الثلاثاء، 24 سبتمبر 2013

الحب والمطر

المطر نعمة كبيرة من نعم المولي بل هو من أجلّ نعم الله علي الخلق لأنه يشكل عصبة الحياة وغيمة تروي الظمأ وتسقى الأرض العطشى، وله دور مهم في إستمرار الحياة وبقاء الكون وبه تدور الحياة، ويعني للإنسان الكثير يعني له الحياة والبقاء والنضارة والطبيعة الخلابة والإخضرار الدائم، وقد نظر البشر إلي السماء وابتهل إلي الخالق وترقب كثيرا عوامل خلق المطر من السحاب والبرق والرعد والرياح التي تسبق الهطول لكون المطر يحمل إليهم خيرات عامرة ونعم زاخرة تحيي الارض بعد موتها ،وكذالك الحب الحقيقي فهو ينبوع من الود الصافي وظل ظليل يمد البشرية الصفاء والود والإخلاص وبات من أكثر الأشياء إنتشارا وأهمية في الكون لأنه دواء عن أمراض العصر ويحيي القلب ويبعد المحبين لوعة الفراق والتستر بالأقنعة المزيفة والحقد ووراء ضباب الدموع في موسم الجفاف العاطفي.
والحب والمطرشبيهان في التكوين والتأثير ففي المطر يتلبد الجو ويتكاثف السحب ويبرد الكون وينزل المطر وتبكي السماء حانية علي الأرض ويتغير القحط إلي نضرة والبؤس إلي سراء لا تنتهي، ويتحول الشقاء إلي حبور ومسرات وزغاريد، ومع المطر تصدح أغاني الحب من سحيق زخات المطر ويتحول زوابع الرعد مع الحب وجمال الروح إلي عاطفة جميلة ويلبس القلب أزهي حلله وترتفع معدلات السرور في أوساط الجسد ومعه يكتسح الحب أضداده من الحقد والحسد والتبلد ويوجه منغصات الحياة ومكدرات المعيشة ضربة قاضية ترسلهم إلي سكوت سرمدي.
ومع المطر يصبح الحب شابا غضا طريا وتذهب تجاعيد الزمان التي علت جبينه وتنمو أزاهير العشق مع خرير الماء التي تنساب برفق فوق كثبان الرمال الحريرية ويكون حلوا رشيقا وعذبا سائغا وخلوبا رائعا كمياه الأمطار المجتمعة داخل الغدير الصافي،وتتمايل القلوب طربا بشذاه وتتراقص الأجساد حبا لمجئيه وتبتسم الطبيعة عرفانا لفضائله، ويتغير الجميع ولا تفارق البسمة في الوجوه، وتكون لمسات الأيادي ناعمة كحرير الماس في مكاكنها الأصلية، وتكون للهمسات معاني أدق ومفهوم أجمل ونطاق أوسع،وللكلام المنمق قشعريرة مميزة وتأثير فعال وتنهمر العواطف مع السماء ويكون جو الحب صافيا كصفاء الطبيعة بعد إنقشاع سحب المطر ويكون مسرح القلب نظيفا كنظافة الأرض بعد سيول الربيع ،وينعش الحب ويحيا من جديد كذرات التراب الرمادية التي إنتعشت بقطرات المطر ورطوبة الندي.

