أثارت شجوني محاضرة ألقاها بروفيسور عمر إينو وهو
أستاذ مرشح لنيل درجة الدكتورة في التأريخ الإفريقي من جامعة ولاية بورتلاند
الأمريكية، وأطروحته تعالج العرق، والرق، ولإستعباد والعنصرية البغيضة ضد شريحة
كبيرة من المجتمع الصومالي، وهي القبائل الصومالية التي تنتمي إلى العرق الزنجي أو
صومال بانتو التي تسكن مساحة كبيرة من الأراضي التاريخية للصومال وخاصة على ضفاف
الأنهار والأراضي الخصبة بين النهرين (نهري شبيللي وجوبا في الصومال).
نكأت المحاضرة جرحا قديما جديدا في نفسي، وأثارت كلمته
الهادفة ومحاضرته القيمة التي كانت تتناول واحدة من أهم القضايا الشائكة والصعبة الموجودة
في المنطقة الصومالية، سواء كانت الجمهورية الصومالية أو الأقاليم الأخرى التي
تسكنها القومية الصومالية (أوغادينيا في إثيوبيا، وإقليم إنفدي في كينيا، وجيبوتي).
البروفيسور تحدث بخنق وإستياء عن الصومال
والصوماليين ونظرتهم الحقيرة للإفريقيانية وكراهيتهم الشديدة للإنتماء الإفريقي،
وإدعائهم أنهم ينتمون إلى السلالة العربية الشريفة في نظر معظم الصوماليين، وكأنهم
ليسوا أفارقة ومن جنس مليار نسمة من الإفريقيين السود الذين يعيشون على القارة
السمراء منذ أن تمازجت السلالات والأعراق، ويرجع إدعاء معظم القبايل الصومالية
العرق العربي حبهم الشديد للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وأل بيته الطيبين، إضافة
إلى التفاخر والهجو والتكبر الشديد الذي كان موجودا في داخل المجتمع الصومالي
البدوي الذي كان يمدح ويهجوا القبائل حسب النسب والحسب وشرف العرق وعراقة الإنتماء.
التمييز العنصري والتحقير العرقي المبني على
اللون والشكل، والنسب، والملامح، والمهنة، أوالميثولوجيا الصومالية والحكايات
المتوارثة عن الأجيال هي مشكلة تواجه أطيافا عدة من المجتمع الصومالي، فبعض
القبائل يتم تمييزهم باللون والعرق والملامح والشكل ويتم إبعادهم عن توزيع الثروة
والسلطة ومشاركة حكم البلد نظرا لعرقهم وملامحهم ولا يمتهنون إلا بالمهن الحقيرة
في عيون الإنسان الصومالي البدوي الذي لايرى غير رعي الإبل مهنة شريفة تستحق
المزاولة، وهؤلاء هم القبائل الزنجية أو ما بات يعرف (Somali Bantu)، وبعض القبائل يتم تمييزهم نظرا
لمهنتهم وللأساطير الصومالية المروية التي
تتحدث عن وقوع كوارث طبيعية في الحقب الحياة القديمة للإنسان الصومالي، وتعميم
مجاعة أهلكت الحرث والنسل في القطري الصومالي، وفي عز الكوارث وفي قمة إنعدام
الطعام والماء أكلت بعض القبائل الجيفة ولم يستطيعوا ان يصمدو ويتجلدوا أمام وقع
الجوع والمسغبة، وهم قبائل عدة أمثال مدجان مطبان تمال وغيرهم.
وهذه نظريات بعيدة عن المنطق والعقل، ولا أعتقد
أنها حدثت في الواقع، بل هي مبنية على الخيالات والأساطير الوهمية، ولو فرضنا جدلا
أنها وقعت فالإسلام أحل أكل الميتة عند الضرورة، ورغم أن الفئة الأخيرة لا يمكن
تمييزهم عن معظم القبائل الصومالية سحنة وملمحا إلا أنهم يعانون تمييزا من نوع
آخر، وهو التمييز الثقافي وعدم المخالطة والإنسجام التام للمجتمع، ويعانون حصارا
تقليدا خانقا، وقطيعة في الزواج والتصاهر، ولا يجدون مشاركة فعالة وحقيقية في حكم
البد وتعيين المناصب الرفيعة في السلطة.
