في الأزقات المتربة القابعة في سحيق التاريخ التي لاتفوح عنها سوى القهوة والأغاني الكلاسيكية الصومالية، وفي داخل بيت قديم يشبه الأبنية التاريخية لمدينة ظلت تحتضن الهجرات العربية والفارسية والأفريقية عبر القرون، وفوق سريري التي دائما تئن وتشتكي من تقلباتي وسهادي ورفصاتي ألاعب أطياف الكتابة
وأتأمل الضوء الوهّاج القادم من بعيد كأنه ثغر حورية صومالية طغى الخجل على
ملامحها السمراء ووجهها الصبوحي الأنيق.
على وقع المعرفة
ومعينها الذي لاينضب أساهر أطياف الجمال وأنثر على عطور الألفة والتواصل في الثلث
الأخير من الليل وحين عم الهدؤ الخافقين، ولا أسمع إلا أزيز الطائرات وقعقعة الباب
الخشبي المزعج في الليالي الخريفية الباردة. واستأنس صوت مؤذن الحي وهدير الشاحنات
القادمة من ميناء كسمايو الشريان الرئيس لإقتصاد مدينة تعاني من الترقب والخوف،
وزفرات شجية أرسلها إلى سقف البيت أو بالأحرى إلى النجوم المتسامرة في كبد السماء.
أصحوا مبكرا بصوت
المنبه أو نحنة صديقي المزعج وصوته الجهوري في بعض الأحيان، وأقبل إلى لله وأصلي
الفجر وبعد أوراد الصباح أمارس رياضة المشي وأتنسم عبق الهواء وعطر الطبيعة
الفواح، وأرتوى الهواء الطلق وأغرد خارج السرب كطفل مدلل في حضن أمه أو كشيخ علي
أعتاب خريف عمره ويتكؤ على عصا أصبحت رجله الثالث. تربطني
علاقة حب سرمدية مع نسائم الصباح الحاملة ومضات تنعش الأجساد وتبدد سحب
الهموم، وتخلع عن الأبدان أرق الليالي.
ولا غرو فنحن قوم
مغرمون بتباشير الصباح، ولا شئ يعادل عند الصومالي الأصيل شرب حليب النوق في
الصباح الباكر فوق الهضاب وهو يتوشح ردائه المصنوع من الصوف ويصغى لموسيقي BBC الإفتتاحية
لنشرة الأخبار” السابعة صباحا” وصوتCOWKE الجهوري
العميق يقول HALKANI
WAA BBC LONDON هنا
صوت “هيئة الإذاعة البريطانية” إلا تخزين القات عند الظهيرة في مفرش جميل وبارد
تمتزج نشوة اللذة مع جمالية الموقع وترانيم عذبة للأغاني الكلاسيكية الوترية الملئية
بالحب والطراوة.
أنوار الصباح تبعثر
أوراقي وتعيدني إلى ماض مازال يسيطر على حياتي وتفكيري فأتأسف لأيام الغوابر التي
عشنا في جنبات مبارك إبلنا وشربنا الحليب عند قسمات الفجر، وأذرف الدموع ويحدوني
الشوق إلى تلك الليإلى والأيام الهانئة الوديعة وأردّد سقي الله تلك الأيام
الغوابر المضيئة في حياتنا.
أتجول في
أنحاء البيت وعلى كرسي رخامي مركون بأناقة إلى أبعد زاوية تحت أشجار الحالمة أرتشف
قهوة الصباح على مهل ومعها أتجرع فنجان الذكريات وأغاني تفتح شهية الحب وتساعد
قابلية النفس للإنتصارات والبطولات رغم شحها وندرتها. على الطرف الجنوبي من الكرسي
خمسيني ممشوق القامة قمحي اللون تعرفت عليه قبل سنة في حفلة إجتماعية وقوت صداقتنا
مما جعل صديقي المفضل رغم فارق السن والثقافة، جلس بهدؤ وبأدب جم، شغل الراديو
الذي يرافقه في الحل والترحال كأنه بكره أو روحه التي بين جنبيه، كانت إذاعة”صوت
أمريكا” قسم اللغة الصومالية التي تبث من واشنطن تذيع باقة من الأغاني توشوشها
ذبذبات محلية، وكنت أتفاعل معها بسرور واضح حينما سمعت صوت العندليب الصومالي محمد
ورسمة الغزالي وهو يغني رائعته الشهيرة:
“Ubixii baxaayay so
adigaa abaarsaday”
وهي أغنية رقيقة ذات
إيحاءة رومانسية عميقة ولاتخلو فيها مسحة عتاب ولمحة شماتة بعد أن دار الزمن دورته
وذهب الجمال وبقيت الذكريات والنفس التواقة للماضي الشبابي حيث الوجوه نيرة
والأجسام مكتنزة والنفوس حالمة والأشواق حارة. كانت الحبيبة زهرة فواحة والآن ذبلت
وأصبحت بلاء جمال ولا جاذبية ولاقلوب خفاقة تسامر على هديل الهوى.
