الثلاثاء، 24 سبتمبر 2013

زفرات غريب(1)

شاءت إرادة المولى جلّ جلاله أن أعيش في أرض الغربة، وأن أنال قسطا لا بأس به من مرارتها ووحشتها القاتلة، وأمضيت سنوات من زهور عمري وعز شبابي التي هي أحلى أيام عمر الإنسان دون سقف يحميني ودون أمة أنتمي إليها.
عشت بغربة لم استعد لها، ولم اخترها؛ بل أجبرتني الظروف مثل غيري من أبناء وطني الملتهب أن نبتعد عنه بحثا عن التعليم أو لقمة عيش كريمة أو حياة آمنة.

أبعدتني عصى الترحال عن وطني لتثير الغربة آهات أرددها، وأنين في أحشاء قلبي يظهر صداه على كل من مقلتي وجسمي،عشت بين مجتمع غريب كنت لا أعرف عنهم الكثير إلا ما حوت عليه المقررات الدراسية؛ رغم شحها أو المتبعثرة بين بطون الأسفار أو المتناثرة بين الأساطير والحكايات الشعبية أو المتناقلة في ألسن الناس.

 ومهما كانت الغربة إلا أن فصولها متشابهة وألوانها متقاربة، و المرء يحتاج أن يجد تسلية أو ما يُنسي غربته ويهدأ لوعته، ويسكن شعوره الهائج وضميره الوله الذي لا يستقر إلا إلى ربوع وطنه.

وهروبا من شباك الغربة التي -طبعا- ليست ككل الشباك، والوقوع في متاهاتها المحيرة وبراثينها المرعبة وفصولها القاتمة لا أجد أمامي سبيلا للتخلص من هذا الواقع الأليم غير الكتابة؛ فأحاول كتابة ذكرياتي الجميلة وبريقها الذي لايفارق في مخيلتي وشحوب حياتي في الغربة وألمها الحارق الذي يحرق الأحشاء كما يحرق الماضي ويهدد المستقبل؛ فتتهرب مني الحروف وتنكرني الأسطر و يكفهر الوجه، وينكسر القلب حزينا، وتجتاحني موجة من الاكتئاب؛ فيتبلد المزاج وترتعش الأيدي عن الأحزان، ويرتجف الجسم من برودة غريبة تنتابني في عز الظهيرة وفي الصيف الحارق، وتستوطن البرودة الغريبة في كياني وتتغلغل في أعماقي رهبة جامحة؛ فتهزني وتدخلني نوبة من البكاء أو موجة من القشعريرة، وتطوف حولي سحابة من الكآبة والغم الثقيل، فأكفكف دموعي وأكبح جماح مشاعري، وأمسك القلم لعلي أجد منه الأنس والألفة أو أتذكر شيئا فأدون أو يفتح لي شهية الكتابة التي ضاعت مني وافتقدتها ضمن هدير الغربة وضجيجها المطبق؛ فيسكت القلم ويعاندني المداد أن ينزف وأن يسكب دموعه عوضا عني ويلون الورق ما أعانيه!!

وفي خضم ذلك الموقف يبرق الأمل من جديد ويتراقص أمامي طيفه الحريري كأنه يتحرش بي فينتعش الجسد ويكون الوجه صبوحيا طفولي الابتسامة، وتحترق في جوفي غابات اليأس وتكتسح الأمل والصبر في جوانحي..
ما أجمل الأمل في حياة الغريب! إنها تطوف كالنجوم وتهطل كالأمطار؛ لتنثر حبا وحياة جديدة يفوق الخيال..


البداية
في ليلة من ليالي الخرطوم الهادئة كنت جالسا في أحد المقاهي التي لا تبعد كثيرا عن قلب الخرطوم النابض، وأحد أهم  شوارعها وأشهر أحيائها التجارية المفعم بالحياة الملئية بالحيوية والنشاط الواقع قرب منتجع سياحي رابض في أحضان النيل تبهرك أنواره وتسحرك دقتة المتناهية في كلّ شيء، والذي لا يبعد كثيرا عن الجسر العظيم الذي تربط صهوته أجزاء العاصمة المثلثة.

