الثلاثاء، 24 سبتمبر 2013

مشاهد مختارة من 2012 م

يأتي عام ويذهب عام وتمر بنا الأيام والسنون، ويرحل بنا قطار العمر السريع، ويقربنا إلى خريف عمرنا ومشارف آجالنا المحتومة ونهايتنا المترقبة، فحياتنا تشبه قطارا سريعا يجوب البلدان يحث الخطى إلى محطته الأخيرة، أو قارب صغير يشق عباب الماء ليصل إلى مرفئه، وتلك سنة الله في الكون وفي الخلق ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا.

ذهبت سنة وانقضي عام بآلامه وآماله بحلوه ومره وأتراحه وأفراحه، عام مر بنا سريعا كلمح البصر لم نشعر ولم نحس بشهوره المتعددة وأيامه الكثيرة، عام آخر نقص من رصيد عمرنا ونحن في متاهات العنف، وأتون الحرب وفصول الصراعات اللامنتهية، ورحل عنا وما زلنا ننغمس في ملذات الدنيا الفانية ونتعمق في غمراتها المنتهية. عام نتذكر بكل أوقاته و ثوانيه ودقائقه وكأننا أمام صورة مصغرة لتفاصيله وأحداثه!.

عام منحنا لحظات من الزمن الجميل ودقائق لا تتكرر في حياتنا، عزفنا فيها أحلى سيمفونية  في الكون وأعذب ألحان في الوجود، وأهدى إلينا ساعات أضحكنا فيها كثيرا حتى سمع قهقهاتنا المدوية في رحاب العالم الفسيح، وحمل إلينا نفحات من البلسم الشافي، والترياق العليل لجسم الأمة الأجرب، وأدخلنا في نشوة الفرح والفوز، وتراقص الأمل أمامنا وتحققنا أحلامنا العظام وآمالنا الجسام، ووصلنا أهدافنا السامية وغاياتنا الرامية، واجتاحت الابتسامة في جوارحنا بسبب نجاحاتنا الباهرة، عام ررزقنا الله فيه أطفالا كالبراعم نيّري الوجوه طيبى القلوب فوّاحي العطور، عبقهم الأصيل وضحكاتهم البريئة وابتسامتهم الجميلة أنستنا كثيرا عن أوجاع الدنيا ولدغاتها الكثيرة التي أحاطت بنا وبأمتنا.

عام أبكينا كثيرا حتى احمرت أعيننا وتورمت وجناتنا، وترك في نفوسنا آثارا لا نزال نتجرع في كأسها المستعصي على الاندمال، وبدد أحلامنا كثيرا وعبست لنا الدنيا وجهها وأحبطنا وتذمرنا كثيرا بإخفاقاتنا المدوية، عام سقى كأس المنون أحبابا كانوا لهم في القلوب مكانة وفي الحدقات منازل؛ ممن أثروا حياتنا وتركوا بصماتهم الواضحة في قلوبنا، عام فقدنا فيه من قاسمنا معهم فصول الحياة وكانوا كالبدر في حياتنا، وأحلك الليلُ البهيم بفقدهم وعظمة الرزيةَ برحيلهم الأبديّ، ونرجو لقياهم في دار الأبرار.

 كثرت الحوادث المفصلية والتغيرات الكثيرة التي وقعت هذه السنة عالميا ومحليا، ولكن نختار بضع مشاهد  أعتقد أنها الأبرز والأهم في الساحة الصومالية، ولا يعني الصومال هنا الجمهورية الفدرالية الصومالية بخارطتها السياسية وبمعناها المعروف بل أقصد الوطن التاريخي للأمة الصومالية أو الأقاليم الصومالية الخمسة التي تنتمي إليها القومية الصومالية، ولا أضع اعتبارت الحدود الوهمية التي اصطنعها الرجل الأبيض كثير اهتمام، وأعتقد أن المشاهد التي اخترتها ضمن مئآت من المشاهد الأخرى هي التي أثرت الأمة الصومالية سلبا أو إيجابا وحركت المياه الراكدة في مستنقع الصومال.


