الثلاثاء، 24 سبتمبر 2013

الحب الممنوع (1)

إلتقينا كإلتقاء النيلين في الخرطوم وفي حفلة عائلية تتسم بالهدوء والرّتابة الشديدين ذهبتُ إليها دون تخطيط وبعد إلحاح من أحد أعز أصدقائي الذي ظل السلوي والملاذ خلال السنوات الغربة القاتلة، قصدنا ناحية بيت نائي يقع في الضاحية الشرقية من المدينة ضمن الحي المعروف بحي الأثرياء الذي يقطنه الأغنياء أصحاب المليارات، وتدركك الأجواء المحيطة بك من الفخامة والأبراج العاجية والأشجار المنظمة والهدوء المطبق الذي لا نسمع فيه إلا زقزقة العصافير وخرير المياه مدى الفرق بينهم وبين الطبقات الكادحة المنتشرة في عشوائيات المدن الكبيرة والأكواخ المتناثرة في الأحياء الفقيرة.
وبعد رحلة إستقرت بنصف ساعة تقريبا وصلنا إلي البيت ومن المفارقة العجيبة أنه لم يكن ذاك البيت الذي كنت أتصوره في مخيلتي بمثل هذه الأحياء الراقية التي لم أزرها في حياتي بل كنت أسمع عنها حكايات غريبة وأحاديث شيّقة ومثيرة تجذب النفوس وكأنها المدينة الفاضلة التي تحدّث عنها الفيلسوف الإغريقي أفلاطون بكتابه، ذاك التأليف الفلسفي الذي لا وجود له في أرض الواقع بل يجسد أمنيات فيلسوف وحياة مثالية للعباقرة ومدينة يعيشها الإنسان أروع الحياة وأزهي المعيشة ويحكمها الفيلسوف بقوانينه المنطقية.
بل عكس ما كنت أتوقع كان بيتا تبدو عليه أصداء السنين وأنين الزمان وندبات العمر المديد واضحة علي جدرانه الإسمنتي الذي تشوهته التصدعات الكثيرة، ولكن وبعد عدة خطوات إلي ناحية الردهة الكبيرة يقع ممر صغير يفضي بك إلي قصر منيف تبهرك جماله وتسحرك أناقته ولا يقل جمالا عن القصور التاريخية التي قرأتُ حكاياتهم في بطون كتب التاريخ والحضارات، وبمجرد إقترابك إليه تجتذبك صورته والهندسة الرائعة التي صممت بشرفاته وأركانه الرخامية وبلاطه الذهبي المشوب بالحمرة والبرك السباحية الزرقاء اللون التي تربض بجانبها تمثال أسد عظيم ومذهل مصنوع من الكوارتز الأبيض وقطع رائعة من البازلت الفاحم مما كسى التمثال هالة رائعة ومنظر خلّاب يجبرك أن تقف أمامه مشدوها بروعة المنظر وجميل الصنعة.
وتجري في بهو القصر الفسيح المتعدد الطوابق والصالات تجمعات جانبية ولقاآت ثنائية وأفراح عائلية جميلة ومتنوعة لا يخلوا منها الرقص علي وقع الأنغام والموائد الشهية والليالي الملاحية القرمزية والمسآت المطرزة بالموسيقي الصومالية الشجية.
كان لقاؤنا عاديا لم يترك أي اثر في نفسي وطواه النسيان بتفاصيله كما طوي بملايين الأحداث التي مرت عليّ ولكن كان المقادير الحكيمة في تحركات لربط حياتين ومزج روحيين وإتحاد نفسين بلون نادر وساحر من الوان الإتحاد، لم يخطر في بالي ولم يتبادر إلي ذهني أننا سنجتمع أكثر من لقائنا الإعتيادي في حرم الجامعة أوالقاعات الدراسية أوهذا اللقاء العابر الذي جمعنا في ردهات ذلك البيت وفوق موائد الثرثرة والجلسسات الشبابية فوق الرمال الحريرية والحصير الذهبية أوالمقاعد الوديعة في هذا المناسبة الإجتماعية البهيج.
