على سلّم طائرة صغيرة تابعة لـ (طيران تنزانيا) وفي
أجواء ماطرة اكتحلت الأرض بإثمد الليل كنت ممتلئا بتفاصيل الرحلة، وكيف ستكون
زيارتي لدولة تمتد على مساحة شاسعة من التنوع الجغرافي والبشري والتاريخي. على
معقد ضيق للغاية سألني المضيف المتباهي بلغته الإنجليزية المشبعة باللكنة
الأفريقية: "كيف أساعدك يا سيد حسن؟" لم أعر اهتماما لسؤال لم تكن
مفاجئة على أي حال. لم يكن في خلدي سوى البحث عن إجابة مقنعة لتغيير الطائرة من
بوينغ 737 إلى طائرة صغيرة لا تتسع لأكثر من عشرين راكباً. أقلعت الطائرة وشقت
طريقها عبر سماء ملبدة بالبرودة والغيوم وربما القلق. تحت جنح الظلام كانت روايتي
الأخيرة غيلمه (Geylame) التي تتناول قضية الاستبعاد الاجتماعي في الصومال - حاضرة في ذهني. هل ستجد
الصدى المناسب؟ هل ستساهم في بناء الوعي وتماسك الهوية وتحقيق السلم المجتمعي؟
ولماذا يهين الإنسان بأخيه الإنسان؟ بعد دقائق وصلت الطائرة إلى الارتفاع المطلوب
وأطفأ الطيّار إشارة أحزمة المقاعد وبدأ المضيفون في تقديم الطعام والشراب
للمسافرين.
كان منتصف الليل بدقائق
حينما حطت الطائرة على مدرج مطار جوليوس نيريري في دار السلام. تفاجأت بهدوء
المطار وكأنه مطار لقرية صغيرة وليس بوابة جوية لأكبر مدينة في شرق أفريقيا من حيث
عدد السكان، إذ تحتضن حوالي 9 مليون نسمة. وصلت المطار متلبسا بترقب نابع من حكايات
الصوماليين الذين مروا بتنزانيا في طريقهم الى جنوب إفريقيا التي كانت في الفترة
ما بين 1994-2010م فرصة اقتصادية واعدة، وكانت سجون تنزانيا -كغيرها من دول الممر-
مكتظة بصوماليين هربوا من جحيم بلدهم المنهك بالحروب الأهلية إلى الوطن الصاعد
الذي تحرر من الفصل العنصري وسطوة البيض سياسياً.
الإجراءات كانت سهلة، ولم
يكن الأمر كما توقعت على الاطلاق، بل حفاوة الاستقبال جعلت جلّ ما في جعبتي مجرّد
تصورات متخيلة. في كونتر الجوازات استقبلتني سيّدة في أوائل الخمسينات من عمرها
بابتسامه لطيفة وتمنيات بإقامة طيبة دون أن تسأل عنّي سوى وضع أصابع اليد على
أجهزة التبصيم. ابتسامتها الأمومية كانت مفتتحا بأسبوعين من الصفاء الروحي
والاكتشافات المذهلة لدولة تحاول النهوض تحت ركام التحديات. تنهدت بعمق وأفردت
ذراعي لمدينة تدون نهضتها بصمت وشعب يعانق الحياة بكل ودّ. تجاوزت كبينة الجوازات
ورأيت من بعيد سائق تاكسي الفندق الذي احتجزته مسبقا ينتظرني عند بوابة الوصول
حاملا لافتة كتب عليها اسمي. وبعد التحية وتبادل العناق انطلقنا نحو الفندق في
رحلة استغرقت قرابة نصف ساعة.
كانت دار السلام تبدوا وراء ظلمة الليل مدينة نابضة بالحياة، ولكن بدت لي عند وصولي وكأنها غانية نامت بعد يوم شاق. كانت الشوارع خالية إلا من عمال وشاحنات ورافعات البناء وهدير الجرافات وصينين لا تخطئها العين في مدن وقرى تنزانيا التي تعتبر أكبر دولة متلقية للمساعدات الصينية في أفريقيا. في الأسابيع اللاحقة علمت أن علاقة البلدين قوية للغاية، وأن الصين ظلت ولعقود أكبر شريك تجاري لتنزانيا. منذ عهد الرئيس التنزاني الأسبق جاكايا كيكويتي (2005-2010م) شهدت العلاقات الصينية التنزانية تطورا ملحوظا في كل المجالات بما في ذلك المشاريع العملاقة والبنية التحتية والسياحة والتبادل الثقافي وصناعة الأفلام، إضافة إلى التدريبات والمناورات العسكرية ومكافحة الإرهاب. والمتتبع يلاحظ أن علاقة الدولتين تجاوزت الأطر الدبلوماسية إلى آفاق أرحب ومحبة بين الشعبين، وتدل كلمة "رفيقي" التي يستخدمها التنزانيون للصينين دون غيرهم من الشعوب مكانة الصينيين لدى المجتمع التنزاني.
