الخميس، 26 سبتمبر 2013

قصتي مع الكتابة




جميلة هي الكتابة بشتي أنواعها إذا كانت تضمد جرحا، أو تسد فراغا، أو تبني وطنا، أوتمسح دموعا علي الخديّن البريئين، أوتبدد حزنا، أو تساعد حائرا، أو تجبر قلبا مكسورا أوملهوفا، أوتحمل رسالة خالدة وأهدافا سامية بين صرير أقلامها وحفيف أوراقها.
وتتضاعف قيمتها إذا كانت تؤاما للروح، محببة للمزاج، متكيّفة مع الطبع والوجدان، محافظة للقيم والتراث ،منسجمة مع الواقع، تمتهن الحقيقة وتدافع القيم وتحارب الظلم الإجتماعي والتحلل الأخلاقي، وفوق هذا وذاك يربط  بينكما حبل الود وخيوط الوصال، ويجد فيها المرأ متعة لا تضاهيها أي متعة إلا التنزه بعقول العباقرة، والسياحة في أذهان المفكرين، والتلذّذ بعصارة أفكار العلماء ،وحكمة الفلاسفة، وجمالية كلام البلغاء وحروفهم المشعّة كفراشة السواقي رونقاً وبهاء.
تستمد الكتابة عظمتها من فيوضها الغامرة من المحبة والإخاء، وكونها تناول جميع القضايا الحسّاسة والمهملة بزوايا متعددة، ونظرات مختلفة ،وتقدّم للمجتمع حلولا ناجحة للخروج من عنق الزجاجة والرجوع من المواقف الإنتحارية إلي شاطئ السلامة والإستقامة في المواقف،وتطرح  كل الطرق الممكنة من أجل الوصول إلي الهدف المنشود، وتحريك المياه الراكدة، وتبديد الكوميديا السوداء
.ولكن  ـ ومع الأسف ـ ليست الكتابة كلها علي هذا المنوال من الجمال والتجرد عن المؤثرات الأخرى ،بل بعضها تختار لذة الوحشية، وتقدم فبركة إعلامية وميللودراما حزينة وشللا فكريا لا يخلو من طرفة، ووبعضها يتسم بسذاجة الفهم وسطحية التفكير، وكبت الحريات مادامت الضمائر غائبة والمصداقية ماتت وأصبحت الدنيا كلاما في كلام.
وبما أن معظمنا يجيد الرقص علي الرماد وطق الحنك وساسة التطبيل لكل الأصناف! ونعاني متلازمة العوز الثقافي والوجداني، ننظر الكون بنظرة رمادية، ونحاسب الزمن بمقياس الذل والهوان والتهور والمغامرة، ونريد أن ترضي الكتابة أذواقنا المريضة وأهدافنا المشبوهة، والتي نغطيها أقنعة زائفة، وبالتالي تكون الكتابة غير واقعية، أوتكتنفها الضبابية في رسالتها، أويشوبها الغموض في معظم الأحوال، أوتقدم ثقافة القشور كغواني الشرق التي تجيد رقصة هز البطن في المقاهي ، وتحدث للناس أنها في المعركة الأساسية لمحافظة القيم وصون الحضارة وتبجيل الجغرافيا، وهكذا تكون الكتابة بلا أهداف سامية وتكون حروفنا متنافرة كالأقطاب الإلكترونية، ويتمادي الإبداع في الأفق البعيد إلي الشرق الجغرافي، وكتابتنا تميل إلي الهوّة السحيقة في الغرب، وشتان ما بين مشرّق ومغرّب.
وليس كل من لطخ بياض الصحف بمداد قلمه، وملك سهاما تمزق الأوطان، وحثته شهوة الكلمات علي شحن النفوس وتغيب العقول يكون كاتبا، بل لا بد للكاتب أن يحفظ (الخيط الرفيع الذي يفصل بين الضحك والألم والملهاة والمأساة والنكتة والجرح التعيس)، والكتابة تحتاج إلي بعد النظر والجسارة، وكشف الكثير وإبداء الحسن المثير ،والتعامل معها بحذر.