انطباعاتي الأولي تجاهها لم تكن سيئة ولم تكن جيدة علي الإطلاق أو لنقل ــ لكي لا نطلق الكلام علي عواهنه ولا نظلم أحدا بأحكامنا الخاصة بنا ومن الممكن أن تكون جائرة في بعض الأحيان ــ لم ترتقي إلي معاييري الخاصة ورغم أنها كانت تبدو متفتحة في تعاملها ومتعاونة للجميع ومثقفة في تعاملها وتصرفاتها وجميلة للغاية بمظهرها، وجذابة آسرت القلوب وأبهرت العيون، ومن شيمها المعتادة منها والتي يعرف عنها القاصي والداني أنها تفرض إحترامها علي الجميع ويشعر كل شخص بوجودها لخفة دمها وتهذيب كلامها وقامتها الهيفاء الرشيقة وسحر نبرات صوتها المتأثر بلغات لا أعرف عنها إلا التحية والجمل النابئة وفوق كل هذا فهي شعلة من النشاط ومخلصة من الدرجة الأولي تضفي المرح والإلفة في الأجواء العكرة.
وهي التي وصفها الاعشى بقوله:
غراء فرعـاء مصقول عوارضهـا *** تمشي الهوينا كما يمشي الوجى الوحل
كــأن مشــيتـهـا من بـيـت جارتهـا *** مـــرّ السحـابــة لاريــت ولا عــجــــل
لــــيســـتْ كمــنْ يـــكـره الجـــيـرانُ طلعتها***ولا تـراها لسرّ الجارِ تخــتــتــــل
يكـاد يصـرعـهـا لــولا تشــددهـــا *** إذا تقـــوم إلـــى جــاراتهـــا الـكســـــل
ولكن ــ ولا أستبعد أن يشاركه غيري من الرجال ــ فأنا لا أحب جمال المادة ولا يغريني العيون الدعج ولا الحواجب المقوسة ولا عذوبة الكلام ولكن أحب العبقرية المتلألئة والحياء الأصلي وأنا مولع من البنات أخجلهنّ التي قلما تتصدر في المجالس وتتجايسر إفتتاح الكلام ،ويعجبني الحياء والخوف النسوي وأحبُ الفتاة التي لا تحب إختلاط الجلسات النسائية الصاخبة التي في معظمها لا تخلوا من نهش جسد أو نقل خبر بغرض الإفساد والنميمة.
وهذا لا يعني إطلاقا أنني أفضل العييّة الجبانة والجاهلية الخرقاء ، أبدا فأنا بعيد كل البعد عن هذه الصفات التي تنقص قيمة المرء وتحط كرامته، ومن فسر كلامي بهذا المحمل فقد أبعد النجعة وفارق الصواب ولم يزل يتخبط في ظلمات خياله وتيه ضميره، ولكن الهدوء هو الصفة المحببة إليّ والتروّى والتأني والحياء يعجبني كثيرا، وخاصة في الجنس الناعم اللآئي كل خطوة في حياتهن تكون وبالا وندامة عليهن إذا كانت خطوة طائشة غير متّزنة ومضمونة العواقب.
ومن عادتي أنني أحب الحرية وأكره الخنوع وأعشق العزلة ولا أحب أن تكون حياتي شأنا يخصّ غيري ولا أشكوا عن الملل في حياتي لذا أتسآل ماذا يقصد "خليل جبران" بقوله (المحبة لا تعرف عمقها إلا ساعة الفراق) وأنا أستمتع بوقتي ولا أشعر بندم ولا محبة بعد الفراق، أم أن في آخر الليل وعندما تهب النّسآئم المحمّلة بعبق الحب ونشوة العشق نحتاج إلي ضحكات بأسنان مثل اللؤلؤ تثير البهجة في نفوسنا ونظرات عاطفية بعيون المها نستأنس إليهن وأيادي لطيفة تنسينا هموم الحياة ولمسات حانية تجبر قلوبنا الكسيرة وإبتسامات رقيقة تلطّف المزاج وهمسات قشعريرية تدخل النفس الفرحة والمسرّة.؟
لم تكن معرفتي لها أكثر من بعض اللقآءت في أروقة الجامعة ولم تكن معرفة تامة بمعني الكلمة وربما لا ترتقي إلي المعرفة بمعناها المعروف ناهيك عن الحب بل كانت معرفة سطحية لا تتعدي رؤيتها في حرم الجامعة وعرفت أنها من أسرة غنية من ملامحها وتصرفاتها وسيارتها الكثيرة التي تغيرها بإستمرار وتودد الناس إليها حتي أساتذة الجامعة يولونها إحتراما كبيرا ولها مكانة خاصة عندهم لنفوذ والدها الكبير وسمعته الطيبة وإسمه اللامع في دنيا البورصات والغرف التجارية والبنوك الوطنية وسائر نواحي الإقتصاد في داخل الوطن وخارجه.