المشهد الأول:

وسط ركام المعاناة والأخبار التي تجعل الأجفان تجافي الكرى وتجعل الحليم حيرانا لاحت في الأفق بارقة أمل وشعّ ضوء في نهاية النفق المظلم؛ فجدد الآمال في الوجدان ورفع الثقة في القلوب، وبث شعورا دافئا في قلوبنا في لحظة شارف كل واحد منا أن يفقد أمله وضعضع إيمانه وضعفت آماله في إيجاد حكومة صومالية قوية دائمة مستقرة وغير انتقالية مكتملة الأركان والهيئات، تعيد للوطن توازنه وللأمة هيبتها وكرامتها.

من الطبيعي جدا أن تكون الأحلام كبيرة والأماني عالية في هذا الحالة التي أوشكت شمس الظلم أن تغيب، وذكرتنا عز أمتنا، ونغمها الجميل الخالد، وروح التاريخ ورائحته الزكية، ومن الطبيعي أيضا أن يدرك الجميع مدى صدق العواطف التي اجتاحت ضمير الصوماليين في الداخل والخارج، والأحلام الوردية التي تجعل وفي المرة الأولى بعد عقود تجمع جميع أطياف الوطن وقبائله، وجعلها تتحد فوق تربة الوطن يجمعهم الإسلام والنسب والوطن والعَلم والتاريخ والتراث المجيد.

جاءت ريح العافية بعد أن قاربنا الهلاك، والأجواء القاتمة ـ اجتماعيا والملبّدة سياسيا والمتردية معيشياـ عشعشت في الوطن، وسببت لشريحة كبيرة من الأمة أن تفقد بوصلتها، وتاهت في وادى القنوط والإحباط، ومن رحمة الله وفضله في خضم تشاؤمنا وردهات كابوسنا المزعج نفضت الأمة من وسط الأكوام الركامية ومن بين الدماء والدموع والدمار، ورمت رداء الخنوع وعبآءة  الذل والهوان، واتجهت رغم العوائق والعقبات نحو بناء دولة صومالية حديثة، دولة القانون والحكم الرشيد، وقامت أيضا بتوطيد حكم عادل بعيد عن الازدراء وإقصاء الآخر وإجحاف نظام 4.5 القبيح الذي قسم أمتنا وباعد شعبنا وزاد الهوّة بين قبائله وانتمآته.

سعى الجميع  ــ وبنية صادقة ــ إدراك حالتنا، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من وطننا الغالي، وترسيخ مبدأ العدالة  والحياة في داخل وطن يحتوي الجميع، ويسع شتى ألوان الطيف الصومالي، ويعيشون فيه شركاء متساوين لا فرق بينهم إلا بتقوى الله وحب الوطن وحب الخير للأمة، ولكن تجري هذه الخطوات الرائعة بوتيرة متأنية وبقرارات مدروسة وبعقلانية كبيرة في ظل التحديات الجمة والمخاطر والعقبات التي تراكمت مع المخلفات الفكرية والقبلية التي نشأت في ظل الفوضي العارمة، وانعدام دولة تنظم الحياة، وتحمي البلاد، وتنمي في وجداننا الحس الوطني والقومي.

ولكن شكلت بعض السياسات الضبابية للدولة وإثارة الجدل في أمور معظمها هامشية درجة من الإحباط في أوساط الشعب ولم يرق للشعب البط ء الشديد التي اتسمت حركة الحكومة وقلة ديناميكية أجهزتها، وقلّة القرارات التي أخذتها الحكومة لمواجهة العقبات التي أهمها تحرير الوطن من قبضة الحركات المتمردة وطرد بقاياها من الولايات والمحافظات التي لم تحرر بعد، والفقر المدقع التي قوض أركان الدولة والأمة الصومالية، ونخر عظامها، وهزل جسمها. وتردي الأوضاع المعيشية والحياتية، والانخفاض الشديد لمعدل دخل الفرد في الصومال، والفساد المستشري في مؤسسات الدولة، والجهل الذي انتشر في ربوع الوطن كانتشار النار في الهشيم، والأمراض التي يئن لها المواطن الذى لا يجد دولة ترعاه ولا مرافق صحية تستوعب كافة احتياجاته، والانفلات الأمني وكثرة المخاطر وقلة المعين والخطر الدائم والخوف الشديد الذي يعيشه المواطن في ظل مليشيات متعددة الهوى والهوية وتابعة لجهات غير معروفة.

