الثلاثاء، 24 سبتمبر 2013

عاشق الليل!

يقال "من رضي عن شئ تنعم به ومن سخط علي شئ تعذب به"
كلمات رائعة وتعبير رنان يهز الجسد لصدقه ويطرب الوجدان لحقيقته و يحمل بين سطوره صدق الحروف وحقيقية المعاني إذ تكمن سعادتنا مما نعشق وتورطنا في حبائله عن طيب خاطر، وإنطلاقا من هذه القاعدة أقول أنا ممن يطفح علي وجه السرور بمجرد أن تغيب الشمس ويرسم الليل في الشفق حمرة قرمزية كساقية بيزنطية متبرجة تجبر الغريب الي النظر في تضاريس جسمها ونعومة جسدها أو كنجلاء رومية في بلاط ملكها بلا خوف ولا وجل.

ومع أن الليل أجمع ثنائيات المتناقضة في ساعاته المتشابهة كالمسرات والأحزان ونار الهجرة وحبور الوصال إلا أني أعشق الليل وأستمتع التبحر بسحيق ظلماته والقطوف من بستان جمائله لأنه برفقه ووده ونسماته الفواحة يشكل نسخة متطابقة لمن أكنّ لهم محبة الصبا ويحدوني الود الصحيح والخواطر المهيجة أن أرخى عنان القلم وأسكب مداده عرفانا لإخلاصهم وتغاضيهم عن الصغائر وإتحافهم لنا حبهم الغامر وصبرهم الجميل.

يقبل الليل بوجه أسمر خلاب يذكرني وجوه الأحبة وكيف مزق البين شملنا فتحزنني فراق تلك الأيام المتألقات وينثر في رحاب العالم سبل الراحة وإبتسامة رقيقة لا يملها الأنيس ولا يكل عنها الجليس تفوق رقة وبهاء قهقهة المساء الحزين والضحكة الصفراء للظهيرة.



ولليل سواد عجيب وسكون رهيب وسبات عميق يتنعم به إلا من يشكل الليل ضيفا ثقيلا عليه ومن أبعده المرض طول الرقاد ولذة الكري،كما أنه رفيق من أبعده النوي في مرابع اهله ولازم عصي الترحال ومن بات الأنين يقطع أوتار فلبه.
وإذا كان للأفراح مواسم وللأتراح مواقيت فالليل يجمع بينهما ويؤثر واقعنا ويدخل في تفاصيل حياتنا وفي خضم معاناتنا وفي صميم افراحنا ومسراتنا لأنه يخفي العبرات التي تسيل علي الخدود كشلالات لا تنقطع تغذيه الهجر والجفاء والغدر البشري المائل إلي الدنيا البراقة واللقمة السائغة والجمال الفاتن ربما!.

وما أجمل الليل في قلب من اكتوى نار الغربة لأنه يسامر الثريا ويتفرج ضوء نجومها وهذا يعتبر تسلية من رمته الحياة الي هامشها ومن دأب العيش في رصيف الحرمان وفي أتون التجول لأنه علي الأقل يوفر له قناعا طبيعيا يحجب العين من ملاحظة مآسيه وتقلل الشماتة.

وفي الليل يرنو الحبيب بمعانقة الحب ليفوح منهما عبير الوصال ولينعما سويا في رحاب العشق السرمدي لأنه لاشئ اسوأ من حياة بلا أنيس وشوق بلا يد حانية تمسح الدموع علي الوجنات وتزين الحياة وتبث في الذكرة ذكريات جميلة تهمس في الأذن دفء الوتر وجمالية الإحساس وتلهب الحشى لوعة كالجمر لافح وإحساس جامح كالحصان العربي الأصيل في غمرة الوغي وحين حمي الوطيس.

يسود الظلام وينتحر الضياء ويخيم علي الحياة صمت غريب كصمت القبور وهدؤ مطبق لا يسمع فيه سوي نباح الكلاب في الأزقات وأزيز اللواري القادمة في الريف الشمالي وحفيف الأوراق وربما زغردة الكناري في سحيق الظلام، ويجتاح الشوق صفحة الحياة ويحملنا الليل نغم الشجن الصافي وآهات السنين وعندما يسدل الليل أستاره ويبعث مكامن الحب في متاريس القلوب أشتاق إلي الأحبةـ ملح الحياة ـ وأتذكر أغلي الأشياء وليالي السمر والأنس تحت ضوء القمر وفي كنف الحب وأحضان الشوق فيطير الوسن عن المقلتين وأجلس علي حافة السرير مطأطا الرأس كقطا حزين وكمومياء مرهقة ومركونة برفق ولين فوق لوحة خشبية نادرة مزركشة بحروف من ذهب.