نشأت مريم في كنف هذا الأسرة العريقة ذات المنزلة الرفيعة والسيادة في المجتمع والمعروفة بالثراء الفاحش والجاه ولعبها دورا هاما ومحوريا في الحياة، والتي لها مكانتها المرموقة في السلم الحياتي للمجتمع، ولا تخطئها العين أعمالهم وبصماتهم الواضحة في تركيبة المجتمع وتعمير المدن.
نشأت مريم في هذا الجو كما تنشأ الزهرة علي شاطئ الغدير وأدّبها أبوها وثقّفها فأحسن تأديبها وتثقيفها ونما في عقلها إنتمائها إلي الصفوة والطبقة العليا وإبتعادها عن الطبقات الأدني منها، إذن ليس من السهل من نشأ في هذا الجو أن يخالط الشرائح المتنوعة من المجتمع ناهيك عن معرفة وثيقة والجلوس معهم، ولا يمكن أن تنخرط في العامة وبالتالي يجب أن يكون قلوب فتيات هذا الشريحة من المجتمع نقيا مغلقا وحصنا بعيد المنال وخاصة في هذا الزمان الذي كثر عليه التحايل والإرتداء بأقنعة مزيّفة للوصول إلي قلوبهن والتستر علي الحب والزواج المصلحي لجمع الثروة وكسب الشهرة كما يرددها الأغنياء ويتواصون به علي بناتهم.
في صبيحة يوم غائم شتائي مشوب برذاذ مطر وعند خروجي من البوابة الرئيسة للجامعة سمعت دبدبة أحد من ورائى يهز الأرض لشدت إسراعه كأن شرطيا يجري ورائه لزجه في خلف القضبان، وما إن إلتفت إليه حتي وقعت عيني بفتاة مثل طلعة القمر ومثل الكواكب حسناء الوجه رزينة الخلق كامل الخلقة، بدا وجها وكأني أعرفه وملامحها ليس جديدا عليّ، ولكن لفرط الدهشة أو أني لم أتوقع أن تكون مريم تقصد إليّ أوتعرفني فضلا عن التعلق أو معرفة إسمي وأحوالي الخاصة لم أتذكر بسرعة ذلك الوجه المألوف ولم تستحضر ذاكرتي الحفلة التي جمعتنا قبل إسبوع ولا الدراسة التي طالما جمعتنا معا في القاعات العامة أيام الحفلات والسمنارات والمناسبات الوطنية، ولكن وتطييبا لخاطرها والتعاطف معها وعدم إحراجها تصنعت بإبتسامات صفراء وأبديت وكأني أعرفها.
وبعد التحية والإبتسامات البرتوكولية تفرقنا بعد أن تعارفنا عن كثب وجمَعنا أول لقاء خاص بيننا وتبادلنا أرقام الهواتف ليسهل الإتصال ولنبدأ فصول حياة جديدة لم يخطر في بالي نسجها القدر في الخفاء، وذهب كل منا علي وجهته ولكن أعجبت هذه المرة بحصافة عقلها ولطيف معاملتها وأدبها الجم واحترامها وإصغائها للآحر من خلال إستماعها الجيد وكلماتها وبشاشة وجهها.
