الثلاثاء، 24 سبتمبر 2013

العيد والغربة

 العيد والغربة كلمتان لا ينسجمان أبدا بل يتنافران كأقطاب إلكترونية متشابهة مركونان بتناقض مقصود وبشحنات مختلفة علي أعماق الإنسان مما يصعب علي الإدراك أن يوحدهما وعلي الحلق أن يجمعهما كمفردات كلامية بلا عناء أو غصة وأن يسكبهما في قالب الصوت بانسيابية تامة ودون تعرجات للحنجرة ووخز في الضمير وجراحات في القلوب المنهكة وزفيرات ساخنة تتصاعد إلي عنان السماء لتلتحم سحب الأنين وغيوم الشكوى الممطرة بقطرات الحنين وزخات الشوق السرمدي.

للعيد أفراح جماعية تدخل الجميع إلي كنف الموجات الحبورية وذبذبات من النشوى الأصيلة ومسرات لا تنتهي إلا بإنتهاء المدة المرسومة للأعياد.ولها أيضا رونقا زاهيا وأشكالا جميلة في نفوس من يتمتع بوطنه ويردد التهليل والتكبير بين جموع أهله كقوس القزح اللامعة في صفحة السماء أو كترانيم عشق في سطور الأسفار وتراتيل حب نقشت في الذاكرة ترسبات جمالية لا يمكن أن يعروها دجى النسيان أو أن يصلها الزوائل الطبيعية. بل يصعب علي النفس تشبيه العيد إلا كقمرية علي ضفاف شبيللي تشدو بالحان وترية تطبع علي الجبين إبتسامة عريضة وعلي الأركان رضى تنعكسها الضحكات المجلجلة والقهقهات الصباحية في هدأة السحر وقبيل الصلاة وكأن صوت الضحك الممزوج بزغاريد النسوان وصرير الرياح والرعد الهادر من بعيد كمعزوفة عثمانية أو أوبرا رومانية في غابر الأزمان تعرض في صالة منمقة يزينها النصوص الأدبية ذات الإطلالة الرومانسية والإيحآت العشقية المزركشة في الجدران وعلي أعتاب القلوب الزلهانة.

أماعيد الغريب فتختفي معنوياتها بين قدسية الزمان ووجع المكان ولها آهات موجعة وأنين يصدح من أعماق المشاعر يؤثر المقل فينهمر الدموع بلا إرادة وبلا وعي!ويسبب للإنسان حسرات لا تنقطع إلا بعد المعانقات الحارة لتربة الوطن وإستنشاق هوائه الطلق والنسمات العليلة التي تهب من سواحله ومن مرتفعاته الممتدة.


لافرق بين أيام العيد الباسمة وأيام السنة العادية في أرض الغربة فمظاهر العيد فارغة من محتواها ولم يبق فيها إلا التكبير والتهليل وصلاة نصليها علي عجل ونحن نفكر مابعدها من التشنجات العصبية وعدم تبادل التبريكات والتحايا المنتظرة بعد إنقضاء الصلاة. والعيد في الغربة تقبلك بلاعنوان وتدبر بلا تأثير كضيف هزيل! زائغة النظرات شاحبة الأجسام ومتناثرة الشعاع باهتة الضوء متشتة البريق وتومض في الأفق البعيد خافتة كقناديل هزيلة تتوسط بين مباني مهجورة وتتدلي تحت السقف المهترئ.
تشابه الغربة في تفاصيلها وتتقارب حفيفها رغم إختلاف أنوعها ما بين من إختار الغربة والمنافي السرمدية كحل لقضايا حساسة أبت أن تحل في عقر الديار وفي مرابع القوم ومن طوحت به طوائح الزمن بصهوة جواد الغربة الجامح،ولكن الإنسان مهما عاش في الغربة والمنافي مختارا أو مكرها فجبلة حب الوطن الأزلية وجنين عشق الأهل المكبوت في وجدانه يحركان ذرات الحب في الذاكره ويبعثان حب الوطن في الوجدان، وحينما يقلب النظر في الغربة لا يري إلا سياجها المكهرب وعادتها المكبلة وقوانينيها المجحفة ولا يسمع إلا صوت أنفاسه المتقطعة وأزيز ضميره المغلي كالمرجل وضربات قلبه المتسارعة في عتمة الظلام وفي هدؤها المطبق مما يطبع في القلب عدم الإحتفال للأعياد والمواسم الجميلة رغم روحانية الأجواء.