وفي خضم تبحري بموجات الشجن القوية وذبذبات الحنين الطولية لا أجد سوي همسات وتمتمات الشبح وسوي ضوء خافت يأتي من وسط المعاناة وبريق عين القطة الرابضة في الزاوية البعيدة وإطلالة القمر الباهت الذي يسامر وحيدا في كبد السماء شامخا في وحدته مترفعا عن الضغائن والكراهية يراقب القادمين من بعيد وينور الدروب للسالكين ويدخل السرور والأمل في قلوب الساهرين علي وقع الألم وشجي الفراق في هدأة السحروكأنه يقول للبائسين والمجروحين عاطفيا ان الوحدة قد تجلب لك السعادة والشهرة وقد تشكل منفعة للآخرين! أوكأنه يريد أن ينسيهم الوحدة القاتلة ويكون في معيتهم لكي لايكونو وحيدين و”ويل للشجي من الخلي”
لا أتصور حياة بدون ليل ودياجيره المظلمة وأسماله القاتمة ووشاحه الكئيب لأن في الليل أمارس الحياة بكل عنفوانها بما فيها لمسات حانية تشكل أكسير الحياة وهو -أيضا-قبعتي الوفية في الغربة وصديق يفك طلاسم العوائق ويقدم الحلول والنظرات الثاقبة لمن لم تتمكن عاديات الزمان بكل أطيافها وظلالها وأنغامها الخالدة أن تلملم أطراف مشاعره وتضمد الجراحات الغائرة في قلبه.
ولليل – ياسادة- رونق بهي في مخيلتي وأعيش فيه طقوس غريبة تحول حنادس الظلام إلي مشاعر رومانسية حالمة وبانورامة غرامية مضئية ما تلبث أن تفضي إلي سراب وجداني وتأنيب ضمير تجفف أغصان الحب وتقلع مشاتل العشق من الأساس وتتحول إلي خيوط واهية لا يمكن أن نري في العيون المجردة.

في خريف الليل وفي انقطاع سواده التي كنت أدور في فلكه كدوران الحمار علي الساقية لاتقبل الوسادة أن يتنعم خدي المتعب بنعومتها ولا السرير راضية أن تنال قسطا من شخيري المزعج وجسدي المنهك بتراكم الهموم وتراقص الأمل البعيد أمام عيني المثقل بجراحات الغربة وكدمات الدهور.

لا يطيب للليل أن يكون عابرا بلا أثر في حياة البشر بل يتحول المعاناة مع التلذذ والإرتشاف في فنجان الهيام إلي نغمات تتراقص وشذرات من ضؤ ماسي آخاذ ينسج الحروف وينظم دولة القوافي ويعزف شذوي الألحان ويكون غيثارة حب يصدح عنها صوت شجي كأنه ترانيم صباحية ممزوجة بحروف أنيقة ذات إيقاع موجع كأغنية حسن سمتر حين يتيه وسط صحراء الحب العتمور والحواجز الطبعية الجميلة ما بين الجبال ذات السفوح الخضراء إلي الأنهار التي تنساب برفق وحيوية لتمنح فيض حنانها علي الأرض والبشر، إلي العشب الأخضر والأغادير المتفرعة من الوادي الذي تعيش فيه الظباء الرشيقة، حين يصور بحثه الدؤب وخطواته المثقلة بالإحباط وهو يطارد فراشته المزهوة بألوانها الخلابة والمزدانة بتناسق أجنحتها ورشاقة جسمها بعدسة قلبه.

حقا “سواد الليل جلاب الهموم” رغم أنه يتذكر بنا بعض المرات أن الوئام والحب والتناغم قد يأتي من وسط الأشياء البهيمة! وكيف تكون الحياة في السكون تكون حتما في الصخب؟ ويعلمنا درسا بليغا بأن ترابط أجزائه وجبروت قوته مع خلو الأرض من البشر تشكل لفتة رائعة حرية أن ندرسها بها

الفن، الاستبداد والاشتراكية.. وأشياء أخرى!

  بعد يوم غائم أعقب أسابيع من الحرارة والرطوبة الشديدتين؛ كان الليل الكسماوي صافيا وجميلا. الرذاذ الذي بدأ بالتساقط بعد التاسعة مساء ومجالسة...