الثلاثاء، 24 سبتمبر 2013

محطة الباص(قصة قصيرة)



في محطة الباص وفي وسط الزحام توقفنا سويا وبصدفة محضة نظرت إليها باختلاس، وتعجبت لها بعفوية غير مقصودة، اجتاحتني موجة من الإعجاب الواضح، وهاجمتني ثرثرة قاتلة تهز الجبال الراسيات، وأصبحتُ فريسة سهلة للحب من أول النظرة-وهذا أسوأ أنواع الحب لمن لا يعرف- كأني من شعراء الرومانسيين القدامى أمثال ويليام بلايك وبايرون وروك هودسون أو من أثرياء موناكو وملوك الأندلس أو من متنعمي بلاط الملوك في عهد الدولة العباسية حين كان الحب والعشق والموسيقي يفيض جمالا ويفوح شذى كسيمفونية رومانية في زمن المغيب .

تغلغل الإعجاب الواضح إلى سحيق قلبي فبدأ السن يضحك والأحشاء تحترق والتف حولي أغصان العشق الخضراء …اقتربت إليها متنكرا باللامبالاة مصطنعة، وربما نسيت الحدود وتعديت إطار المعرفة وأمتار الحشمة! وبما أن الإعتراف سيد الفضيلة فقد كنت مبهرا لأقصى الحدود لتناسقها ورشاقتها وقوامها السمهرى، وتعرضت لنوبة عشق قوية كادت أن تعصف بي لولا المدة الزمنية والتراجع والتراخي الذي دب أوصال جنين العشق في مهده.

همستُ في أذنها أو بالأحرى شممت عطر خصلاتها المتناثرة ولمست شحمة أذنها حتى سمعتْ بوضوح صفير صوتي وأزيز مشاعري وضربات قلبي المتسارعة كأني واجهت طوفانا من أقضية الزمان، وبدا صوتي أشباحا تتلاعب في أطياف الضباب الكييف، قفزت كالغزالة الرشيقة ونظرت إليّ بعينان فإذا”لها مقلةٌ كحلاء، نجلاء، خلقةً كأنّ أباها الظبي، أو أُمَّها مَها”وأخذتْ تبلع ريقها بصعوبة ومسحتْ فمها بظهر يدها ومال لونها إلى حمرة بفعل الحدث مما كسى وجنتبها الجميل ثوبا أرجوانيا كزهرة الأقحوان أو كأوتار كلاسيكية من زمن البهاء في موسيقة طازجة وندية.


وددت أن أعتذر لها بصمت ولكن هالني الموقف فابتسمت ببراعة نادرة وأرسلت زفيرا ساخنا إلى عنان السماء متعجبا ببديع صنع الله وجمال العيون، وظل هذا الإحساس يلازمني وتبحرتُ بخور الأمل الضائعة ومن شدة ما عانيته من ألم الحب المشوب بلذة الوصال بدأت أتبادل الأحلام بوحدي وبصوت عال ومكشوف،! واستيقظت بصوتها الرقيق وكلماتها الدافئة وابتسامتها المزلزلة لعرش القلب المنهك.

شعرت غصة قاتلة ونرجسية في الإحساس ونظرت إلى الجهات وأدركت أن مقص الرقيب يطل رأسه من كل الزوايا والأركان وأن التمادى في الحديث قد يجرح الكرامة ويلطخ صفحة العرض المشرقة، وما بين إحساس الحب وجلد الواقع أدركت عن كثب أصالة نسبها وعراقة أسرتها وأن للملكات جمال رباني طافح وإحساس خاص تتكسر دونه المشاعر وتستسلم في أعتابها كبرياء الحب وعظمة العشق! وأثارت رائحة العطر الزكية الحب المركون في مكامن قلبي وانعشني عبق البشرة قبل العطر الفاخر من ماركت Escada Desire Me75ml الشهير وعرفت ولأول مرة أن للبشرة رائحة طبيعية أزكي من كل العطور ومن عبق الورود!.
تجمدت في مكاني وكأني لافتة للترحيب بزائري مدينة الحب وباحثي الأمل في وسط الإحباطات المتتالية للحياة حين تدثرت بوجه صبوح طفولي الابتسامة ويقوي دينامية الصلة بين الحب والإنسان.