ولا أدري لماذا في الهزيع الأخير من ليل العيد وحين الناس ينغمسون في فرحتها تجتاحني نوبات من الحنين المفاجئ إلي بلادى والصلاة في الجوامع الشامخة في بلدي ولا أعرف لماذا يتقاذف بي الأمواج المتلاطمة ويعصف بي موجات ذات ذبذبات طولية من الشوق الجارف لمهد العراقة والشموخ وحدائق الموز المخضرة علي مدار السنة وأرض البخور والعطور ومنبت الأصالة والتاريخ ورغوة حليب ناقتنا الشقحاء وهضابنا الملئية بشجيرات الأبنوس والطلح وأشجار الصنوبر والمانغو الجميلة.!
ولكن الغربة والنوي دائما مؤلمان كما الخيبات التي تترك علي الإنسان جروحا نفسية لا تندمل وكدمات معيشية تتشكل علي جبين حياته نتؤات بارزة لا ينتهي ألمها وخاصة في ايام الأعياد والأفراح الجماعية التي نحتاج فيها إلي اشخاص يشاركون معنا الإبتسامة والفرحة ويدخل السرو في اعماقنا. ومع الأسف لانجد في متاهات الغربة وفي خضم تيهنا الموغل في عمقها وفي داخل سراديبها المخيف سوى ضحكاتنا الهستيرية التي تعلو علي محيانا بلاعنوان وحياة عنوانها التذمر ومشحونة بذات الروح من الألم وتراجيديا سوداء كالحة كمالظلمة التي يتخبط الإنسان فيها من شدة الديجور التي لا يري إلا بقع حمراء وبيضاء مرسومة في ذاكرته قد تكون رسومات هلامية خادعة للوحة الحياة الباهتة في الغربة.

وللغربة آهات وأشجان متأصلة في أعماق الإنسان ولوعات مجتمعة تجعل حياة الإنسان مجموعة من الكلمات بلا وطن تحملها رماد الذكريات وعواصف الأمل المتجددة في عقل البشر ويحفزها بريق لامع في نهاية النفق المظلم ويجملها روعة الإياب وجمالية الحياة التي نترقبها قريبا هناك في حضن الوطن، حيث التاريخ والجغرافيا تحتفي بقدوم الشخص وأزقات الحارة الوفية التي لم تنسي جريه وراء الجلد المنفوخ في عز الظهيرة أو اللعب فوق رمالها، ولم تشطب الزمن ذاكرة شوارع المدينة آثار الأقدام والهذيان الطفولي فوق ترابها الحمراء كالدماء الزكية التي يراق به صباح مساء، ولم يتبدل سواحل المدينة وشواطئها النظيفة بل مكثا علي عهدهما وباتا رمزا وعلما جميلا رغم إلتصاقهما بألقاب السوء واستيلاء قراصنة شيطنها العالم ويمثلون لنا خفر للسواحل علي مياهنا الزرقاء الصافية.

