الاثنين، 23 سبتمبر 2013

جوبالاند بعد الإتفاقية… إشكالية الصراع وأسس السّلام 1-2

شكّلت جوبالاند في الآونة الأخيرة من أكثر المواضيع إثارة للجدل في أوساط الشعب الصومالي لما لها من ثقل جيوأستراتيجي وإقتصادي وإنثربولوجي جعلها محط الأنظار محليا وعالميا، وسرّة الأزمات التي تتجدد كل فترة في الصومال المنكوب.وباتت المنقطة الأكثر أهمية في الساحة  الصومالية بأكملها، حتي وصل صداها إلي المحافل الدولية وأروقة المنظمات الإقليمية والأممية، وفاقت أهمية بعض المرات الحكومة الصومالية الهشة التي تسير كل يوم وبخطى ثابتة نحو المجهول والإفلاس السياسي والعقم الإداري والإفتعال المخزي للأزمات في جميع الميادين.

الفشل السياسي والأمني والزوبعة الإعلامية والخوف من الرجوع في المربع الأول، جعل الحكومة الصومالية فاشلة بكل المقاييس، وشهد بذالك روّادها وأعلي هرمها السياسي والأمني، ووقعت بين التناقض السياسي والتضاد الأخلاقي والإزدواجية في إتخاذ القرارت، وخلق راي عام يوحي أنها تمارس الإقصاء السياسي لبعض الأطراف. إضافة إلي ذالك فشلت في بسط النفوذ وفرض هيبة الدولة حتي علي أحياء مقديشو التي تئن علي وقع العساكر بشتي مسمياتها وانواعها وإنتمآتها ومشاربها ونياشينها، وأخفقت ايضا أن تجد حلا للمشاكل العويصة في الصومال لأنها ترزح تحت معاناة لاتنتهي بسبب ضعف الأداء وإطالة أمد الفوضي في الصومال.

تتميز منطقة جوبا عموما بأراضيها الخصبة وموقعها الحيوي ومواردها الإقتصادية المتنوعة، وكانت محل إلتقاء القبائل الصومالية الذين إنتقلوا إليها من كل الجهات فترة من الفترات بسبب التزوح السياسي أوالطبيعي وباتت لوحة مشرقة للشعب الصومالي،ومن هنا إكتسبت الأهمية وأصبحت فسيفساء جميلا للكيانات القبلية والحركات الفكرية الصومالية الذين حاولو وبكل الطرق السيطرة عليها بحد السنان أو باللسان، ولم تخرج تلك المنطقة هذه المتاهات بدأ من سقوط الحكومة المركزية وحتي كتابة هذه السطور، وخَلق الصراعُ المتواصل في الإقليم إشكاليات كثيرة تتعلق بالحكم والثقافة والهوية بعد نزوح آلاف من المواطنين إلي دول الجوار.


ولم تعرف المنطقة في العقدين الأخيرين طعم الأمن والحياة الكريمة، بل بعد إنهيار الحكومة المركزية الصومالية في بداية التسعينات من القرن المنصرم إحتدم القتال في المنطقة وخاصة كسمايو”جوهرة الصومال” وأستمات الجميع  سيطرتها وامتصاص خيراتها ونهب ثرواتها،فكان الحكم سجالا كما الحرب بدأ من(sal balaar) وواجهتها القبلية العقيد أحمد عمر جيس مرورا بإتلاف(dameeraley) الذي كان مظلة لقبائل الدارود الأخري ضد حكم عمر جيس المستقوى بجنرال عيديد المهوس بحكم الصومال بدون رؤية سياسية، ولم يتفق التحالف في السلطة كما اتفق في الحرب حتي قعت المفاصلة الشهيرة بينهم، وإنتهاء ب(isbahaysiga dooxaad jubba) ووجهته القبلي العقيد بري آدم شري هيرالي الذي حكم كسمايو نهاية التسعينات حتي منتصف العقد الأولي من الألفية الثالثة متحالفا مع بعض القبائل القوية في العاصمة وفي وسط الصومال.وهكذا كان الحكم يتغير بإستمرار بسبب ضعف الأطراف والتكتلات، وإنعدام أسباب الديمومة للإئتلافات التي كانت تنشأ حسب المصلحة بعيدا عن المعايير الأخلاقية والوطنية، وترهق الشعب مزيدا من العنف والصراعات الدامية.

