سر
وراء عرض القضية لعمي بهذا السرعة كانت إرادتي القوية بأن أستريح من تراكم
الهموم وتكالب الغموم، ولم يغب في بالي ولوبلحظة صعوبة المهمة وتشابكها
وخطورة الموقف وتعقيداته المختلفة، وأن أي لحظة تأخر بالتأكيد ليست لصالحي،
إلي جانب أني أعتبرت الحب أمرا في غاية الأهمية وقرارا مصيريا، والسلّم
الأولي لمستقبل باسم جميل كالحديقة ومرهف كتغريد الطيور وهمسات الزهور، إذن
فمن الواضح أن أمرا كهذا يتطلب التشاور والتروّى وتعميق النظر والإستعداد
التام لكل الإحتمالات الممكنة، أكثر مما يتطلب الشجاعة والجرأة والقرارات
الغير الرشيدة وارتكاب حماقات غير مضمونة العواقب ما دام مستقبلك مرهون به.
بدأت
تجهيز نفسي لسفر سريع وشرعت في ترتيباته وشراء بعض إحتياجات عمي الساكن في
القرية والذي لم التق به قرابة سنتين، وطوال الرحلة كنت أردد كلمات حب
وهيام، وكان في بالي أن العزيمة والتحلي بالقوة في وقت الأزمات شيئان لا بد
أن يتسلح بهما المرأ للتغلب علي نوائب الزمان ومصائب الدهور،ولا سيما
العشاق أصحاب القلوب المرهفة والمشاعر الرقيقة،وإلا فسينهار صرح الحب
وينقطع حبل الوصال في أول ضغط يتعرض له وأول شد يحدث به، لذا كنت أواجه
المشاكل برباطة جأش ووقار منقطع النظير، وثقة زائدة تجعلني لا أخاف من
المستقبل ولا أرهب من الحاضر وغيومه وغيبوبة الضمير التي أصابت بمن حولي.
المشاعر
كما الجمر يلهب الحشي ويؤلم الضمير ويضعف الجسم والذاكرة، خاصة إذا كانت
المشاعر قوية وجامحة ولم تجد معينا أو نصيرا يقرب المحب للحبيب، والفرق
الوحيد بينهما أن ألم الحب مصاحب بقشعريرة لذيذة وشعور رائع وتفكير جميل
وتصور مشرق للمستقبل، مما يخفف لوعته الشديدة وينمي في الذهن أيام جميلة
وليالي ملاح تنتظرنا هناك في كنف الحبيبة وعبق وصالها، وهذا الشعور الذي
حرم إلا المحب الصادق لا يعادله شئ بل يفوق جميع الملذات التي يشعر بها
الإنسان تجاه الآدمي والحياة، لذا أحببت أن لا اشارك شعوري بمن لا يمكن أن
يحس ما أعانيه بل جعلت مكبوتا بجوانح قلبي ولم أحكي بتفاصله أحدا سوي عمي
وصديقين من أعز أصدقائي ورفقايئ الذين رافقوني وشاركوني جميع فصول الحياة
وألوانها المختلفة.
سمترشيخ
في العقد السادس من عمره المديد ويعلو في محيّاه الوقار، ويظهر في جبينه
السكينىة، ويبدو علي ملامحه التي غزا عليها تجاعيد الزمان آثار القوة
والصرامة التي كان يتمتع بها في شبابه، وقوة جسمانية وبقايا عضلات مفتولة،
وتتكشف في أسارير وجهه نبل عريق وشرف رفيع وعصامية قل نظيرها ومعرفة جمة
وفهم عميق للواقع وتحليل جيد وتنبؤ عجيب للمستقبل، وفوق ذالك فهو متعلم
ومثقف إذ هو من الأوائل الذين تخرجوا من الجامعات المرموقة في حقبة
الإستعمار، ويتقن عدة لغات أجنبية وعاش في صدر حياته بعواصم العالم ونال
قسطا كبيرا من المدنية الحديثة والثقافات المعاصرة، وتدرك عن مكتبته
المتوسطة الحجم المعارف التي تزخرها ومن صيدلته المتواضعة الأمراض التي
تصاحبه.