ومها تكن الغربة جميلة أو نجد فيها ما افتقدنا في بلدنا الأصلى لا يوجد أحسن من أن يشعر المرأ أنه عضو أصيل لمجتمع جميل أرجواني كجمال طبعه وأصيل كاصالة حضارته، وهذا مما لانجدها في الغربة بل كما السجين يحمل المرأ أرقاما والقابا طوباوية فضفاضة تحمل أكثر من معني ولا تؤدي إلي مفهوم غير الحزن والحنين والتعمق بمرارة الترحال والتنقل، لا أحد هنا يهتم بك ولا يوجد شعب تنتمي إليه وتلوذ به ايام الغربة ووحشتها القاتلة فمدن المنافي حركاتها قليلة وأيامها كثيرة وأعمالها روتينية مملة وساعات الصفاء لا تتكرر ودقائق الجمال لا تدوم وأيام السعادة فيها مثل الربيع من أقصر أيام العمر وأنضرها، ولا نستطيع مواصلة مسيرة الحياة لو لم نجد روافدا من الأمل تغذي نهر الحياة المهدد بالجفاف بسبب التمادي في سحيق الغربة ولزوم عصي الترحال وما يصاحبها من الشوق إلي جموع الشعب رغم إختلاف مناطقه وتباين توجهاته السياسية والفكرية وقطع الإستعمار أوصاله سياسيا رغم فشله في قطع التواصل والحب والوفاء والوحدة الوجدانية الأبدية في ضمير الشعب المؤمن بعدالة قضيته وقدسية وخدته رغم العوائق .

العيد شجن تشدوا به الكنارى ليالي العيد بأحلي شجن في قلب الضائع بين ذكريات الوطن الآسرة وواقع العيد الجاثم علي صدور الغرباء ولهفة شوق التي تحدوا بنا إلي مرابع من جعلناهم ملحا لحياتنا. والعيد في الغربة شديدة الوقع عظيمة الأثر وقد اشتكي منها الأولون كما تذمر بشبحها اللاحقون ومن أروع ما قيل في هذا دالية إمبراطور الشعراء مالئ الدنيا وشاغل الناس “المتنبي” حين أحرق الجوى أحشاءه وأكتوى القلب نار الفرقة فاستهل بقصيدته أبيات خالدة معبأة بهمسات موجعة كملدوغ سهد عن النوم ولا يخلوها لمسات إنسانية رقيقة ومعبأة بمشاعر حالمة علي حفاف الغربة الكئيبة:
عيد بأي حال عدت يا عيد *** بما مضي أم لأمر فيك تجديد.
أما الأحبة فالبيداء دونهم *** فليت بيدا دونها بيد.

في الغربة تفتقد العيد زخمها وتختفي في جنح الألم معالم العيد وضجيج الأطفال وضحكات الغواني وليالي السمر مع رفقاء الحي وزملاء الحياة، وتذوب المعاني في حرارة الغربة القاتلة وتتساقط المشاعر في أعتاب خريفها الرمادي فتتحول من عيد عنوانها البهجة إلي عيد بنكهة الأسى والحرمان بلا طعم ولا يزدانها صخب البراعم ودفء الوطن وتوزيع الإبتسامة قبل الحلوى والدعاء قبل التجمعات المفعمة بعبق الوطن وأنس الأسر وأحضان الشعب.

الغربة تحاول إغتيال الأمل في سحيق القلب وتبديد الحلم في رحم الغيب! ولكن العزاء الوحيد هو أن الذكريات لا تحدها الحدود بل طلقة ترفرف أجنحتها كزرائب الطيور التي تهاجر من الروابي والهضاب إلي السهول والوديان والتي لا يستطيع أحد إعاقة حركتها سوى أن يراقب ويستمتع بألوانها الزاهية، وكذالك الذكريات الجميلة هي شريط يخفف عنا لوعة القربة ونطالع في صفحاته الناصعة حالة الوطن ومعيشة الناس كطيف مر أمام العيون كلمح البصر، وأن مهما تسللت الغربة خلسة بين طيات الخلايا وخلجات النوايا وتسعي أن يفيض الضمير مشاعر موحشة كحلبة الصراع أو كمسرح القتال ومهما تباعدت المسافات الجغرافية بين الجسم وأمتداد أرضه واطلال شعبه فإن حب الأرض وعشق التراب والمواطنين باقي مادام في الجسم قلب ينبض ونفس يتردد

ميناء غَرَعَدْ.. بارقة أمل في وسط الهزائم

  بعد انتهاء معرض مدينة "جالكعيو" للكتاب الذي كان يهدف إلى نشر السلام والمصالحة الشاملة بين القبائل -قبل تعزيز الثقافة والمعرفة- ف...