وتختلف إدارة جوبالاند الأخيرة عن جميع الإدارة التي تعاقبت علي المنطقة بأنها الأكثر شمولية وإنصافا للقبائل التي أقصيت من المشاركة الفعالة في الحكم، بمعني كانت السلطات التي تسيطر في المنطقة غالبا تتكون من قبيلة واحدة تهيمن جميع المؤسسات والموارد، وقبيلة مساندة لها علي الأكثر كانت قبائل العاصمة ذات النفوذ الواسع والتسليح الجيد في تلك الفترة، ولم تكن القبائل المحلية تشارك الحكم والسياسة وصياغة القرارات المصيرة للمنطقة بخلاف ما نشاهده اليوم، حيث شاركت جميع القبائل والتكوينات في الحكم الجديد والمؤتمرات التأسيسية وانضوو تحت جلبابه الواسع.

ومما سهل الإتخراط بمنظومة هذا النظام هي أنه مبني علي أساس التقسيمات الإدارية والمحافظات، وليس علي اساس القوة والنفوذ، وكل قبيلة يكون تواجدها في المسرح السياسي والتمثيل حسب مناطقها ومحافظاتها وقاعدتها الشعبية، ومن هنا أعيد الحق إلي أصحابه وأبعدت الأطراف التي كانت تساهم الصراع وتوجه السياسة المحلية بعيدا عن المنطقة، والتي لا تمت أي صلة في الإقليم شعبيا وتاريخيا، والآن كل قبيلة لها تواجد ملحوظ في الإدارة الجديدة، وهذا مما لا يحدث في السنوات الأخيرة.

قبل تشكيل الحكومة الفيدرالية كانت جوبالاند هادئة، ولكن بدأت أصوات المشكلة تتلاحق وبوتيرة سريعة بعد كتابة الدستور الصومالي الذي قسم النفوذ بين الأطراف والمركز، ورضخ إلي مطالب الشعب أخيرا، مما شجع علي الأقاليم المهمشة تاريخيا أو المغيبة في الآونة الأخيرة في المسرح السياسي الصومالي إلي تكوين دول إقليمية تؤثر إيجابا علي حياة الشعب، وتسعي إلي خدمته وتحفظ حياته المعرضة للخطر، وتحارب الجماعات التي لا تحسن سوى الهدم والتدمير والشحن والتحريض!. ولا تعرف بناء الإنسان وتشكيله عقليا ومعرفيا وإعادة صياغته، ليكون إنسانا ناضجا مهيأ لحكومة وطنية تعيد إليه حسه الوطني وهيبة الدولة، بعدما فقد ثقته بالدولة، وكونت لديه قناعة راسخة بأن الفوضي واللادولة التي عاشها في حياته أحسن من دولة لا تحتكم إلي القانون الالهي، ولا تسيّس الناس بسياسة راشدة وعدالة قاصدة ورؤية مسؤلة وعاقلة.