ورغم كل هذه المكدرات لا يخفى على أحد الشوط الملموس الذي قطعته الحكومة نحو دولة ذات سيادة تامة تحمي تراثها من الانقسام والانشطار اللامتناهي، والتنصل من حتمية الانتماء الذي يمارسه البعض، والبؤر السرطانية الذي يراد لها، دولة تحمي رعيتها وتسهر لراحتهم، وتستجيب كافة مطالبهم وتطلعاتهم.

كتابة الدستور الصومال بغض النظر عن الزوبعة الذى أثاره والضبابية الشديدة لبعض بنودة، وخطورة بعض فقراته أو بالأحرى عدم ملاءمتها للشخصية الصومالية وخصوصياتها البعيدة عن العادات المستوردة والقوانين المستمدة من دساتير دول أخرى، والتي تختلف عن الصومال دينيا وفكريا وانتماء وهوية، كان انجازا حقيقيا وجهدا كبيرا سهل كل العقبات التي كانت بإمكانها إعاقة المسيرة المنشودة نحو الخروج من الحالة الانتقالية ومهد الطريق للنظام الجديد.

تشكيل مجلس الشعب ــ بأية طريقة كانت ــ  وانتخاب ريئس للمجلس ونوابه، والذى كان -حقيقة- شخصية كفؤ لهذا المنصب الحساس والمهم في الهرم السيادى للحكومة الصومالية، كانت تلك خطوة تاريخية بكل المقاييس، لقد أعد بوقت وجيز قوائم ولوائح وقوانين للمرشحين وبنود لتنظيم العملية الانتخابية وسيرها بسلاسة وشفافية عالية، وجهز كافة التدابير اللازمة للخروج من المخاض العسير، وإنجاح أول انتخابات حرة يدار بطريقة شرعية قرابة خمسة عقود، لقد قام البروفيسور جوارى ونوابه والطاقم الذى كان معه أعمالا جليلة تخلد اسمهم في الذاكرة بحقب لاحقة مديدة، وتدل تفانيهم للعمل وإخلاصهم للعملية السياسية والخروج من المأزومية التي طالت الصومال أحقيتهم بهذا المنصب الرفيع.

لقد شهدت الانتخابات الرئاسية تنافسا محموما وتسابقا شرسا شارك فيه أولى مراحله أكثر من مائة شخص، في ظل شفافية تامة، وأجواء حرة ونزيهة إلا بعض التجاوزات ـ التي لا تؤثر سير وسلامة العملية الإنتخابية ــ رصدتها بعض المنظمات والمراقبين، وهذا أمر طبيعي ولا تخلو منها معظم الانتخابات لا سيما الدول الفاشلة سياسيا، وأشاد جميع المراقبين والمندوبين بشفافية الانتخابات ونزاهتها.

حيث عرض المرشحون برنامجهم الانتخابي بشكل متحضر وراق أمام البرلمان، ونال كل مرشح حصته العادلة في وسائل الإعلام الحكومية سواء كانت في التلفزيون القومي أو الإذاعة الوطنية لعمل دعاية لبرنامجه الانتخابي، وهذا يدل على مدى جاهزية الشعب الصومالي للخروج الواعي من الأزمات.

خاض الباقون في الانتخابات بعد انسحابات بعض المرشحين من غمار المنافسة الشرسة على كرسي عصي، أريق بسببه دماء زكية، وأزهقت من أجله نفوس برئية وشرد بسببه الملايين الذين فروا من ويلات الحروب، ولجؤا إلى دول الجوار ودول المهجر تداهمهم أخطار كثيرة وعقبات متعددة من الذوبان الثقافي والتحلل الخلقي والتفكك الأسري والضياع.

وبعد جولتين من الانتخابات بقي في المشهد الانتخابي المرشح الرئاسي شريف شيخ حمد الرئيس السابق وحسن شيخ محمود الرئيس الحالي الذي ابتسم له الحظ أخيرا، لم يكن أحد يتوقع أن هذا الناشط المدني والأستاذ الجامعي سيجلس على كرسي الرئاسة في الصومال الملتهب.