لم
أكن ساذجا ولا عاطفيا في إختيار عمي سمتر ليكون محل ثقتي ومشورتي، ولم
أندم وضع جميع بيضي في سلته، لأني نظرت الأمر في جميع الزوايا وحللت
المواقف والخطوات وتبعاتها، ونظرت جميع من حولي وعجنتهم ودرستهم وقرأت في
قسماتهم وردود أفعالهم المتباينة والمختلفة قبل أن أعرض إليهم مشاكلي،
وبالتالي لم أتردد في اختيار عمي، وأعتقد أن سهمي أصاب الهدف ولم يكن طائشا
باعتبارات كثيرة منها التواضع والحميمية التي تشعر في اللحظات التي تجلس
مع سمتر، والصدق في النصح وحبه الخير للآخرين، ومما زاد قناعتي وثقتي بسمتر
أنه يحلل المشكلة ويبدى رائه حسب فهمه وعقله بعيدا عن المؤثرات الأخري
التي تؤثر الناس وبالتالي تؤثر قراراتهم ونظرتهم للحب والعلاقة التي أسعي
إليها لنجاحها، بالإضافة إلي ذالك كان يدور في ذهني أن مشكلتي لا تخص إلا
أنا والأقرباء المخلصين الذين أكن لهم نفس القدر من الحب والإحترام
والتقدير، وهكذا عزمت أن لا أقحم مشاكلي ومتاعبي في حياة الناس ولا أفسد
متعتهم بفك طلاسم حكايتي المعقدة وتفكيك لغزها المحير.
ذهبت
محطة الباصات التي تسافر إلي الولايات متأخرا وشوق اللقاء المرتقب بعمي
يملأ علي جوانحي، وعرض قضيتي له تدور في ذهني علّها يجد المحنك دواء ناجعا
وحلا شافيا للداء الذي أصاب حبي وكاد أن يرسله الي رحم المجهول، وبعد أن
وصلت بقليل وقبل أن تغرب الشمس غادرت الحافلة من أسوار المحطة متجهة إلي
صوب الجنوب تواجه سهام الشمس الذهبية التي تدخل النوافذ في ذالك المساء
القرمزي، تحركت الحافلة بسرعة البرق تجوب أحياء المدينة وشوارعها، وانعطفنا
في منعطفاتها نلوح الايدي للمارة والأطفال الصغار الذين لا يعرفون معني
المعاناة ولوعة الحب بل الدنيا في نظرتهم سطور جميلة وحكاية رائعة لم تنتهي
فصولها، نظرتُ الي المباني الشاهقة والأشجار وكأنها تجري وتسابق معنا ولكن
في الأتحاه المعاكس،
مالت
الشمس للغروب ومعها ذهب الضياء وعم الليل وبدأ الكون يعزف لحن الحياة بزيه
الأسود، والسماء بدأت تبكي وتبلل الدموع في صدر الأرض الطري، وكانت صرير
الريح وحفيف الأوراق المبللة يبدو أنغام في أيدي فنان لصوتها المبدع وأنغام
أوتارها الخالدة، لا شيئ يكدر صفو السفر في طريقنا إلي العاصمة الثالثة،
بل كان الأمل يحدو بي لمشاهدة أروع المظاهر وأجمل الجغرافيا في هذه المنطقة
السياحية من الوطن التي يؤم إليها السياح من كل الأجناس والأمم لما تحوي
من آثار تاريخية ومظاهر طبيعية متشابكة في منطقة شاسعة وممتدة من الساحل
الشرقي للمحيط إلي وسط الأدغال البعيدة عن المحيط مئآت الأميال، وكل من
يزور هذه المنطقة يكون ضيفا علي روعة صنع الخالق ويستمتع بمشاهدة أنواع
القرود فوق عناقيد الموز ويشاهد عن كثب النمور والفهود الإستوائية وأسود
الشرى في عرينها الطبيعي وشتي التماسيح والفيل وقطعان الحمار الوحشي
والزرافة في الغابات العذراء الإفريقية والمستنقعات الموجودة علي ضفاف
الأنهار، إضافة إلي ذالك يري بوضوح مصب الأنهار علي المحيطات ومكان إلتقاء
المياهين العذبة والمالحة، ولا ننسي خط الإستواء وطقوسه الخاصة حيث بإمكانك
أن تضع رجلك اليمني في النصف الشمالي من الكرة الأرضية ورجلك اليسري في
النصف الجنوبي من الكرة الأرضية.
كنت
محظوظا علي جلوسي في المقاعد الأمامية قرب الشباك لأري القري والمدن
المصطفة علي جنبات الطريق والتي بعضها بعيدة وبعضها ترقد بسلام فوق الربي
وتحت الغيوم التي تدمع بين حين وآخر لتنعش الأرض وتسقي الإنسان،وبعضها
حالمة علي ضفاف الانهار شامخة كشموح الوطن وبعض القري صامتة ومطلة علي
سواحل المحيط كالعقد الفريد الناصع في جيد الحرائر.