وبعد منتصف الليل بدقائق وأنا مستلقي في سريري وبدأت قرآة كتاب من المقررات الدراسية الخاصة بي رنّ جرس هاتفي فإذا بصوت لم يتضح لي نبراته يتنكّر ببحّة مصطنعة وكأنها طلعة إستطلاعية للتأكد أن الهاتف في حوزتي وأنها في مأمن، وبعد برهة تغير الصوت فاتضح لي مما لا يترك مجالا للشك أن صاحبة الصوت هي مريم ليس إلا وهمست في اذنها عبر التلفون أنني وحيد ليس في الغرفة فحسب بل في العاطفة والحب ، وقبل أن أقول بكلمة سوى ردّ التحية والهمسة الحانية كنت معرضا لثرثرة نسوية تقليدية أجبرتني أن يكون جل كلامي نعم وهزّ الرأس بالموافقة، ودون إبداء رأيى سوى الموافقة وبعض الكلمات التي لا أتذكرها لكثرة المواضيع التي فتحت في ظرف بسيط كان الخط قد إنقطع بدون مقدمات ووضعت الجوّال بجانبي أنتظر كَرّة أخري ولكن بدون جدوى، وخلدت إلي النوم أو بالأحرى إلي وادي الأسئلة المحيّر والإفتراضات العقيمة.
ومن هذا الليل بدأت حياتي تتغير وأعترف أنني وقعت بشئ لم يتضح خطوطه بعد هل يكون مثل الإعجاب الذي طالما إعتراني؟ أم هو الحب الحقيقي الذي انتظرته؟ ولكن تمنيت في قرار نفسي أن يكون هذه المرة حبا ليس بحرص مني علي مريم وثروتها وشهرتها المدوّية بل أن تكون حياتي القاسية روضة وارفة الظلال أتنسم بعبق هوائها مع من أحب وانتظرته طويلا، نمت بوقع هذا الإحساس الجميل والتمنيات الرائعة والبسمة التي لا تفارق في محيّاي ولذة الحب تتوغل داخل قلاع قلبي المنيعة فتحتل قلعة بعد أخري بلا مقاومة وتغرس في صحراء قلبي المجدب بذور الحب والحياة.
لم تكن مريم أحسن حظ مني بل كانت مسرحا لشعور غريب وإحساس عجيب داهمها عن خلسة لا تعرف له معني فهي شاردة اللب حزينة إذا انقطع عنها خبري ومسرورة تملأها الفرحة إذا اكتحلت عينيها برؤيتي! وقد أدركتْ لتشاورها عن خبراء الحب وأساطين العشق أوباستعانة تجاربها القديمة أن داءها عضال ودوائه عسير وطبيبها واحد،! ما هذه الجامحة التي جرفتني وعبثت بي كما تعبث الرياح بأوراق الشجر؟ وما هذا الطارئ المفاجئ الذي دخل قلبي بلا استئذان فاستبدّ بكل ما فيه؟ ما هذا الشئ الذي يزدادني بشكل غريب وفي كل يوم!؟ أهذا هو الحب؟!
عزمت مريم أن تخفف نفسها الحمل الثقيل وحاولت مرّات أن تبوح لي ما يجول في خاطرها لكي تستريح مما داهمها عن خفاء وهاجمها في غفلة وغرس في قلبها الشوق والحب، ولكن كيف؟ وأنّى لها ذلك؟! فالمحيط والبئية هما اللذان يمليان علي الإنسان قوانينهما وتجبره علي سلوكيات وأخلاق معينة، والإنسان إبن بيئته والمجتمعات الشرقية المحافظة من الوقاحة والسذاجة أن تبوح البنت بالحب مهما هشم عظامها وأحرق قلبها ومهما يكن سطوتة قوية لا يمكن أن تتجرأ البنات إظهار العواطف ،فالعواطف ستبقى مخبأة بين جدران قلبها ويكون في طيّ الكتمان وفي غياهيب الظلام.
وفي مساء هادئ جلست مريم كعادتها إلي جانب شرفتها المطلة علي الشارع ذاهلة واجمة تراقب أمواج السيارات التي تتهادى فوق الشارع والمارة التي ملأت أرصفته وزغاريد البلبل في حديقة بيتهم يزيد شجنها ويبث الشوق والحنين في قلبها بسبب الحبيب الغائب، كانت تفكر أقصر طرق وأيسر وسيلة لملاقاتي دون أن تخطرني مسبقا حتي لا أعتذر أو أتغيّب عن المكان لكثرة العمل أو خوفي من هذه التجربة.

ميناء غَرَعَدْ.. بارقة أمل في وسط الهزائم

  بعد انتهاء معرض مدينة "جالكعيو" للكتاب الذي كان يهدف إلى نشر السلام والمصالحة الشاملة بين القبائل -قبل تعزيز الثقافة والمعرفة- ف...