كان الهدؤ المخيم في المنطقة بمثابة السكون الذي يسبق العاصفة، إذ برزت سريعا إلي الساحة خلافات قوية بين الأطراف والمركز، وتحول الهمسات الخفية إلي أصوات مسموعة من هنا وهناك.وبدأت الجهات المشتركة في الدولة وصياغة الدستور تذمرا واضحا من تصرفات الدولة الأحادي والذي قفز كل المواثيق والعهود المبرمة، ووصل التذمر لدرجة أدين للحكومة أنها غيرت بنودا من الدستور الصومالي دون الرجوع إلي الشعب أو إلي المجلس الوطني، ومن الطبيعي في مثل هذه المطبات أن ينتج عنها عدم ثقة سائدة بين الأطراف وتلاسن ومناوشات سياسية وإعلامية وحتي عسكرية. وحاول كل فئة كسب مزيد من النقاط في عالم السياسية والدبلوما سية وفرض حكم الواقع، وهذا ما حدث فعلا في كسمايو التي شهدت موجات من العنف والعنف المضاد وسجالا دام أكثر من سنة، تارة  بين القوات الإفريقية وراس كامبوني من جهة وبين الشباب المجاهدين من جهة أخرى، وتارة بين المليشيات المدعومة من الحكومة المركزية وبين إدارة جوبالاند الوليدة من جهة أخري.

كانت ولادة جوبالند ولادة غير طبيعة و قيصرية بكل ماتحمل هذه الكلمة من معني، وأحاطتها زوابع كثيرة ،واكتنفها غموض في مصيرها ومآلاتها، ومرّت رغم حداثة القضية مخاضا عسيرا لم ينقطع تأثيراته وتبعاته إلي يومنا هذا، مما حدى للعقلاء والناشطين والمجتمع المدني والمنظمات الإقليمية، البحث عن حل آمن يرضي الأطراف قبل أن يتفاقم الموضوع إلي حروب قبلية شاملة، تجهض المحاولات الدولية الخجولة أصلا، لتكوين دولة صومالية تخافظ أمنها الداخلي وحدودها الجغرافية، بعدما أصبحت دولة فاشلة ومرتعا للإرهاب والقراصنة والجماعات المتطرفة حسب رأي المجتمعات الغربية والمنظمات الإفريقية.

وهذا المطلب الأخير كان المحرّك الأول لعدة جولات فشلت بسبب صلابة المواقف وعدم المرونة السياسية والنظرة الشاملة للأشياء وندرة التكتيكات السياسية للمفاوض الصومالي، مما صعّب مهمة الوسيط وجعلها شبه مستحيلة، ولكن وبعد مفاوضات مكوكية ولقاءت متواصلة أكثر من إسبوع إنعقد في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا بين أطراف الصراع )الحكومة الصومالية وإدارة جوبالاند المنتخبة) وبوساطة من المجتمع الدولي ومنظمة “إيغاد” أثمرت الوساطة أخيرا وعمت رياح الفرحة والأمل في أوساط الشعب الصومالي عامة ومواطني جوبالاند المنكوبين خاصة.

وقطعا هو خبر جيد للشعب المنكوب والأبرياء، الذين عاشو تحت وطأة الصراعات العبثيةن والأزمات المختلقة في ظل الكراهية والرصاص التي جعلت الحوار الأسهل في المنطقة رائحة البارود التي تزكم الأنوف، وصوت الراجمات التي تحصد الأرواح، والأمراض التي تفرك البطون والمجاعة التي تلتهم الآلاف، وتجّار الحرب وأثريا الكوارث الذين يلفقون الأكاذيب ويلبسون الأقنعة والنفاق لملئ بطونهم وإشباع غرائزهم وشهوتهم الجامحة للحكم والسلطة والكراسي الوثيرة.

ونظرا لحساسية الموضوع الذي يمكن أن يقود الجميع إلي نهايات غير حميدة وإلي أتون الحروب المهلكة وطريق عام تسعين الميلادية، كان من الملزم أن يكلل النجاح في هذه الجولة التي كانت الأخيرة باسباب كثيرة منطقية وموضوعية منها أن القضية ستأخذ أبعادا كثيرة لدخول لاعبين جدد في الميدان يعقدون الأمور أكثر مما يسهلون، إضافة إلي الإحباطات التي تواجه الوسطاء كلما طال الزمن خاصة في ظل أزمة إقتصادية وسياسية خانقة تعانيه المنطقة.