لم أستطع مقاومة مشاعري ولأن الحب تفضحه عيونه كانت أعراض الحب تطوف في مخيلتي كالنجوم وتتساقط كأوراق تعرضت لزوابع الخريف لتنشر حبا يفوق الخيال أو بالأحرى إعجابا ملك كل جسمي وعقلي وسيطر جوارحي واستوطن في كياني وتغلغل في أعماقي، وبات صمت الإشتياق رفيقي وسئمت من التآكل الداخلي وعاتبت نفسي على التنفس وكسر جدار الصمت وإذابة جليد دهشة الصدفة فبدأت الكلام مبعثرا ومترنحا كرقصة حبات المطر ومتناثرا كباقات الورود في جنبات الغدير.

تصببت عرقا وتبخرت الفكرة وتعقد اللسان وتلاشت العاطفة وتلعثمتْ الحروف وعجزتْ فك طلاسم الرهبة السوداء في أوتار إحساسي، وبدأت الرموش تتحرك أفقيا كأنها مصابة برمد أزلي، ويبست الشفاة كشجرة انقطع عنها الماء، وقبل أن يظهر الاضطراب ولم ابتلع أشواك الخجل وبعد سكون دام برهة تحركتُ نحوها متثاقلا من أجل عظم الشعور الهادر ..وقلت: ـ وعيني لا تنفك على أرنبة أنفها علني أخرج من الجو الملبد بالرهبة لفياح الرجولة وفحولة الآدم ـ أنتِ قطعة من القمر وزهرة فائقة الجمال ونجمة ساطعة في بهيم الليل يا … لم أكمل الكلمات حين قاطعت كلماتي المفتعلة وأغرقتني في بحور الانتظار وبعد برهة تمتمتْ بضعة كلمات غير واضحة النبرات ولا المعالم بل غامضة كشخصيتها العميقة.

دارت وجهها الصبوحي وعيناها النجلاويين التي تشبهان نجلاوية الشرق في الصباح الباكر إلى الجهة المقابلة وفاحني لظى الخجل وتحسست الجيب الأمامي للبنطلون وبحثت شئيا غير موجود أصلا وتعلقت عليه علّه يشكل خلاصا جيدا للورطة التي وقعت فيها نفسي…حاولتُ ابتلاع ريقي ولكن جفّ الحلقوم ونضب الريق في الفم!، إلهي ما هذا الخوف الشديد من الحواء؟ تركتُ الكلام وبدأ العينان تدقّان الأوتار الحساسة من جسد الظبية! تفحصتُ جيدا تضاريس جسمها ومنعرجات جسدها وتمعنت فمها الياقوتي وكشحها الجميل، خفتُ أن أكون من عداد الموتي لحظة النهاية وتمنيت أن أكون قطرة مطر كي أتسلل إلى ضفائر شعرها المتدلي على ظهرها المصقول.

طغت الفرحة على وجهي واجتاحتني سونامي عاطفي مدمر بمقياس فاق الريختير وقياساته الهزلية فهزتني من الداخل ولكن تمالكت على نفسي ولم أقع أو ابتعد من مكاني ووقعت ببلادة محيرة وأنشغلت بالتليفون المحمول وكأني أبحث ما يدور بخاطرها ومايدور في مخيلتها وماذا يكون رد فعلها. لاحظت التوتر البادي على جبيني فابتسمتْ فأضاءتْ المكان وبدا بياض أسنانها وكأنّهم ماس في مكامنه الأصلي فوق جبال الإنديز في الإكوادور أوبرق لامع في دهاليز الظلام وديجور الليالي أو نجم ساطع في أدغال أفريقيا الموحش.

بدأتُ أتفرس من شفتيها المصبوغتين بلون رمادي أخّاذ فلم أجد إلا فكرة رمادية كلون شفتها المطبقتين بهدوء وانسجام وتذكرت قول نزار قباني:
مشبوهةَ الشفتين ، لا تتنسكي
لن يستريحَ الموعدُ المكبوت
و غريزةُ الكبريت في طغيانها
ماذا ؟ أيكظمُ ما به الكبريتُ ؟
شفتان معصيتان.. اصفحُ عنهما
ما دام يرشحُ منهما الياقوتُ
إن الشفاهَ الصابرات أحبها
ينهارُ فوق عقيقها الجبروتُ
كرزُ الحديقةِ عندنا متفتحُ 
قبلتهُ في جُرحهِ ونسيتُ
شفتانِ للتدمير، يا لي منهما
بهما سعِدتُ، وألف ألف شقِتُ
شفتان مقبرتان ، شقهما الهوى 
في كل شطرٍ احمرٍ تابوتُ
شفةُ كآبار النبيذ مليئةُ
كم مرةٍ افنيتُها وفنيتُ
الفلقةُ العليا.. دُعاءُ سافرُ
والدفءُ في السُفلى ..فأين أموتُ؟