جلست أقلب صفحات جريدتي
المفضلة التي تحمل في صدرها أخبار التعافي والبناء والإرادة الحقيقية للسلام
وإنتهاء الحروب بعد ليالي الدمار والتشريد وقصص الحزاني وشجن المنافي وشحوب
الوطن!. وفي الصفحة الأخيرة تنقل إلينا الأخبار الثقافية وبعض سطور الأدب
والقوافي. معظم صفحات الجريدة تتحدث عن المآساة وعنجهية الإنسان، إنفجارات مروعة
في العراق ومواجهات دامية في سوريا وحرب إستنزاف في ليبيا وقتال مرير في سيناءّ وضحايا سود في أمريكا وتجدد الإشتباكات في جنوب السودان،
لا جديد يذكر في جريدة اليوم ولا شيء يدعو إلى مواصلة قرآتها ومنذ أن أصبحت مدمنا
لقراءة الجرائد وصديقا وفيا لحفيفها لحظة تقليب صفحاتها وأنا أجد في مانشيتات
الصحف والصفحات الأولي للجرائد ويلات الدمار، والحروب العبثية، والعقول الغئبة
والأدمغة المغسولة والماضي المدمر، والشعوب السكرانة، وقادة يعمهون في غيهم، حينما
يتعلق الخبر بالبلاد العربية والإسلامية!، والرفاهية والإقتصاد القوي والتنظيم
والتقانة عندما كان الخبر قادما من أقصي الغرب وبلاد عم سام وأوطان أنجلو سكسون،
أو من أقاصي الشرق وبلاد التنين والساموراي.
يؤلمني الواقع وتعذبني صور
الضحايا ونظرات الحزانى والوجوه الكئيبة التي شكلتها الحروب وطمستها الفاقة فأتأمل
على اللا شئ وأتوغل في سحيق الذاكرة وفي عمق الأفق الرحب، "وأشرخ جثة التاريخ
رغم علمي أن لا طائل من ورائها"!، وأرسم بريشتي الإفتراضية صورا موحشة وموغلة
في الهزائم المدوية فيتحول المشهد إلى تأنيب مشحون بألوان السوء والسواد!، وتتحول
لوحة الصباح إلى حلبة صراع، وقلمي إلى وابل من الإستفهامات، لماذا هذه الجماعات
تحرق الأرض وتشوه الجغرافيا وتبصق في وجه التاريخ والحضارة وتتمرد على القانون
والتمدن.
أفيق من كابوس جثم على
صدري وأعود إلى الواقع الصومالي الذي وإن بدا يتحسن إلا أن الأنين مازال يعم ربوع
الوطن، وفي خضم وادي التساؤلات يشكل ضرب الذات صدى أليما يتموج في أذني فتعيدني
شريط الأحداث إلى ما قبل عام تسعين الميلادي عام النكبة الحقيقة للشعب الصومالي،
ومن المفارقات أن الذاكرة الحديثة للأجيال العربية والإفريقية تتذكر المأساة
الصومالية ولا تعرف أن الوطن لم يكن قاتما ومأساويا مثل ما هو عليه اليوم، بل كان
رائدا يتمتع بمزايا جيوإستراتيجية وخيرات طافحة وموارد إقتصادية متعددة، وكان
الشعب طيب القلب حنونا محبا للحياة وعاشقا للجمال والقوافي، ولم تكن الليالي شاحبة
وكئيبة كليالي هذا الزمن، بل كانت النجوم تتلألأ فوق الهضاب المكسوة بالنضرة وألق
الحكاوي العريقة، والقمر لم يكن قمئيا بل كان سطوعه ينعكس علي صفح المياه مكوّنا
ضوء أخاذا يثير العواطف ويستفز المشاعر، وكانت الفنادق تقبل الزبائن المختلفة
والمنتجعات تعج بالناس والحيوية. وفجأة تحول كل شيء إلى ضده وقاد الجشع جموع الشعب
إلى المنون، وبات الطمع يصرع الرجال وانقسمتنا الآلام الناتجة من الخيبات إلى
دويلات متناحرة وأحزاب متقاتلة وقبائل متشاكسة.