رئيس حزب السلام والتنمية، و من مؤسسي معهد سمد الذى أصبح لاحقا جامعة لها مكانتها بين الجامعات الصومالية، لم يكن خيارا انتظره الشعب بل كان شخصية مجهولة نوعا ما لم يسمع عنها كثيرا ـ باستثناء العاصمة التي لمع اسمه فيها ـ إلا أيام الحملة الانتخابية وما صاحبها من دعايات انتخابية وتجمعات جماهيرية ولقاءت صفحية وموائد شهية لكسب الصوت الانتخابي.

من نافلة القول أن أذكر بأنه لم يكن من أبرز المرشحين؛ بل كان الجميع يعتقد أن تكون المنافسة قوية بين شيخ شريف وبين أحد رئيس وزرائه السابقين محمد فرماجو أو عبد الولي جاس لنفوذهم السياسي وتقلدهم مناصب رفيعة في الحكومات المتعاقبة في الصومال، بالإضافة إلى نفودهم القوى عالميا والمحاصصة القبلية في الصومال.

لقد كان الرئيس الحالي شخصية عادية، وأكاديمي لا يتعدى صدى صوته في محيط العاصمة وبعض عواصم الشرق الإفريقية والمنظمات الغير حكومية؛ ولكن بديناميكيته وفعالية حملته الانتخابية وكفآءة طاقمه وقربه لأوساط أعضاء البرلمان، وربما تعاونه وقربه إلى بعض التيارات الإسلامية السياسية الصاعدة في الآونة الإخيرة، وإرادة التغيير في عقلية أعضاء البرلمان حسمت له الموقف.

المشهد الثاني

لقد ابتسمنا في أعماق قلوبنا لحظة وصول الأنباء المفرحة الجميلة، أنباء المفاوضات والتوصل إلى اتفاق يشكل صياغة مستقبل الإقليم بشكل رصين، ويساهم تبني إستراتيجية جديدة للخروج من عنق الزجاجة، حقيقة كانت الإطارات المبدئية المهيأة للتفاوض بشرى سارة للإنسان الصومالي في أوغادين، والشروع في التفاوض والجلوس على المائدة المستديرة كان خبرا انزاح الغم، وقوى الهمة، وأثلج الصدور، وأظهر أمامنا مستقبل باهر، وأمن واستقرار في هذا البقعة الملتهبة من العالم، وهذا الشعب الذي أنهكته الحروب والمجاعة والتخلف وعوّقه الصراعات المبنية على العواطف وعدم الرؤية المستشرفة للمستقبل، وضعف الأساس والتأسيس.

إستبسرتُ بخير ورفعتُ سقف التفاؤل، ومدتُ يدي تضرعا للبارئ أن تكلل المفاوضات التي كانت جارية بين الحكومة الفيدرالية الإثيوبية وبين الجبهة الوطنية لتحرير أوغادين -التي مولتها الدول الغربية المانحة ورعتها كينيا وبواسطة وزراء وبرلمانيين ورجال من أصول صومالية وذوي نفوذ قوي في كينيا- بالنجاح والتفاهم.
كنت آمل أن تكون هذه الجلسات ومضة أمل لمستقبل باهر يعم المنطقة، والطائر الميمون الذي سوف ينهي مآسى سنوات عجاف من الاضطهاد والصراعات اللامنتهية، والحروب التي أبت الانقطاع والضياع الذي عمّ الإقليم الصومالي في إثيوبيا؟
لم أتوقع ــ وهذا ربما تكون قصر نظر مني أو الإفراط في التفاؤل ــ أن تنهار هذه المفاوضات الذي علق الشعب آمالا جساما بهذه السهولة ويغرق الكل بشبر الماء الأولى من وادي القضية ويتنصل الجميع من مسؤلياتهم وحقوق الشعب في ساعة غباء وملئية بالتجاهل والتبله، وفي الوقت الذى تنداح فيه الأزمات على الصومال  الغربي من كل جانب.

أحزنتني فوات هذه الفرصة السانحة وتضييع تلك الأحلام المتألقات التي كانت بإمكانها أن تنهي الأحداث المؤسفة، والانتهاكات التي يعيشها الإنسان الصومالي في أوغادين، لقد بان هذا الانهيار المقصود وتعليق التفاوض المتعمد وتعقيد الملف المفاجئ والسريع أن الأطراف يهمها مصالحها الخاصة ويحركها الدوافع الشخصية، ولا يهمهم في اليوم ولا في الغد الحالة المزرية التي لا تحتمل مزيدا من البارود والقتلى والشرود والفساد والتفكك الأسرى وضياع الحلم والمستقبل للجيل الناشئ.