كان البشر عاشقا للحب والمطر والجمال منذ أن أسكن في الكون الفسيح وبدأ يتأمل الطبيعة والضباب الكثيف والسحب البيضاء المتناثرة في صفحة السماء والمزن الداكنة التي تبدو في الأفق، وخاف عن صوت الرعد الهادر وأثار فضوله البرق والأصوات المزعجة والمميز المصاحبة للرعد والبرق والمطر وأثار الرهبة في نفسه تغير الجو والبرد القارص ةالفيضانات والكوارث التي قد ترافق المطر، ولكن بعد نزول المطر والماء الزلال يصبح المطر كالحب مصدرا للسعادة تستحق الإشادة والأبيات الشعرية والفصول النثرية ومعلما مهما إستحوذ إهتمام البشر كالجغرافيا والتضاريس وتغير الطقس والمناخ والمعالم والأحداث الكونية وكالغواني ذات الضفائر الجميلة في الأيام الموسومية بالحب والحياة.
وما بين جمالية الطبيعة والفضول البشري والغريزة الموجودة في نفس البشرأن يمدح ما يعجب نظره ويسحر لبه أصبح المطر رمزا للحياة والحب أيقونا للجمال ألهم الشعراء والأدباء والكتاب وإن غاب عنا بعض الروائع التي قيلت في الحب والمطر أو غابت عنها النسق الجميل في بعض الأحيان، ولكن حملت التاريخ إلينا أبياتا رائعة ونثرا جميلا اخّاذا أجادت قريحة القوم حين سكب المطر جماله بقالب الأرض مما أدي إلي سكب العباقرة نظمهم ونثرهم بقالب إنساني وشاعري جميل جعل الجو الفريد والنسمات المحملة بعبقه الطري رومانسيا مبجلا كشمس المغيب التي تعزف دائما أنغاما من الكلاسيكيات الخالدة التي تحرك الحب علي أوتار قلوبنا، أوكالشعور الذي يأتي من عميق الذاكرة كلحن السعادة الرقيق الذي نرسله إلي أوتار الحياة مع بزوغ شمس الحب.
كان المطر يرسل الشعراء إلي رحلة الجمال والوصف الدقيق لتفاصيله رغم إختلاف معتقداتهم ما بين المسلم والملحد والمسيحي أواليهودي والوثني ورغم إختلاف توجهاتهم من أقصي اليسار إلي اليمين المتطرف والوسط الحائر بين التشددين ورغم إختلاف بيئاتهم المعيشية من شعراء الشرق وحتي الغرب وشرق الأقصي وإختلاف خلفياتهم من الطبقة الكادحة إلي الطبقة المتنعمة بفيض رحمة الخالق ولم يكن المطر يمرعابرا بل كانو يخلدون في صفحات شعرهم وينقشون في سطور نثرهم ذكر المطر وأريجه وإلا كان الشعر سرابا لا يضيئ أو ضوء خافتا في بداية الطريق أوزهرة ناقصة عن منظومة الإكليل المهداة إلي الحبيبة في عيد ميلادها السعيد
وكان لشعراء الصحراء إعجاب خاص للمطر لأنه كان زائرا مختلفا عن الحميع ولا يأتي إلا بعد حول كامل،! وأحببته الشعوب المتعايشة مع قسوة الطبيعة حيث الجغرافيا العنيدة والطبيعة القاسية، وحوائل الزمان والمكان جعل المطر جذابا أنيقا رغم هلاكه للمواشئ وإقتلاعه جذور النخيل التي كانت تشكل السرة في الحياة البداوة، وكانت قطرته مشحونة بالحب والحياة وتلبس حللا بهية وررونقا الحياة لأن مواسم الحب والمطر والسعادة طالما اقترن مع بعضهما لذا كان المطر يتذكر الشاعر بالحب والسعادة.
ومن الشعراء الذين تركوا أبيانا تنبض بالحب للمطر امرؤ القيس حيث قال:

أصاح ترى برقاً أريك وميضه ***كلمع اليدين في حبي مكلل
يضيء سناه، أو مصابيح راهب ***أمال السليط بالذبال المفتل
فأضحى يسح الماء حول كنيفه ***يكب على الأذقان دوح الكنهبل
وتيماء لم يترك بها جذع نخلة ***ولا أطما الا مشيدا بجندل
كأن بثيرا في عرانين وبله ***كبير أناس في بجاد مزمل
كأن ذرا رأس المجيمر غدوة ***من السيل والغثاء فلكة مغزل
كأن مكالي الجواء غدية ***صبحن سلافا من رحيق مفلفل
كأن السباع فيه غرقى عشية ***بأرجائه القصوى أنابيش عنصل.

ولا ننسي السياب ورائعته الشهيرة انشودة المطر
عَيْنَاكِ غَابَتَا نَخِيلٍ سَاعَةَ السَّحَرْ ***أو شُرْفَتَانِ رَاحَ يَنْأَى عَنْهُمَا القَمَرْ
عَيْنَاكِ حِينَ تَبْسُمَانِ تُورِقُ الكُرُومْ ***وَتَرْقُصُ الأَضْوَاءُ …كَالأَقْمَارِ في نَهَرْ
يَرُجُّهُ المِجْدَافُ وَهْنَاً سَاعَةَ السَّحَرْ ***كَأَنَّمَا تَنْبُضُ في غَوْرَيْهِمَا ، النُّجُومْ
وَتَغْرَقَانِ في ضَبَابٍ مِنْ أَسَىً شَفِيفْ ***كَالبَحْرِ سَرَّحَ اليَدَيْنِ فَوْقَـهُ المَسَاء ،
دِفءُ الشِّتَاءِ فِيـهِ وَارْتِعَاشَةُ الخَرِيف ***وَالمَوْتُ ، وَالميلادُ ، والظلامُ ، وَالضِّيَاء ؛
فَتَسْتَفِيق مِلء رُوحِي ، رَعْشَةُ البُكَاء ***كنشوةِ الطفلِ إذا خَافَ مِنَ القَمَر
كَأَنَّ أَقْوَاسَ السَّحَابِ تَشْرَبُ الغُيُومْ ***وَقَطْرَةً فَقَطْرَةً تَذُوبُ في المَطَر.