بداية
السفر لم أتوقع أن سفري سيكون طويلا ومرهقا، بل كنت أتوقع سفرا هادئا
وجميلا قليل المشقة لتوفر كافة سبل الراحة التي يوجد في بلدي المنكوب، لم
تتأخر طلائع مشقة السفر كثيرا بل بدأت قبل أن نخرج من المدينة بدقائق،
وتفاصيل القصة تعود أن رقم مقعدي كان "6" الواقع ناحية اليمني وقرب الشباكة
الشمالية للباص، ودائما ما كنت أحرص أن أجلس هذا المقعد لولعي الشديد وحبي
الجارف علي مشاهدة الطبيعية وشم نسماتها الأصيلة التي تهب من المحيط
المحاذي للطريق أو الأشجار والغابات الكثيرة تغطي أوالمستنقعات المتناثرة
التي تبدو في الليل مواقع داكنة ومحظورة والتي لا يوجد فيها صوت أعلي من
صوت الضفادع المستأسدة في مياهها.
لم
يكن السفر ميمونا مثل ماكان مرسوما في ذاكرتي ولم أحظي ما أتوقعه من
الإستجمام والنظر والقراءة لصفحات الطبيعة ودفتر الحياة، والسفر الميمون
يبدأ بالجار الميمون هكذا كنت أسمع وانا صغير من أمي ـ رحمة الله عليهاـ،
ولا أدري أصل هذه المقولة أهي مثل صومالي شائع أم هومن الأمثلة الواردة لا
أدري، ولكن ما أعرفه جيدا أن الصاحب الجيد والرفيق الصالح يؤثران الإنسان،
فدائما ما نحتاج إلي الدعابة والحكايات الجميلة وخفة الدم أثناء السفر
والرحلات الطويلة، وخير ما يقطع به الطريق هو الكلام الشيق والمحادثات
الرائعة في جو من الألفة والإحترام.
كنت
بجوار شخصية غريبة الأطوار برئية الملامح ضخمة الجثة غريبة الأطوار، لم
أنتبه إليها في بداية الأمر ولكن بعد أن كثرت تحركاتها نظرت إليها فإذا هي
فتاة في مقتبل عمرها ملأ اللحم في جسدها وتشعر أنها تختنق لشدة الضخامة
والوزن الزائد، في بداية السفر كانت تلتزم بالهدؤ والإنضباط وتحشر نفسها
إلي أقصي الزاوية، قسمات وجهها تنبؤ أنها تعاني شيئا ما وتصرفاتها
الصبيانية وضحكها بدون عنوان تجعلك في حيرة من أمرك، كانت منهمكة بترتيب
حقائبها وتعديل جلستها،وبعد مضي قرابة نصف ساعة من مغادرتنا من المحطة بدأت
تتحرك وتململ كأنها ملدوغة وفتحت كيس كان مركونة بغرابة علي يمينها وخرجت
منه فطائر وبيض مسلوقة ومشروبات غازية متنوعة فبدأت تأكل بنهم وشراسة وتشرب
بسرعة فائقة وتقضم بعدوانية شديدة، وفي أثناء حربها الضروس وهجومها الشرس
علي الأكلات والمشروبات كان العرق يتصبب علي جباهها الناعمتين كحبات
الحرير، كدت أن أكون من ضمن الضحايا إذ أصبحت بدون مقعد واحتلت الكرسين
مستخدمة بسلاحها الفتاك وخبث نسوي تقليدي كاد أن يشحن الجوي ويغير المزاج.
بدأت
الجثث تتلاحق حول أرجلي والضحايا تتساقط مجندلة فوق الكرسي، ونظرت إليها
وحمدت الله أني لم أكن من بين الضحايا وأحد هذا السندويتشات السيئة الحظ ،
تجشمت عناء الجوار ولكن ما أثار إستيائي هو طريقة تعاملها وعدم إكتراثها
للجار وتجاوزها كل الخطوط وإنتهاكاتها المتواصلة مستخدمة الدهاء الأنثوي
وجسد طري لا يمكن مقاومته، ومما يزيد غضبي هو أني أكره رائحة البيض أيا
كانت وأنا من ضمن الزهاد لهذا الأكلة المفضلة لبعض الناس،وبعد مجاهدة
ومحاولات جادة لضبط النفس حاولت عبثا إشعارها مدي تذمري وعدم رضائي
لأفعالها بطرق غير مباشرة، ولكن لم أجد جوابا غير إبتسامة ماكرة من فم مليئ
ببقايا طعام وصبغة حمراء من آثار المشروبات الغازية، وبعد لحظة جشأتْ
ونامتْ، فتنفستُ الصعداء وحمدت الله وجلست مرتاحا ولأول مرة أكثر من نصف
يوم كامل كنت بين رفسة رجل وتطائر الرذاذ وضيف ثقيل ندمت عليه كثيرا.