وأعتقد أن نضجا سياسيا ودبلوماسيا طرأ في أروقة الحكم والهرم السياسي في المركز وفي جوبالاند، ولايخفي علي أحد المياه التي مرت تحت الجسور والعمل الكبير الذي قام به الوسيط الإثيوبي ومن ورائه منظمة إيغاد والإتحاد الإفريقي والمجتمع الدولي لتقريب الأفكار وتذويب الثلوج المتراكمة في الوسط السياسي الصومالي وتذليل العقبات، ومن الواضح ايضا أن الأطراف المتصارعة إتسمت هذه المرة بسبب الضغوطات الحارجية علي قدر كبير من المسؤلية والجدّية ،وساهم هذا النضج السياسي في إنفراج الأزمة بعدما وصل الجميع طريقا مسدودا لتماديهم في إنكار الآخر والرهان علي متغيرات آنية كثوابت لا تزحزح عن مكانها مما جعل السياسة المتبعة في المركز وفي الأطراف سياسة الكيد وركوب خيول العناد الجامحة.

أهمية الحوار والتفاهم لا تأتي من الزمن أو المكان ولا حتي الوسيط أو المواضيع التي يمكن أن يتناقشها الأطراف، بل الأهمية تكمن في كنه الإتفاق الذي قصر المسافة، ووجّه البوصلة من إتجاه الحرب والدمار إلي التفاهم والعمران وإعادة الأمن في منطقة طالما شكلت بؤرة للصراعات الصومالية في العقدين الأخيرين.

لم يكن الحوار يوما بعيد المنال، بل كان سهلا إن وجد الإرادة الحقيقية وكان يحتاج إلي الثقة والإخلاص في العمل والجدية في الحوار والتنازل، وهذا العناصر الأساسية لنجاح الحوار كانت معلقة بعيدا عن المسرح السياسي الصومالي، وهذا دليل قوي علي أن معدل الثقة بين القادة الصوماليين بات صفرا! بينما الشيطنة والتخوين وزرع الفتنة والأفكار المجنونة يرتفع معدلها بعد كل حرب كان من الممكن أن نتفادي عنه، وبعد كل تصريح مسئي يكب أطنانا من الملح في جرح الكرامة النازف قيحا أكثر من العقدين كان التشوية والقتل والعنف عنوانه.

الوساطة الخارجية لا تقل فداحة بكنه الموضوع المعقد والحروب التي تهدم البيوت فوق البسطاء وتحصد أرواح الأبرياء، بل هي تدل علي ما آلت إليه الحالة في الأمة الصومالية وتدق المسمار الأخير لنعش الثقة بيننا، وهو خبر سار للقضية التي كادت أن تعصف الدولة الصومالية الوليدة ،بقدر ما هو خبر سيئّ للدبلوماسية الصومالية الفاشلة التي أخفقت في تسوية الموضوع وحلحلة الصراع داخل بيت الكبير (الصومال) وفي أطر المعروفة للعادات والتقاليد العريقة أو نظام الدولة ودستورها وفي دهاليز السياسة المحلية.

 يمكن أن تكون الإتفاقية تصحيحا لأخطاء فادحة إرتكبت الدولة حين سلكت مسلكا تصادميا مع الإدارة الوليدة الطامعة أن تكون جزأ من الحل وليس جزأ من المشكلة،وجوبالاند في بداية تكوينها كانت ولاتزال جنينا يحتاج للرعاية والإشادة، وشُجيرة تحتاج إلي رعاية والعناية، وكان الحل بسيطا في متناول الحكومة وكان يمكن إحتواء أبعاده في طاولة الحوار وبعدة جلسات صومالية بحتة بعيدا عن وساطة أجنبية وفوهة البندق والمكر والدهاء السياسي والخبث الدبلوماسي وتهييج القبائل وإنكار الآخر.

الفن، الاستبداد والاشتراكية.. وأشياء أخرى!

  بعد يوم غائم أعقب أسابيع من الحرارة والرطوبة الشديدتين؛ كان الليل الكسماوي صافيا وجميلا. الرذاذ الذي بدأ بالتساقط بعد التاسعة مساء ومجالسة...