كل المؤشرات كانت تشير على أن المسألة لم تحضر جيدا، ولم تناقش بشكل مستفيض؛ بل حاول كل طرف كسب مزيدا من النقاط على الخصم، ويبدو أن هناك طبخة على نار هادئة مارستها جهة ثالثة خارجية لإفشال المفاوضات وإجهاض آمال الشعب، ومن الأدلة الواضحة التي تؤكد عدم جدية المسألة، مستوى المفاوضين الذي شاركوا في الجلسات الرسمسة أو الجلسات التمهيدية للطرفان وصياغة بنود التفاوضات، وطريقة النقاش للمسائل المصيرية، ومن العجيب أن المسائل المعقدة التي كانت تحتاج إلى الثقة وكسب الود ومزيدا من الزمن كانت في فاتحة البرامج وصدارت التفاوضات.!

التعامل مع الأزمات والقدرة على تجاوزها كانت مطلوبة وبقوة في هذه المرحلة الحرجة، ولكن قدر الله وما شاء فعل، ولا أستطيع أن أقول أو أذكر الجهة التي أفشلت المفاوضات، لتعقيد الأمور وتشابك خيوطه والتشبث الشديد للطرفان بمبادئهم، وانعدام المرونة في تصرفاتهم، وخلو أجندنهم هامشا للمناورة، ولكن ما أعلمه هو أنها كانت صفعة قوية وجهت لآمال هذا الشعب وأدخلتهم بغياهب مجاهيل المستقبل المظلم من جديد، وتلك كانت من الليالى التي أحزنتنا وتألمنا من أجلها.

المشهد الثالث

المؤتمر الكبير والمهرجان المبدع والحشد لكبير الذى جمع النخبة السياسية والفكرية والأدبية والاجتماعية والإعلامية الصومالية التي شاركت هذا اللقاء، الذي نظمه الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيلي في ذكرى الأربعين لكتابة اللغة الصومالية، وما صاحبها من اللقاءات، والجلسات التي جمعت جهابذة الفن وعمالقة القوافي، مع الرؤساء والمندوبين للمناطق والأقاليم الصومالية التاريخية، والأمسيات الأدبية الرائعة كانت لوحة رائعة وفسيفساء جميل وذكريات من زمن جميل ولّى كتب لنا ان لا يستمر فصوله، وجسدت من جديد وحدة الانتماء والهوية ووحدة الثقافة والتطلعات للإنسان الصومالي الذي مزقته “السايس بيكو” وفرقته الساسة وأقسمته القبيلية إلى جماعات وأفخاذ متناحرة وأبعدته الأطماع الخارجية والصراعات الداخلية عن أحلامه  وطموحاته المشروعة.

المبادرة الطيّبة والوقفة الرجولية للرئيس جيلي جعلته بجدارة واستحقاق الشخصية الأولى للكيان الصومالي وخطف الأضواء وشارة القيادة من كثيرين، من بينهم رئيس حسن محمود الذي يمثل الوريث الشرعي ورئيس الدولة التي أسست وبدأت كتابة اللغة الصومالية وأنفقت ملايين الشلنات؛ لتحقيق حلم الصومالي عبر التاريخ لكتابة لغتنا الجميلة.

ومما يؤسفني ويجدر ذكره هنا  أنه حدث تجاوز وإهمال غير مبرر في ذكر سياق تاريخ كتابة اللغة الصومالية ومراحلها، لقد تجاهل الجميع  ذكر اسم من أصبح الحلم حقيقة ماثلة بين يديه، ومن جيّش الجيوش ونظم القوافل في عهده لإنجاح هذا المشروع الهام، ورغم أني لا أفضل دخول جدل عقيم مع أحد ولا أستعد أن أزكي أحدا أمام الشعب أو التاريخ، إلا أن من باب الإنصاف والعدل كان ذكر الرئس الراحل محمد سياد برى الذي وطد أركان متانة اللغة الصومالية يعتبر ردا للجميل هو وطاقمه الذين سهروا بسبب إنجاح هذا المشروع.