وفي هدوء الليل وفي صخب الزحام لا تتوقف الحركة…. تمر السيارات الفارهة والرخيصة بإنسيابية تامة، وتتهادي فوق الشارع المطل على النيل العظيم الرئة التي تتنفس منها الخرطوم، والذي ينعشها ويقلل حرارتها بنسماته الفوّاحة ويمدهم بمائه العذب الزلال، أصوات أبواق السيّارات لا تتوقف وتنطلق في كل مكان من الشارع ولا تنقطع ولوثانية، و تمتزج الأصوات و تتشابك الألحان؛ فتصدر عنها أصوات مختلفة ونغمات متباينة كأنها زغاريد الطيور أو أشجان فنّان، ويتبادر إلى ذهنك بسبب النغمات الرائعة للمكان والألحان الجميلة للأبواق صوت دار أوبرا روما، وهي تعرض أوبرا أسطورة (لوتشانو بافاروتي) المتميزة، وتعكر الضجة والقهقهة المدوية على أحزان المساء الذي يمارسه البعض صفو الليل الهانئ على ضفاف النيل.

المقهي مكتظة كعادتها ومزدحمة لدرجة رهيبة، و تموج كخلية النحل لا تصمت ولا تهدأ أبدا، ولكن الإتقان في الصنعة والإبهار  في التصميم الذي هو شعارها الكبير بالإضافة إلى أناقة المكان وفخامة الموقع ونظافته هدأت الأمزجة وساهمت العاملات الأنيقات واللاتي لايستطيع أي ماهر وشاطر في الوهلة الأولي تميزهن أو تفرقتهن وكأنهنّ عدة نسخ من أصل واحد، ولا يختلفن إلا في الأسامي، وبعض الملامح التي لاننتبه إليها كثيرا، فسماتهن متقاربة وتركيبهن الجسمي وتناسقهن الجسدي متوحد إلى درجة كبيرة، وزيهن الرسمي موحد، وشغل المكياج جل وجههن النقي الصافي، وتفننت الماهرات في تجميلهن؛ فكسى عليهن هالة من الألوان المختلفة التي تشبه قوس قزح في منظرها الجميل الآخّاذ، وخفة الدم والشفاة الأسمر وبشرتهن السمراء المشوبة بالحمرة والأسنان الناصعة البياض وعيونهن الحوراء الواسعة، والابتسامة التي لا تفارقهن وقاماتهن الممشوقة ورشاقتهن وخفة الحركة ومشيتهن المتمائلة أضفت الجو مذاقا خاصا ورونقا متميزا، و لا أخال أنهن بعيدات عن وصف العربي  حين قال:

مهفهفة والسحر في لحظاتها ## إذا كلمت ميتا يقوم من اللحد
أشارت إليها الشمس عند غروبها ## يقول إذا اسود الدجي فاطلعي بعدي
وقال لها البدر المنير ألا اسفري ## فإنك مثلي في الكمال وفي السعد

القمر منح الضوء في حنبات كوننا الفسيح، والنسيم الذي يهب بين فينة وأخرى من النيل يداعب أشجار الحديقة والشارع و لافتات المقهي في رقة ولين كأنه زفرة عاشق أو جسة طبيب حاذق، وانطلقت أصوات الجالسين في المقهي أو المارين في الشوارع بالغناء مفردة مطربة في نغمات اعتادوها ـــ كأنها السيمفونية الخامسة لبيتهوفن لروعتها أو أحد كلاسيكياته ذات الموسيقي الهادئة المشهورةـــ