في الصومال وحيث تسود الثقافة البدآيئة التي
تفرضها العادات والتقاليد والموروثات الشعبية، والأعراف البدوية التي تمجد العرق
وتقدس النسب والحسب مازالت العنصرية تكبل حياة الشعوب، ومازالت مأساتها تكدر
حياتهم، وفي الأونة الأخيرة بدأت هذه القبائل حراكا وأنشطة ثقافية وتوعوية بدأ في
المهجر وخاصة الدول الغربية التي وجدها القبائل المضهدة حرية كبيرة لتعبير آرائهم
وأفكارهم، وسرعان ما وصلت صدى الإجتماعات والنشاطات الخارجية إلى الوطن ليسود على
الساحة الصومالية وينتشر على ربوعها كإنتشار النار في الهشيم، وأخذ حيزا مهما من
النقاشات والمنتديات والبرامج التلفزيونية والثقافية والندوات الصومالية المنعقدة
في الداخل والخارج.
أزمة الإنتماء وضياع الهوية وتعدد الولاء وعدم
الوضوح العرقي للإنسان الصومالي هي معضلة يتعايش معها الصومالي ومنذ عدة عقود،
ولقد أثيرت حول هذا الموضوع الشائك زوابع كثيرة وأقاويل متعددة وكتبت عنها أشياء
كثيرة معظمها مبني على الأهواء والتخمينات ويغلب عليها الطابع المشاعري والنرجسي
وليس الطابع العلمي الذي يبحث أصل المشكلة بتجرد ومهنية، الكل يكتب ويدون ما تملي
عليه هواه ويستمد نظرياته عن أيديولوجيته وخلفيته الفكرية والعقدية والعرقية، من
له خلفية إسلامية ومن يملك عقلية عربية وأيديولوجية العروبة وأفكارها يلحق
الصوماليين إلى الشعوب العربية دما ولحما وإنتماء دون عناء البحث، أما من يحمل النظرية
الإفريقيانية أو الغربية فهو يرجع أصل الصوماليين إلى السلالات الكوشيتية المتميزة
والتي عاشت في إفريقيا منذ عدة قرون، وإن لم يملك أدلة قوية توحي بذالك.
جدلية الهوية والإنتماء والحيرة بين الإفريقانية
والعروبة مازالت تسيطر على وجدان الصومالي منذ عقود، ففي الماضي لم يكن الصوماليون
يعانون من أزمة الهوية وضياع الإنتماء لكونهم يرون أنهم شعب يقع بين تيارين وبين
أمتين، الأمة العربية التي كان الصوماليون يشتركون معها العقيدة الدينية والروابط
الثقافة والتاريخ المشترك والتقارب الجغرافي والوجداني، إضافة إلى بعض الملامح
والسحنات الموجودة على الجبين الصومالي منذ الأزل، في حين كان يشترك مع الشعوب
الإفريقية الأخري بعض العادات والتقاليد والإنتماء الجغرافي والتشابه المظهري
إضافة إلى رابط الدين، ولا ننسى أن قبائل عربية كبيرة عاشت في الصومال وبعضها حكمت
على ربوع الصومال عدة قرون مما أضفى على المشهد الصومالي طابعا عربيا وإن كان
معظمه يكمن في المورثات الدينية والتاريخية والمعمارية والحكايات الشعبية.
ورغم ذالك لكن لم يكن هذا الإختلاف الصومالي الواضح للعرب
والإفارقة هاجسا يؤرق مضجع الصوماليين إلا بعد تأسيس المنظمات القُطرية والإتحادات
القارية والجمعيات الدولية، وبعد أن إنضمت الصومال إلى الجامعة العربية عام 1974م
في عهد الراحل محمد سياد بري، وترتب على هذا الإنضمام عدة مشاكل واجه الإنسان
الصومالي إفريقيا وعربيا.