نطقتْ فرقصت الطيور لعذب كلامها ونشوة همساتها وغرّد الكناري طربا لصوتها العذب الزلال ونبرتها المبحوحة، وأسحرتني إنسياب الكلمات من فمها الياقوتي كأنه النيل في إنسيابه العجيب في قرية “أم الطيور” الوديعة أو كأنه الشبيللي المتدفق برشاقة من أعالي الهضاب إلى اسافل السهول قرب “جودي” العريقة.

“العفو يا سيدي” لستُ جميلة بما فيه الكفاية لكي تمدحني ولكن ربما عين قلبك جميلة أكثر من اللازم وتبصرك الأشياء على عكسها، قالت وانصرفت! ابتسمتُ لها وكأني موافق لكلماتها القوية ولكن في الحقيقة لم أكن مقتنعا بإجابتها بل قبلتها على مضض وابتسمت لها على كره.

لم يكن الزمن كافيا لنسج خيوط الحب ولم يكن المزاج عاليا لقبول الإعجاب لذا لم يستمر الحوار أكثر من نصف ساعة ملئية بشجن الحب ولذة الوصال وهرطقات التعارف وألم الفراق المرتقب، وبعدها خبت روح التحدى والإصرار التي كانت تشعل في وجداني وغرقتْ سندريلا الحب في شلالات الإهمال والجفاء وتناسيتُ أحداث اللقاء وطويتُ صفحته إلى الأبد وانتظرنا طويلا للمواصلات التي أهدي إليّ هدية العمر ولكن موسما غير موسم الهدية وزمن غير زمن العشق وليالي الأنس في أحضان الحبيبة.

راقبت الشارع واستشرفت حتى منتهى البصر ولم أر سيارة بل بدا لي السراب أمواجا متلاطمة في قارعة الطريق، لم نجد ما كنا ننتظره فهممت أن تقلنا التاكسي إلى وجهتها معا ولو كانت أبعد الحدود لأبعد مدينة في العاصمة المثلثة، ولكن تذكرت عادت القوم وثقافة الحي فتجاسرت عن تلك الفكرة المجنونة ونظرت إلى الأفق فبدا لي في وسط السراب حافلة تتهادى من بعيد ذات طلاء يقق شرب الزمن عليه وأكل، وشطب الدهر نضارتها وفراملها وأكباحها، رفعتُ يدي أشير إلى الوقوف ولكن لم تتوقف بل واصلت سيرها المهترئ إلى محطتها النهائية في بري أو بحري. لا أدري?

وفي نهاية المطاف وختام لقائنا التراجيدي تركت الآسرة غير مأسوف عليها بعدما رضختُ للواقع ودرستُ الموقف وأيقنت جنون الفكرة وقصر أفقها، وبعد ما أخذتُ نفسا عميقا وبعد نحنحة بلا عنوان قلت لها: هل من الممكن أن يختفي القمر فجأة بعد خروجه من سياج الغمام الكثيفة؟ فقالت: بعناد مقصود وبعدما رسمة بسمة ماكرة على وجهها المستدير ما المانع مدام الربيع أروع فصول الحياة وأقصرها دواما؟

فقلت: نستطيع أن نستمتع نضارة اللحظة رغم قصر الوقت مادام للفرحة نطاق أوسع وللمسرات أبعاد أكثر مما نرى وللذكريات ترانيم أبدية؟ فهّزتْ رأسها وذهبتْ إلى الشمال الجغرافي فضاعت بين الجموع واختفت عن الأنظار ملوّحة يدها ومرددة إلى اللقاء أيها الفضولي المجنون.!

الفن، الاستبداد والاشتراكية.. وأشياء أخرى!

  بعد يوم غائم أعقب أسابيع من الحرارة والرطوبة الشديدتين؛ كان الليل الكسماوي صافيا وجميلا. الرذاذ الذي بدأ بالتساقط بعد التاسعة مساء ومجالسة...