه المرعش، مخافة أن يرتكب حماقات عندما يكون
مناجاة شجية مع كلاسيكيات جان راسين وحينما تتراقص أنغام الشجن في سريره الخالية
سوى الأحلام في الساعات الأولي من الصباح.
ووجه الشبه بين صاحبي الغامض والمشاكس الذي وجه صفعة
طائشة لجارته الشقراء لحظة إستعراض الفريق الإيطالي الزائر لكاتدرائية فيينا أوبرا
ريجوليتو لفيردي ذات النكهة الخاصة والمعني المميز لرجل شرقي لحق قطار الزواج في
منتصف العقد الرابع ورهن نفسه كوفاء لزوجته المراقبة كشرطي المرور في شوارع مقديشو
في الثمانينيات من القرن المنصرم، وبين من أسهرته مشاعر رومانسية حالمة في صحراء
الحب العتمور الذي يجعل طيف الحبيبة تاجا يومض في الأفق البعيد، هو أن كلانا يتعلق
بجمالية الضفاف وأناقة الشواطئ وزرقة السماء كعلاقة الدال بالمدلول.
كان ليلي خفيف الظل جذابا أنيقا، كشابة في مقتبل
عمرها ترتشف لبن النوق الدافئ في جبال هرر (Harar)، أو فتي
مفتول العضلات يرسل شباكه وسهام رزقه إلى قعر البحر قرب لاسقري (Laasqoray)، وكنت أقبض حزمة من الأمل التي
تغدو قبل تباشير الصباح كانها تفر من ضجيج الترحال إلي هدؤ جوهر (Jowahr) وظلها الوافر. وكان ملامحه صابغة بأفراح ولحظات إرتويت من نمير
الذاكرة كعطشان ورد فجأة غدير صافي يتفرع من نهر شبيلي قرب مدينة جودي (Godey) الشامخة على شاطئ النهر . كما كان ملئيا بمحبة الشجن الصافي
كمعزوفة هندية في فلم بطله شروخان Shahrukh
Khan)) الفقير
عادة في سيناريوهات أفلامه وبطلته كاجول (Kajol) المترفة في الغناء والسعادة كعادة أدوارها المختارة بدقة فائقة.
ورغم أن للمشاعر صولات وجولات في قلوب المحبين وعين
الحب كانت تتلصص عليّ لتثير شذرات من ضوء الماضي الهارب وغبار الحاضر ليجعل ليلي
لوحة قاتمة رسمها كولمبي متوحل بفساد المخدرات ورئته ملئية بقذارة الحشيش، أوتنين
صيني أعشي في أحلك الظلام إلا أني يئست من إستبداد الليل وسئمت السهر بلا أنيس
والأرق بلا رفيق، وكأنَّ قدري أن أرسل زفرات ساخنه إلي السماء لتقليل الشحنات
السلبية ذات التأثيرات الإنسانية في جوفي المتناقض.
ليتني أسامر رفقاء الحي وندماء العمر في رمال مدينتنا
المتميز، أوعلى جدران بيتنا المتواضع في قلب مدينتا المعطاء، وليتني أراقب
الساقيات من بعيد وهن ينفثن أسرارهن في جو مرح وأنثوي خالص يكشف المستور ويبوح
المخبوء وتغمره ثرثرة نسوية تقليدية.
ويا ليت شعري الاعب مع حبيبة حمراء الخدين كغانية
رومية في بلاط الأمير دراكولا، وأكون من ضحايا فاتنة ذات فستان قرمزي رائع كشفق
المغيب في مساء كثيف الغيوم وحامل بالمطر، أو أضحك مع البرق تحت السماء وأنا أتوسد
نعالي المصنوع بإطار السيارة حول مبارك إبلنا على مشارف الحي ومزارات القوم.