يرحل الصباح سريعا كلمح
البصر بينما ساعات الدوام لاتتحرك إلا فوق سلحفاة بطئية. دقّت عقارب الساعة إلى
الثامنة والنصف صباحا…إلهي ما هذه السرعة الجنونية للزمن؟ لم يبق من الدوام إلا
نصف ساعة وينتظرني زحمة الشارع وندرة المواصلاة وتحرش المعدة وزقزقة عصافيرها التي
لا تقبل إلا لقم فمها بلقمة الصباح الساخنة ولو بالحجر كما يقولون، ماذا أفعل؟ لا
أملك وقتا كافيا لإحضار وجبة الفطور السريعة ويتحتم عليّ الخروج والفطور في المطعم
الشعبي القريب من مكان العمل.
قصدت إلى دولابي المتواضع واقفا أمام
الملابس المتدلية بعناية عن سقف الدولاب كأنها عناقيد، كلهم يرمقون إليّ بنظرة
حانية ويتحركون بإنسيابية عجيبة يثير شذاها أنسا في القلوب وحيرة في الذوق. وقفت
حائرا أيهما أجمل أيهما أبهى؟ ومن الذي يليق بشخصية تعاني من الصلابة واللامبالاة
في بعض المعايير التي بالتأكيد ليست أخلاقية، بل فهمها للحياة ونمطها المتسارع
والمعادلات الكونية الربحية والتناسق الذوقي في الملبس.
مددت يدي إلى قميص يبدو
خجولا ولم يكن يظهر اي نية للفت النظر مثل زملائه ولبست تحت وقع السرعة.كان القميص
بنيا مشوبا بزرقة علي خطوط متوازية وجميلة وربطة عنق سوداء داكنة لم أعرف لماذا
اخترتها من بين صاحباتها الشقراء والزرقاء والحمراء والرمادية ؟ وقد يرجع ذالك إلى
سيكولوجيتي وطبيعتي الخشنة لكوني ولدت في الريف وكسبت منه التحمل والتجلد، وترعرعت
في المدينة وأضوائها وتطبعت ببعض طبائعها وغرفت من نمير علمها وتناقضاتها العجيبة
وسرعتها وعزفت جميع أوتارها الحساسة وعشت الإنبهار الحضاري في أبهى صوره عندما زرت
العواصم العملاقة ذات العمارات الشاهقة وناطحات السحاب التي تزاحم الطبيعة رونقا
وصخبا.
ركبت المواصلاة العامة
وأصبحت فريسة سهلة للمحادثات الهزلية والضحكات الجانبية والهمسات الثنايئة ولم
أنجو من التعليقات الساخرة ونظرات غير برئية تحمل مزيدا من الإستنكار، في البداية
لم أعرف سر هذه العيون الموجهة إلى شخصي الخشن ولكن سرعان ما فهمت من الإشارات
والضحكات الهستيرية والقهقهات المجلجلة أنني أصبحت متندرا للركاب وفكاهة الطريق.
هدأت الحركة وقلّة النظرات
وتحسست موضع الإخلال فانفجرت ضاحكا وبذالك زدت الطين بلة!، ولم يشك من كان في
الحافلة جنوني أو إختلالي العقلي، وسر هذا الضجة أنه لم تكن ربطة عنقي أنيقة، ولم
يكن القميص متناسقا للسروال، ومن الغريب أن تسريحة الشعر المعقولة لحد ما والشوارب
الكثيفة كفيلسوف إغريقي في العصر الحجري لم تشفع لي أمام محكمة الفضوليين
القاسية!، وقبل أن أصل إلى وجهتي نزلت من الباص هروبا من الإحراج الذي لوّى عنقي
وتركت فوق المقعد أرتالا من الشتائم الخفية وكراهية آنية ستتلاشي بالتأكيد بعد
النسيان المرتقب.
قصدت إلى دولابي المتواضع واقفا أمام الملابس المتدلية بعناية عن سقف الدولاب كأنها عناقيد، كلهم يرمقون إليّ بنظرة حانية ويتحركون بإنسيابية عجيبة يثير شذاها أنسا في القلوب وحيرة في الذوق. وقفت حائرا أيهما أجمل أيهما أبهى؟ ومن الذي يليق بشخصية تعاني من الصلابة واللامبالاة في بعض المعايير التي بالتأكيد ليست أخلاقية، بل فهمها للحياة ونمطها المتسارع والمعادلات الكونية الربحية والتناسق الذوقي في الملبس.