عربيا كانت الإشكالية الكبرى أن الصوماليين لا
يتكلمون اللغة العربية، بل لديهم لغتهم الخاصة وإن كانت 45% تقريبا من مفرداتها
يعود إلى اللغة العربية، والغريب أن مساحة اللغة العربية تتضائل يوميا في الصومال،
ففي عهد الإستعمار وما قبله كان الصوماليون يتكلمون اللغة العربية بطلاقة، وكانت
مقديشو والمدن الساحلية مثل كسمايو، ومركا، وبراوة، وبوصاصو، وبربرا، مدنا عربية
بإمتياز، في حين كانت اللغة العربية في حقبة حكم العسكر إنحسرت في المحاكم الشرعية
وزوايا المساجد.
وإن كان التداخل الثقافي والوجداني أمثال القصص
والأغاني والشعر والأدب والمسرحيات والمجلات العربية والأشعار والقصائد، إضافة إلى
البعد المعرفي المتمثل في البعثات الأزهرية والمناهج العراقية منح إلى اللغة
العربية وجودا ملحوظا وللشارع الصومالي نكهة عربية خالصة وحضورا قويا في داخل
الدولة الصومالية الوليدة، ولكن يظل البعد الديني منذ أن وصل الإسلام إلى السواحل
الشرقية لإفريقيا الرابط الأقوى الذي يربط العرب بالصوماليين.
ومن المفارقات العجيبة أن اللغة العربية شهدت إتنعاشا
قويا بعد إنهيار الحكومة المركزية وتحولت المناهج الدراسية ولغة الحكم والمعرفة
إلى اللغة العربية، وتوّلت الجمعيات الخيرية والمنظمات العربية عبء وجود مدارس
ومعاهد وجامعات تواصل رحلة المعرفة وتخرج للصوماليين كوادرا مؤهلة دينيا وماديا،
وكانت الدول العربية في طليعة القافلة التي قامت لنجدة الصومال ومساعدتها، ولقد
كانت جهود الأفراد والجماعات العربية وسعيهم الدآئم إلى إعادة مناهل العلم والمعرفة
أكبر الأثر لإنتشار اللغة العربية في ربوع الصومال حتى نافست بعض المرات اللغة الصومالية
المحلية وإن كانت العربية لغة العلم والمعاملات الرسمية، في حين كانت اللغة الصومالية
لغة الحياة والتي تحمل إرث وتأريخ الماضي.
أما إفريقيا
وإن كان الصوماليون ينتمون إليهم ملمحا وجغرافيا فإن الشخصية الصومالية
العجيبة في تفكيرها والمتفردة في تصنيف الشعوب ترى انها لا تنتمي إلى نفس السلالة
التي تنتمي إليه الزنوج السود أو البانتو في إفريقيا، وما بين الإزدراء لكل ماهو
زنجي أسود وعدم الجرؤة الكافية للأنتماء الكامل للعروبة فقدَ الصوماليون هويتهم
ورافقوا ألوانا من التيه والضياع، ومما يزيد الحيرة والشجن المصاحب للهوية هو أن
الصوماليين أصبحوا مواطنين من الدرجة الثانية في كل المحافل عربيا وإفريقيا،
ويشعرون غبنا شدديا فيما يتعلق بالهوية والإنتماء، ففي المؤتمرات الإفريقية يرى
الأفارقة ان الصومال دولة إفريقية تلتصق على الجسم العربي الغريب وتتنصل عن أصلها
الإفريقي وأن والعرب لا تعترف عروبتها ثقافيا وإن قبلت سياسيا، فيما يرى العرب أن
الصوماليين ليسو عربا، بل هم قومية أخرى وأنضمت إلى الجامعة العربية بإعتبارات
أخرى أهما الجيوبولوتيك والتقارب الوجداني وكون الصومال إمتدادا طبيعا للعرب ومهما
لأمنها القومي.