وللمطر طقوسه وللقطرة هيبتها وإحترامها الكبير عندهم لأنها عزيزة وغالية ولا تمر إلا بمزيد من الذكري والتعلق التي تجعل القطر وكأنها لوحة بانورامة خالدة تدخل القلوب فرحة عارمة وتحمل الجموع إلي زورق السعادة ومركب الحبور إلي ضفاف الجمال التخيلي في بعض الأحوال والطبيعي في معظمه.

وهكذ شكل الحب صنوا متلازما لا يفترق أبدا مع المطر بل ربط بينهم خيط دقيق وتعلق غريب وعلاقة طردية كما يقول العشاق فكل شئي في المطر يذكر صنوه في المحب،فالحب سيل هادر من العواطف ونسيم عليل وموجات شجن صافي يرطب القلوب بأعذب الألحان ويدخل أركان الجسم بسعادة لا ضفاف لها
والمطر يزيد الحب ويرتفع معدلات العشق بهمسات قطراته الحانية التي تشبه ملمس معطف الحبيبة في الشتاء البارد، والرياح التي تعوي خلف النافذة وحفيف الأوراق المبللة تطرب النفس وتصفي المزاج وتفرح الوجدان، وبريق الرعد اللامع يذكر المحب بثغر الحبيبة وبسمتها الرومانسية.
وفي تاريخ الحب الطويل وضحاياه المتساقطين في سجل الحب كاوراق الشجر في عز زوبعة الخريف كان موسم المطر مناسبة خاصة للعشاق يستأنس العاشق بدموع السماء الحانية وينسي عبراته التي سالت علي خديه من أجل الفراق أوالخيانة بكميات المطر التي تنهمر من مقلة السماء الوفية، وقطراتها الرقراقه تثير الشوق في نفوس المحبين ولم تزل رائحته الزكية تشبه نفًس الحبيبة في هدأت السحر وفي الهزيع الأخير من الليل حيث النجوم آفلة والبشر متنعمون في سباتهم والطبيعة تخلد بوئام مع الكون ويحن الحبيب إلي حبيبته
ولا يقتصر التشبيه ما ذكرنا بل يبلل المطر الثياب الظاهري كما يبلل الحب الثياب الحقيقي بمداده السرمدي ودمائه المتجددة المشوبة بنشوة الحب ولذة الوصال وشذي الألحان الرقيقة وأقصد الثياب الحقيقي (القلب أو النفس) وإطلاق الثياب علي القلب أو النفس أسلوب أستخدمه القرآن والشعراء والأدباء ورواد اللغة ففي التنزيل(وثيابك فطهر) وهنا فسر بعض العلماء أن الثياب المذكور هو القلب أو النفس ويقوي هذا التفسير قول عاشق الليل والمطر عملاق الشعر الجاهلي امرؤ القيس لعشيقته.

أفـاطِــمَ مَــهْــلاً بَـعْــضَ هَــذَا التَّـدَلُّلِ *** وإِنْ كُنْتِ قَدْ أدمَعْتِ صَرْمِي فَأَجْمِلِي
وَإنْ تــكُ قــد ســاءتــكِ مــني خَليقَـةٌ *** فـسُـلّـي ثـيـابـي مـن ثـيـابِـكِ تَـنْـسُــلِ
أغَـــرَّكِ مِــنِّـي أنَّ حُــبَّــكِ قَـــاتِــلِــي *** وأنَّـكِ مَـهْـمَـا تَـأْمُـرِي الـقَـلْبَ يَفْعَـلِ؟
:ولا ننسي قول شاعر العرب وأشجع بني قومه عنترة حيث قال في ميميته الشهيرة
فشككت بالرمح الأصم ثيابه** ليس الكريم علي القنا بمحرم.

وهكذا ورغم تقدم العالم وتطور الزمن وتقدم الدهور لم يزل المطر يسحر ندماء الحب ومداومي إرتشاف كأس العشق علي وقع المطر ومن ثمل صنوف التشبيب الوانا، وما زال يرقص المحبون عند عزف المطر سيمفونية رائعة تهتز الوجدان وتلامس أخطر الأوتار وتثير النفس أجمل الإحساس، مع علمنا أن للأجواء الجميلة ضريبتها وللبرق تأثيراته القوية لإثارة الأشواق ولهمسات المطر أنات وآهات لا تنتهي لأن الذكريات الجميلة والتصورات الأجمل تعذبنا في الوحدة وفي الغرف المظلمة أكثر مما تريح البال وتسر الوجدان

الفن، الاستبداد والاشتراكية.. وأشياء أخرى!

  بعد يوم غائم أعقب أسابيع من الحرارة والرطوبة الشديدتين؛ كان الليل الكسماوي صافيا وجميلا. الرذاذ الذي بدأ بالتساقط بعد التاسعة مساء ومجالسة...