وأخري فرضت عليهم متاعب الحياة، وكان ينتهي إلى أسماعنا صوت نغمات موسيقية هادئة تصدح من بعيد مصاحبة بصوت النيل الهادر والساحر  تخيلت أنها الأغنية الشجية ” زمن الغربة والترحال” لإمبراطور الفن في السودان أو”صوت المساء” لعندليب النيل أو هكذا أردت أن تكون في ليل الخرطوم المتميز الذي يسهر ويهز العاصمة المثلثة طربا، والخرطوم لمن لم ير ليلا هي هالة من هالات الضوء الماسي الآخّاذ والكلمة الشائعة عند السودانيين والعرب “الخرطوم بالليل” تجسد الليالي المتميزة في الخرطوم والسهرات المتواصلة حتي الساعات الصباح الأولى.

في هذا الجوّ الجميل كنا نرتشف القهوة في مقهي جميل فوق ربوة قليلة الارتفاع قرب قصر صغير على ضفاف النيل في مواجهة حديقة غناء تتدلي أشجارها على جداول ضيقة تتفرع من النيل “هبة الله في السودان ” كما يقولون، كانت السماء صافية والجوّ صحوا طلقا، والنسيم العليل يداعب الأشجار ويحرك بنعومة متناهية خصلات شعر الفتيات الرائعات اللاتي يتنافسن النجوم روعة وبهاء، واختفت النجوم و خفت أنوارها و بهت سطوعها كأنها استحيت من جمال الفاتنات فلا نجومها متلألئة ولا يشع منها النور والضياء المعتاد.

كنت ارتاد هذا المقهي كثيرا وأحاول ألا أتغيب عنها، بعض المرات أفضل الوحدة لحاجة في نفسي، ومرات مع رفاقي الذين كنت اشتاق إليهم، والذين لا يسأمهم جليس، ولا يملهم الأنيس؛ لفرط دماثتهم وطيب معاملتهم وحميميتهم وخفة دمهم نجتمع فوق الموائد وحديث الموائد أقرب دائما إلى القلوب في طريقه إلى البطون، نتقاسم أطراف الحديث أحيانا نتخاصم، وأحيانا تجمعنا نقطة ما في الحياة، ونتبادل الأخبار السارة والضحكات الصاخبة من الأعماق، ونسبح في حلم لذيذ بلا قيود ولا هموم ويبث كل واحد منا شكواه وألمه إلى رفاق دربه وزملائه في الدراسة أو قل إن شئت أسرته في الغربة -التي لا ترحم- لعلنا نجد ما يخفف عنا عبء الغربة ووطأتها الشديدة و يصعد بنا الحديث تارة ويهبط بنا أخرى، وكالعادة نبدأ الحديث في السياسة والدراسة وينتهي بالمرأة!.

نلج ضروب الحكايات الجميلة والأسطورات الشعبية والمحادثات الهزلية؛ فيضحك كل منا ويرسم ابتسامة رقيقة فوق وجهه، وتبدو الفرحة واضحة في جبينه، وتعلو على محيّاه الألفة والأنس الذي فقده و تشعر  في وميض عينيه السعادة والبهجة وراحة بال حقيقية، ثم نخوض ونتطرق المصائب والمشاكل والمدلهمّات التي أصابت أمتنا وشلّ ضميرها و أين المخرج و المنفذ وسط هذا الأمواج العاتية والضباب الكثيف الذي عم أركان المنطقة؟ أمتنا ماذا دهاك؟ ماذا حل بك؟ لماذا يقتل بعضنا بعضا؟ لماذا تزهق أرواح أفلاذ أكبادنا بدون جريمة أو ذنب اقترفوه؟ لماذا يستهدف صفوة الأمة وقلبها النابض من العلماء والمثقفين والإعلاميين والسلاطين والأطباء والدكاترة بأتفه الأسباب؟ لماذا نطمس تاريخنا ونشوه حضارتنا؟ لماذا تهجر الأدمغ المتعلمة والطبقة المثقفة من أبناء بلدك؟ لماذا أصبح شعبك غريبا في وطنه وبين أهله وأحبابه؟ لماذا أبناؤك يفرون منك وعنقهم مشرئبة إلى الهروب والعيش خارج سوارك وخارج حدودك ودفئك وخيرك الفياض؟.