كان يجب ذكر الثورة الهائلة والطفرة النوعية والتحسين الذي أحدثه سياد في التعليم والتربية، وتجاهل التاريخ أو إنكارها بسبب قضايا سياسية أو قبلية أو اجتماعية بعيدة عن الموضوعية والعدالة، من شأنها أن تزيد الهوة بين الواقع والمأمول حسب رأيي، ليس في اللغة فحسب وإنما في كافة جوانب الحياة.

المشهد الرابع

بعد سقوط الحكومة المركزية الصومالية التي كان يخاف ويهاب منها البعيد قبل القريب تنفست كينيا الصعداء، وبدأت تحسين أوضاع الصوماليين في كينيا وخففت عنهم المطاردة والعقاب الجماعي ومصادرة الأراضي وردم الآبار وتسمسم المياه والمواشي، وينعم الصوماليون الكينيون بحياة أحسن من نظرائهم في باقي الأراضي التاريخية للأمة الصومالية، وقد قامت كينيا بهذه الخطوات يقينا من الساسة الكينيين آنذاك أن الخطر انتهي أو قلّت التهديدات على الأقل، بعد انهيار الحكومة المركزية الصومالية وانفراط عقد الوطن والشعب.

لم تكن الأوضاع في كينيا عشية دخولها في المستنقع الصومالي كما يصورها الإعلام الكيني وقادة الرأي والفكر والسياسة في كينيا هادئة، كأنها القرية التي ذكرها الله في كتابه، بل كان الوضع مغاير تماما وملغما من الداخل، وعلى صفيح ساخن، وتفاقمت عليه المشاكل من وضع اقتصادي مترد، وأمني يزداد خطورة يوما بعد يوم،  وفساد رهيب طال جميع المؤسسات، وجريمة متفشية، وامتعاض شديد للشعب من الطبقة النافذة المحتكرة في كل شيء، حتى أصبحت كينيا دولة غنية معدل دخل وزرائها يفوق مئآت الآلاف من الدولارات، وشعب جائع يتضور جوعا في القرى والمدن.

لذا استغربنا الحملة الكينية الأخيرة على الشعب الصومالي سواء في نيروبي الذين أحرقوا وهم أحياء، وصرخوا حتى أكبتهم الموت، أو الشباب والأطفال والنساء الذين قتلو في قاريسا، العلة لهذا التصعيد الأخير كانت محاربة الشباب والحركات الإرهابية، كما تقول الحكومة الكينية، بينما الحقيقة تقول:إنهم ينفذون أجندة وضع خطتها منذ زمن بعيد، ومن المفارقات العجيبة أن المخابرات الكينية وجهات متنفذه في كينيا يقفون وراء الانفجارات والاغتيالات لتحقيق مكاسب سياسية ـ أولاها الانتخابات الوشيكة ـ واقتصادية وإعلامية.


التجاوزات التي قام به الجيش الكيني يجسد مدى تربصهم وتآمرهم لهذا الإقليم، وبالتالي يوضح الحقد الدفين في قلوب القيادة السياسية والعسكرية في كينيا، وأظهرت البربرية والعدوانية التي اتسم بها الجيش الكيني ــ حامي الديارــ! في تعامله مع الشعب الأعزل والأبرياء في قاريسا حاضرة الإقليم، ويوضح اعتداءاتهم فساد العقيدة الوطنية للجيش الكيني وعدم اكتراثه معاناة هذا الشعب، لقد كان الجنود يتلذذون بمعاناة الشعب وتعذيبه وأنينه، وقاموا بأعمال وحشية لا يمكن وصفها في هذه السطور، ولم تكن أقل بشاعة من أعمالهم السابقة ومجازرهم في قاريسا ووجير في أوائل الثمانينيات من القرن المنصرم.

ميناء غَرَعَدْ.. بارقة أمل في وسط الهزائم

  بعد انتهاء معرض مدينة "جالكعيو" للكتاب الذي كان يهدف إلى نشر السلام والمصالحة الشاملة بين القبائل -قبل تعزيز الثقافة والمعرفة- ف...