لم
تكن المعاناتي علي تلك الفتاة الحسناء وحدها، بل كان سفرا لم أذق فيه
الهناء طوال ساعاته وأيامه بل بدأت أحلك فصوله بعد أن أطبق الليل البهيم
علينا وما زلنا نواصل سيرنا نحو النهاية السعيدة إذ سمعنا صوت مخيف ظننت في
أول الوهلة إنفجار إطارات السيارة ولكن كان توقعي بعيدا جدا بعد أن صبت
علينا وابل من الرصاص ولولا عناية الله لكنا خبر كان وأثرا بعد عين، إرتبك
الجميع وخاف الناس وارتجفت الاراجل واضطربت النفس وهاج الناس وماجوا ورأيت
الموت بأم عيني وهو رابض في فوهة البندقية يلتهم الأرواح التهاما، لم أتذكر
لحظة الخوف إلا طيف الحبيبة ووصالها، يذكرني لهب البندقية ببريقة
إبتسامتها وثغرها اللامع، بسسب ظلمة الليل وشدة الخوف لم نكن ندري بعد ما
سبب هذا الإستهداف ولكن بخبرتنا السابقة ومعرفتنا لهذا المكان الذي لايوجد
فيه شرطة ولا أجهزة الأمن ولا حكومة تنظم حياة الناس كان عاديا أن يحدث أي
شئ.
توقف
الباص كلمح البصر اُطفأت أنوار السيارة ونزلنا منها وكنا قرابة عشرين شخصا
ومعظم الركاب من النساء والأطفال، لم نكن مسلحين لنقاوم العصابة بل جميعنا
مدنيون ومواطنون ساقهم القدر إلي مصارعهم وهذا المكان الموحش والحادثة
العجيبة.
في
وسط الأدغال ومن بين الأعشاب الطويلة سمعنا خشخشة السلاح ودبدبات مسرعة
نحو الباص وهمسات وكلمات غير واضحة وأشباحا مخيفة تسير نحونا... إقترب
الشبح شيا فشيا حتي أصبح واضح المعالم، إنها الذئاب في جلد البشر...جباه
كئيبة ...وجوه محروقة ندبات واضحة غيرت الملامح...أشباح اشبه ما تكون من
الشيطان الأزرق.. كنت واقفا في وسط الزحام تزداد نبضات قلبي واسمع دقاته
وكأنه أقلع من مكانه، خطوت نحو الأشباح فإذا أنا أمام خمسة أنفار ملثمي
الوجوه تتطاير الكراهية والحقد من أعينهم ، لم يتفوه واحد منا بكلمة بل لزم
الجميع الهدؤ ووقع علينا الحدث كالصاعقة تسمرت أعيننا أمام هذه الأشباح
الصامتة.
دار
في راسي طيف الحب وهاجمني خلجات العشق في أوكار الموت، إنها تناقض الحياة
باسمي معانيها أتلذذ بالحب ورائحة الموتي تزكم الأنوف والدموع تنهمر
كالشلالات وتوسلات العذاري ينفطر القلوب. تقدم رئس العصابة نحونا بعصبية
مبالغة وقال بصوت واضح : نحن قطاع الطرق نبحث رزقنا علي مكامن الموت والسطو
المسلح والنهب، ونحن لا نريد أن نؤذيكم ولا نريد أن نزهق أرواحكم أو أن
نغتصب الفتياة ونرجو أن لا نضطر إلي القتل أو الإعتصاب وهذا مشروط مدى
تجاوبكم وتفاعلكم معنا، نريد أي شئ له قيمة مثل الذهب والنقود والموبالات
والساعة وأي شئ نري أنه ذات منفعة.