 وإذا قيل أن أسباب التنازع في المجتمع البشري يتمثل في:
1-المصالح المشتركة ومصادرها النادرة
2- السعي لتلبية الحاجات الضرورية.
3- البحث عن السلطة وامتيازاتها.
4- الدفاع عن القيم الدينية والثقافة والعرق.

فماذا يا ترى عنوان نزاعنا المشؤوم وشعار حروبنا العبثية الذي أصبح هاجسا لوّث تاريخنا وشوّه حاضرنا وهدد مستقبلنا؟ّ!
تتشعب الأسئلة وتتعقد، ولا نجد لها جوابا؛ فنظل مشدوهين ولا ننبس ببنت شفة، ونخالف ذلك أفلاطون ونظريته التي تقول” الدهشة بداية المعرفة” فالدهشة تمثل في عالمنا آخر المعرفة والحلول، والسطرالأخير لفهم دفتر الوطن وأوراق الشعب!.

و يستمر وابل الأسئلة بلا انقطاع، وتبلغ مداها مرة أخرى، هل بإمكاننا أن نساعد شعبنا المنكوب المغلوب على أمره؛ كي يعيش كأمثاله من البشر ويمارس أعماله كنظرائه في العالم ويعيش حياة ملؤها الأمن والاستقرار؟ ونتذكر ما يجري الآن وكيف يموت في كل دقيقة أو حتي ثانية واحد من أبناء شعبنا تبتلعه البحار أو تمزقه القذائف أو تلتهمه المجاعة أو يموت بقلة المرافق الصحية أو يقبع داخل زنزانة وحشية و وراء القضبان لا يدري ما يخبو له القدر؛ فيدب اليأس في القلوب وتتغير ملامح الجميع ويصبح الوجه كالحا وكأنه لوحة قاتمة؛ لأن الوجه يعكس أو هو مرآة ما في الداخل من أفراح وأتراح؛ فتبقي الدمع والحرقة والنقر  في الأرض حروفا لصرختنا الهستيرية، ويسود الصمت المطبق الذي لا نسمع سوى دقات قلوبنا، ويطال بنا المشهد المرعب، وتعم سحب سوداء داكنة من الحزن والوجد والأسي؛ فنفيق مرة أخرى، ونرجع إلى جلستنا واللهفة تلاعب حدقات عيوننا الشاخصة، و تحت قبة هذا الليل الكئيب نبحث مرة أخرى أنشودة الحب والحياة وضخ الأمل في جلستنا؛ فندلف إلى الغريب وندلو دلونا حياة الغربة ومصاعبها وقساوة حياتها وكيف طوحت بنا طوائح الزمن إلى أرض الغربة بعيدا عن الأهل والوطن والأحبة، وكيف تغيّر مسلك حياتنا ونمط معيشتنا، وفي الصمت الرهيب وفي سكون الجلسة يتحدث واحد منا عن الجاحظ وماذا قال في الغريب: (والغريب لا يفارقه الإحساس بالغربة أبداً، وقال بعض الأدباء : الغربة ذلة والذلة قلة، وشبهت الحكماء الغريب باليتيم واللطيم الذى ثكل أبويه فلا أم ترأمه ولا أب يحدب عليه، وكان يقال: الغريب عن وطنه ومحل رضاعه كالغرس الذى زايل أرضه وفقد شربه، فهو ذاوٍلا يثمر، وذابل لا ينضر).

الفن، الاستبداد والاشتراكية.. وأشياء أخرى!

  بعد يوم غائم أعقب أسابيع من الحرارة والرطوبة الشديدتين؛ كان الليل الكسماوي صافيا وجميلا. الرذاذ الذي بدأ بالتساقط بعد التاسعة مساء ومجالسة...