في الكتابة تبوح الكلمات كل ما لديها، وتعطيك الجرأة والإقدام، وتعلمك البوح والإبانة  في المواقف، وطرح كل ما يتردد صداه في أعماق فلبك وماتراه مناسبا للزمان وللمكان، وانسجم ومع شخصيتك، فينتج خاطرك كلاما كالقلادة متراصا وكقوس القزح أخّاذا يشع عنه نور وضياء، والكاتب كحال جرس اللسان الذي يهدا ليصلصل من جديد.
وفي الكتابة تتعدد الألوان، وتختلف العقول ،وتتباين الآراء، وتشتبك التحليلات وتتصادم الرؤى ووتقاطع الأفهام، رغم تكاملها وتعاضدها وخروجها من مشكاة واحدة،لأن الأفكار تأتي بعقول مختلفة  وأذواق متباعدة تري بعين طبعها ولها حبها السرمدي ومدرستها الخاصة لتحليل الأشياء، ولكن تكون الفكرة عظيمة إذا كانت إثراء للموضوع لا حلبة سباق مكشوفة يتصارعها الثيران من أجل الإنتصار.
***
علاقتي بكتابة الخواطر وإبداء البعد المهمل  من حياة شعبي وتاريخ وطني، والمحاولة الجادّة لمجاراة فحول الكتّاب والأدباء، ومقارنة سطورهم الجميلة بجملي المتقطعة وكلامي المهترئ، لم تبدأ أخيرا ولست حديث عهد بها، بل كنت أحاول التدوين كلما سنحت لي الفرصة في ذالك، وعشقت الكتابة بشتي أنواعها في صغري، فأجيد مرات وأخفق أخري، وكلا الحالتين كانت سهام النقد هي المسيطرة علي آراء صغار الكتاب وأنصاف المثقفين، وممن دأبو إجهاض المحاولات ووأد التجارب قبل أن ترى النور، وإغتيال الحلم في رحم الغيب ،في بلد من الصعب أن يكون الإنسان حرا مبدعا دون أن يتودد بشخص، ودون أن يكون ريشة في مهب الريح تحركها أهواء القوم أوالمحيطون به علي حساب الإبداع والإنجاز،ويتناقل الأجيال أخباره وتاريخه كما في أشعاره وايامه شفاهة وفي حديث المقاهي وترهات النوادي، حتي أصبحت الرواية غير المكتوبة سيدة الموقف والطريقة الوحيدة المعتمدة  علي كافة الشرائح لنقل الأخبار والتجارب والتاريخ والحضارة.
ومن الواض أن هذا النهج لا يمكن ان يسلم من العاهات المزمنة في نقل الخبر، وخبط عشواء وتضخيم أرقام في بعض المراحل!مما سبب الضياع للإبداع، والإندثار للتاريخ، والإضمحلال للتجارب، لبعد العهد وإختلاف الأزمان، وضعف الذاكرة، وفقد الكتابة التي تقيّد المقولة وتعقل المعرفة إلي الأبد،أما الأحداث والوقائع التي يتناقلها الأجيال والمحفوظة في تلافيف الذاكرة والعقول فقد يعتريها دجي النسيان أوتتعرض للكذب والتزييف وليّ عنق الحقائق بعد تقادم الدهور وتراكم السنون وضعف الذاكرة.
في طريقي الطويل إلي الحلم ومعانقة كأس الأملن لم أفقد بعض الآراء المشجّعة في وسط هدير المحبطين  ـ ولوكانت خجولةـ وكل مرة كان صوت الشقي وهدير الإحباط يصدح في أعماقي، وزغردة القمري اليائسة تكون ضيفا علي مدركي ومسمعي ،وشبح الحياء يجثم علي صدري، ويهتفني هاتف مشؤم من أنت حتي تكتب وتقدّم للناس أسطرا من فشل وأحرفا من نزواتك؟ ومن يقرأ كلماتك السديمة وأسلوبك الركيك ولغتك الضعيفة؟ ومن يمنحك الوقت لقرآت ترهاتك وخربشاتك؟ حتي أحجمت مواصلة المغامرة إلي إشعار آخر.