وقع
علينا هذا الخبر السار كالثلج وزاح الغيمة الشتائية علي صدورنا، إذ كان
الخوف الأكبر علي ارواحنا وماذا يكون مصير الفتيات؟ هل يحدث لهم مكروه
وإذا حدث ما نغعل؟ زحفت الساعة واقتربت إلي منتصف الليل ونحو علي محاذات
الساحل وفي أيدي لا تعرف الرحمة وقلوب سوداء كريهة تقتات من الحرام ولا
تعرف إلي الحلال طريقا، بدأنا نجمع كل ما لدينا من النقود والذهب الذي كان
البنات تزينو به لزيارة أهلهم ومشاركة الحفلات البهيج، كنت أول من تقدم
بأمر من العصابة لتقديم ما في جعبتي وبعد أن تعرضت لتفتيش دقيق جلست
بالركبة متجها إلي المحيط ولا أعرف ما يخبو لنا القدر، ولا ما ينتظر بنا
من الأهوال والمشقات.
ما
أصعب لحظات الترقب وما أسوأ أن يكون مصيرك في متناول الجميع وأن تكون
أجلُك في كبسة زر،جمعنا كوم من أنفس ما كان معنا ولم يبقي في جيوبنا شيئا
وبعد أن سلم الركاب ما كان معهم تقدم ثلاثة من العصابة لتفتيش الحافلة
واستحواذ جميع ما وقع بأيديهم من الثياب وغيار السيارة ، رقص الموت أمامنا
وشمي الجميع رائحته المميزة، تماسكتُ أمام الطوفان وجعلت أراقب الحدث عن
كثب، صيحات وصرخات دماء ودموع إبتهالات وبكاء بللت الثياب، ولكن ما لا
أنساه في حياتي كانت توسلات ملحة وبكاء من العمق من فتاة في عمر الزهور
خافت أن يلطخ عفتها وشرفها وأن يركب مستقبلها بكف عفريت، ولم تكن كلماتي
وهمساتي لتهدأتها وتطييب خاطرها ذات أثر، حقا كانت لحظات لا أجد وصفا
يناصبها، ترقب الجميع متي يكون في عداد الموتي لقربنا الشديد وإشرافنا علي
الموت في كل لحظة، ولا يفصل بيننا وبين الموت سوي طلقة طائشة تخرج من فوهة
البندقية وتحريك الزند.
سمعت
قصصا لم أكن أصدق بها وكنت أقرا قصص الرعب الذي كان الخوف والإثارة
والتشويق والتمادي في التصورات المخيفة يدخل في تفاصيلها مثل حكايات قرصنة
الكاريبي وقطاع الطرق في العصور الوسطي والأجسام الغريبة التي تسقط علي
الأرض فتهلك الملايين وتحصد الأرواح كلمح البصر أو الأشباح التي تطارد
البشر وتأكل الإنسان وتتلذذ بأكل لحمهم والأطباق الطائرة، ولكن ما شاهدته
كان فوق الخيال وفاق التصورات،حقا كانت قصة مرعبة ليست من نسج الخيال بل
حقيقة واقعية كنت من ضحيتها ومن ضمن تفاصيلها وتجسد معاناة أمة وشقاوة جيل.
وبعد
هذا الحدث المخيف والسطو المسلح الذي تعرضنا له واصلنا سيرنا وكأن لم يحدث
وتذكرت مقولة قرأتها أن من أجلّ النعم التي حباها الخالق للإنسان الأمل
والنسيان، نسي الجميع هول ماحدث ورجعت الإبتسامة إلي الوجوه الكالحة
وبدانا نرجع شريطة ذكريات الحدث ورواية تفاصيله كل من الجهة التي رآها
وعايشها.
وصلتُ
إلي القرية وذهبتُ فورا إلي بيت عمي سمتر فوجدتُه جالسا تحت شجرة مانجو
وارفة الظلال ومتدلية فوق النهر،وعلي بعد أمتار قليلة من غابة إستوائية
باسقة الأشجار وكثيفة الأغصان يسودها الهدؤ ويقطعه تغريدات متأنية للبلابل
وزقزقة تشبه العزف تثير العواطف وحركات مألوفة من طبيعة عذراء سلمت
الإنتهاكات البيئية والتصحر الذي تعرضت له المنطقة، ويبدو أشجار الموز
شامخة علي مرتفعات النهر وربي الشاطئ، ولا أنسي أشجار الليمون التي تشتهر
بها القرية وجميع القري الواقعة علي ضفاف النهر. لا أملك وصفا يليق بهذا
المشهد حيث عجائب الكون وجمال الطبيعة إنسجمت مع زرقة السماء الصافية
وبساطة الحياة وودية الإنسان مما كون لوحة طبيعية تخرص الألسن وتسحر اللب
ولا يضاهيها في الجمال ولا في التناسق لوحة فنية مهما كانت.