انطباعي الأول للبلد
الأفريقي الذي خضع -على التوالي- لسيطرة البرتغال والألمان قبل أن يضم الانجليز
إلى مستعمراته لم يكن جيداً، خاصة وأن الفندق الذي حجزته عبر الانترنت كان دون
المأمول بكثير. من خلال موقع بوكينج بدا الفندق نظيفا وقريبا لمركز المدينة، ولكن
في "الواقع" لم يكن كذلك على الأقل لشخص تأتي النظافة على رأس ألوياته.
كان ليلا طويلاً حملني عبء السهاد الاستئناس على قصيدة بشّار بن برد: وطال
عليَّ الليل حتى كأنّه بليلين موصول فما يتزحزح. وبعد ليلة لم تذق عيني
طعم النوم، وكنت أصارع مع الصراصير والتوقعات المزعجة انتقلت من الفندق الواقع في
حيّ سِنْزا الشعبي إلى فندق صيني لا يبعد كثيرا عن شاطئ كوكو الشهير. في فندق
توتارا سكنت غرفة مطلة على مروج وفلل غافية في وسط الجنان. بخلاف سِنْزا حيث الطرق
المكسرة وبرك المجاري الراكدة، كان مساكي حيّ غارق بالخضرة والجمال، إضافة إلى أنه
مقر للسفارات والبعثات الدبلوماسية والهيئات الأممية.
لم أكن أملك من الوقت ما
يكفي للاسترخاء أو تأجيل استكشاف معالم العاصمة لذا في كنف هدوء الفجر ذهبت إلى
منطقة كينوندوني المعروفة بإرثها التاريخي والثقافي وثقلها المجتمعي، وزرت مراكز
ثقافية ومؤسسات تعليمية من بينها جامعة تنزانيا المفتوحة التي أحيت اهتمامي الأكاديمي
من جديد. وفي ضحى دار السلام المبللة بالرطوبة يممت وجهي نحو سوق كارياكو أحد أكبر
الأسواق في شرق وجنوب القارة الذي يخدم للتنزانيين والدول المغلقة في جنوب ووسط
القارة مثل "مالاوي، زامبيا، زيمبابوي، الكونغو وبروندي. تاريخيا كان السوق
"مزرعة جوز الهند" مملوكة لسلطان زنجبار ماجد بن سعيد البوسعيدي، وبعد
أن سيطر الألمان على دار السلام وقسموها إلى ثلاث مناطق، منطقة أفريقية ومنطقة
تجارية، وأخرى خاصة للأوروبيين جعلوا المزرعة من ضمن المنطقة الأفريقية. وبعد
هزيمة الألمان جعل الإنجليز المزرعة مقرا لقواته، وأخيراً تحولت إلى سوق شعبي في
سبعينيات القرن الماضي. وتعود تسمية "كارياكو" إلى الأماكن التي سكنها
الجنود الافارقة الذين حاربوا في صفوف الجيش البريطاني إبّان الحرب العالمية
الأولى.
سوق كارياكو أو "حيث تلتقي أفريقيا" كما يحلو للمحليين كان يتعافى من حريق عام 2021م المدمّر، وأعاد جزء من حيويته حيث كان يضج بالسلع المتنوعة كالأقمشة والمنسوجات، والأجهزة الكهربائية وغيار السيارات، والمحاصيل والمنتجات الزراعية، والملابس الجديدة منها والمستعملة، والأثاث المنزلية، والمجوهرات ومستحضرات التجميل. وتلخص المقولة المشهورة "إذا لم تجد ما تبحث عنه في كارياكو، فهو غير موجود في دار السلام" على أهمية السوق ومحوريته في حياة روّاده. في وسط موج من البشر مختلف الملامح والمرجعيات وتجمعهم تنزانيا، كنت سعيداً بأن دولة أفريقية استطاعت إدارة التعدد، وخرجت من ميدان الامتحان منتصرة وقد انصهرت قبائلها وملامحها وثقافاتها في نسيج اجتماعي واحد، وعبأتهم للمستقبل.