في هذا الجو الكئيب كشلالات القلق أوكأغنية تراجيدية لصاحب صوت الجريح ،شجعني بعض الإخوة الذين لولاهم ما عرف الأمل دربا لنفسي، وأشحنوني بجرعات الثقة والأمل، وملؤا في قلبي شحنات ضد الخوف وجنادل الأرق النابعة من الفشل مسبقا ورعدة الإخفاق قبل المشوار، فبدأت الهوة تتقارب والجرح يلتئم، والأمل يدنوا برحمته، والشجاعة تتزاحف، والفكرة تتراقص أمامي وطيفها يداعب أحلامي كقصة سريالية متفردة رغم وخزات الماضي المؤلمة.
 لم تكن علاقتي مع المواقع الصومالية الناطقة بالعربية جيدة، بل كنت أقرأ حروفهم التي تفيض جمالا وتفوح شذي بعض المرات وأتغيب عنهم مرات، وهكذا كنت ضيفا علي عالم جديد يريد الإبداع والتجديد رغم أن الكتابة لم تكن جديدة عليّ بمعناها العام، بل كتبت بعض المواضيع قبل هذا التاريخ بأربعة أعوام، ولكنها لم تنل إعجابي ولم ترق لي الفكرة فاغتال النسيان في رحم الغيب وأصبحو ضيفا لرفوف المكتبة وذرات الغبار وهواجس الخوف المسكونة في أعماقي،ولكن كانت الجذوة باقية، وإيماني العميق لتحقيق أمنيتي كان يحارب ذبول شجرة الأمل ،ويعدني دوما ليالي قرمزية مترعة بالبهجة والمسرات.
وبعد عزيمتي لطرح بضاعتي ولو كانت مزجاة ودون المستوى لم أتسرع بل راقبت الوضع عن كثب وتاعبت الجميع علي مهل ،وشاهدت رموزا ضائعة مع سراب العظمة وسفاسف الأمور وضحالة المعرفة وبراثن الغي والعجز والكراهية، ووهم العبقرية رغم سطحية محتوياتهم وبساطة فهمهم، ووجدت عظماء في طرحهم عباقرة في تناولهم جهابذة في تفنيد الكذب والزيغ والضلال،وآخرين يبحثون سلّما للنزول من الشجرة العالية التي صعدوا إليها، فأخذت قصتي نحو منحي دراميا سريعا وبمدة وجيزة وبمشورة أصحاب الباع الطويل والقدح المعلي  في تأصيل الكتابة ونضال التحرر من نطاق الشفاهة إلي التدوين، حتي كان إنطلاقي في مثل هذا الشهر عام 2012م  حين أرسلت أول مقال لي إلي الشبكات العنكبوتية، وكنت أنتظر وأراقب...وأنتظر والخوف بادى علي وجهي، والوجل مسيطر علي وجداني، وأترقب بعيون مفتوحة علي قلق وظل هذا الإحساس يلازمني! وكنت أتسآل بوابل من الأسئلة المحيّرة، وفي كل مرة أخفق كالعادة أن أسكت الصوت الشقي الذي يصدح في أعماقي ويدخلني في أعماق أموج الحزن الذي لا ضفاف له .
لكل جديد له ثورة وبدايات الأشياء هي الأكثر سعادة في عالم الكتابة، لذا لم يكن شعوري عاديا لحظة رؤيتي ما خطته أناملي وجادته قريحتي وأبدعته بنات أفكاري في صفحة شبكة الشاهد الصومالية التي قابلتني بمودة ومحبة لن أنساها،وكان تشجيع الناس وإشادة الأصدقاء إشاراة عابرة وفي بعض الأحيان غامضة،وكان ردّي الوحيد نصف إبتسامة حائرة! لأن كلماتهم بدت وكأنها حكاية مطاطية وثوب يستطيع أن يغطي جميع الأحجام ،وكنت أخشي أن تكون أحلامي بلا سيقان حينما يقول الواقع كلمته.