البروفيسور يسرد حكايات مؤلمة وقصصا مليئة من
العنصرية والإضطهاد النفسي والثقافي حسب قوله، في سرده الطويل لفصول المعاناة والألم الذي تعانيه هذه الشريحة من الشعب يتذكر أيام الصبا
والمدرسة والعنصرية والإستهزاء المشين ضد أفراد صومال البانتو أو "جرير"
حسب المصطلح المحلي، فهم محرومون من دراسة لغتهم وتناولها وإستخدامها في الشأن
العام وإن كانت لهجتهم لهجة محلية تتفرع من اللغة الصومالية وليست لغة تنافس أو
تضاهي اللغة الصومالية. ومن القصص المبكية ماذكره البروفيسور في
منتصف المحاضرة وهي أن (في عام من الأعوام حدث أن يتفوق دراسيا أخ البروفيسور ويفوز في المركز الأول من الإختبارات
المدرسية وبدرجة عالية جدا، وفي حفلة كبيرة نظمتها المدرسة لتكريم الطلاب المتفوقين
وشاركها الآباء والأمهات أو قل أولياء الطلاب إن شئت، أشاد الأستاذ عبدالله مدير
المدرسة ذكاء وفطنة وإجتهاد التلميذ الصغير الذي حصل درجات عالية من الإمتحان
المدرسي.
وفي خضم الحفلة وفي وسط الحضور وقف
مسن يرفع صوته ليقول : هل تريد أن نقبل يا مدير أن هذا العبد الحقيرتقدم على
طلابنا ليفوز في المركز الأول؟!، إنها معاناة وألم لايشعره سوى من كابد العنصرية
وواجه التمييز سواء كان عرقيا أو دينيا او لونا وسحنة وملامحا في داخل وطنه ومن
قبل شعبه وأمته التي ينتمي إليها.
في نظرة شعوب العالم أو على الأقل
نظرة من لا يعرف كثيرا عن الصومال وقبائلها، ولا يعرف على التقسيمات العرقية ولا
الملامح والسحنات الموجودة فيها يصنف الصوماليين على أنهم زنوج سوداء يعيشون في
القارة الافريقية، وهذا هو التعريف الصحيح ﻻننا أمة سوداء تعيش في القارة الإفريقية،
بل في شرقها الذي تدله الأحافير والمستحاثات الحديثة التي وجدت قريبا أنها هي
المكان الذي بدأت الحياة فيه، وأنها الأرض التي عاش عليها أول حيوان ناطق.
أما في نظرتنا القاصرة وخيالنا المريض
نتباهي بأصولنا الغير الإفريقية سواء نقول ننتمي الى العروبة وخاصة الى القريش
وبني هاشم وهذا إنتماء وهمي وخرافي في نظري، ولا يعتمد إلى منطق حقيقي، بل يعتمد
على المشاعر والهلوسات الساذجة المبنية على حبنا الكبير للإسلام ونبي الرحمة محمد صلي الله عليه وسلم.
وفي نبرة حزينة وصوت متهدج يقول البروفيسور
كل أسود وكل من له أنف أفطس وشعر أجد يدعونه "عبيد" القبائل الزنجية في
الصومال كما ذكرنا تختلف سحنة الصوماليين (الملامح الصومالية فاتحة وشعرهم ليس
أجعدا وبشرتهم فاتحة وليست داكنة مثل بقية الأفارقة مثلهم مثل الإثيوبيين
والارتريين)، وهنا أتسآل إذا كنا نمارس
العنصرية ضد شريحة مهمة من مجتمعنا فكيف نشتكي منها إذا مورست ضدنا في الغرب أو
الشرق.
يجب أن تنتهي العنصرية وينتهي
الإزدراء العرقي والثقافي والتشويه المقصود للملامح والثقافة الموجودة في وطننا. كلنا نعاني من الحروب والتشريد
والتشوه الثقافي والتبعثر الجغرافي، وبدل أن نجمع قوانا ونوحد صفوفنا ونؤسس حياة
جديدة مازلنا نعطي الأولوية لسفاسف الأمور وأشياء هامشية لا دور لها في رسم مستقبل
السياسة لبلدنا المنهك بسبب الصراعات العبثية والمواجهات الغبية والعنصرية البغيضة.