كانت إطلالتي جميلة بنظري واجتاحتني موجة عارمة من السرور، أعتقد أنها إنتظرتْ وتأخّرتْ من أجل هذا اللحظة التاريخية،وكأني أعزف علي العود في زمن الأسحار وفي داخل سلطنة الطرب والحبور، واجتمعتْ عليّ رقص السامبا وتمايل الجاز والرومبا رغم عدم إلمامي ومعرفتي بهم، فكاد قلبي يخرج من بين ضلوعي، وسمعت خفقانه وكأنه يقرب المسافة بين الحلم والواقع، وشكرت من كان يشجعني حينما كانت حالتي سيمفونية صراع متواصلة.
والكتابة الرفيعة يفوح من ورودها عبق الأمل والحياة ،وإرساء الفضائل ومحاربة الجهل والأفكار الهدّامة، وظلم السنين وكابوس القمع والإستبداد، وهي رقراقة كالجداول الوديعة علي ضفاف الأنهار، ترمي لنا جدائل ضوئها بكل حب وحنان، وذؤابات الشعاع والأمل في الغد الذي يزيل الياس من القلوب، ويهفو لنا المداد، وحفيف الأوراق يعزف علي نبض قلوبنا،وتحن الذكريات إلي صرير القلم في عز الليالي السموق.
تعذبني الغربة بلواعجها وذكرياتها وكابوسها الجاثم علي صدري، فأهرب منها إلي الكتابة التي تشكل  ينبوع حب وحنان للمغترب، ومعينا دافئا وأنيسا يتبادل الغريب معه الأحلام بصوت مسموع.  وليس الأنس والدفء وحده ما يجعل كتابة الغريب مختلفة وذات نكهة خاصة بل كونها تحمل في طّيّاتها أبعاداً إنسانية أعمق، ومن خلالها يقدم التجارب، وينقل العبرة، ويبرز الموهبة ،ويرسم البسمة علي وجوه البسطاء، ويكافح البلادة، بل الكتابة تقوم  للغريب مقام الأهل ،ومكان الأصدقاء، ومنزل إبلهم في مرابعه وفوق تلال الحيّ وربي الوادي، وأشجار حدائقهم في مزرعهم المطلة علي نهر شبيللي، حيث أشجار المانجو والموز تتراقصان ولْهَى من معانقة الجوافة وأشجار الباباي بجانب الخلجان والجسور العتيقة ذات الطراز الصومالي الأصيل في وسط المدن التي يميل لونها بصفرة بفعل الزمن، أو المدن الجميلة ذات المعمار الإيطالي الأنيق والشرفات البارزة.
وعندما يعلو صوت الكتابة في رحلة العمر الطويل، وتقدم للجمهور قصصا يشبه الخيال وذات رقة وطراوة كخيط الأحلام في سهوب الوطن، وتحليلا جذابا للوقائع والأحداث، وتقريرا مفعما بالحقائق والمهنية، ندرك جميعنا عظمة الأقلام وحتمية تغير نمط حياتنا إلي خدمة الشعب وطرق العقول عبر الكتابة.
وأخيرا لستُ في حاجة بعد ذالك أن اذكر لك عزيزي القارئ، أن الكتابة تساهم  وصول المعرفة والثقافة إلي الشعوب والأمم، بل تجعل الكتابة الجيدة المرأ يسافر  مع الكاتب إلي أدغال العالم وجباله العالية وأحراشه المخيفة، والأصقاع الغارقة في جرف الزمان والجغرافيا، إلي هوجل الغابات وقحط الصحراء العتمور وقفر الآكام وعتمة الآجام وقعر الكهوف.

ميناء غَرَعَدْ.. بارقة أمل في وسط الهزائم

  بعد انتهاء معرض مدينة "جالكعيو" للكتاب الذي كان يهدف إلى نشر السلام والمصالحة الشاملة بين القبائل -قبل تعزيز الثقافة والمعرفة- ف...