الثلاثاء، 24 سبتمبر 2013

حورية الشاطئ


كنت في شاطئ بديع مسترخيا عند زورق يتراقص على مياه ضحلة تعانق أشجار النخيل. ذاك المساء كان مزاجي عاليا وكنت متأملا بجمالية المكان وشاعرية الموقف وبُعد الأفق الذي يتداخل بالتأني مع زرقة المياه عند منتهى البصر. على مشارف لحظة نادرة من الصفاء أطّلّت عليّ نجمة تدثرت بالجمال وتخمّرت بالبهجة! تحركتْ نحوي بإثارة مفتعلة وخطى ثابتة ترسم أصابعها على رمال الشاطئ لوحة بانورامية رائعة يجملها رزانة عجيبة ومشية "لاريث فيها ولاعجل".
جلستْ بهدوء فوق كرسي خشبي مبلّل برذاذ الماء المتناثر على الهواء لحظة تحطم الأمواج على صخور داكنة يطلق عليها الجيولوجيون "صخور متحولة" لا أعرف كيف تحولت ومتى تحولت ولم تحولت ولكن للعلم آراء عجيبة وتحولات لانعرف كنهها؟. وقفت بطولها الفارع وسط عارضات قصيرات القامة يتبخترن على وقع أغاني غربية صاخبة، المكياج الصارخ والخروج عن المألوف أضفيا على ملامحهن الأسيوية هالة من الأسى وطمس على سحنتهن البارزة.
ذهبتْ بتغن واضح نحو الشمال الجغرافي حيث الرمال الذهبية ومقاهي صينية تقدم وجبات أسيوية مقززة ضفادع مشوية، وعناكب مجففة، وأدمغة القردة، وطبق جراد مقلي، وطيور غريبة وسلاحف تتحرك، وتماسيح صغيرة! الأحاديث والقبلات الساخنة لايتوقفان في ردهات المقاهي وعلى كنف طبيعة تمنح للسياح معزوفة تطرب لها الخيال لجمالها ورونقها وتناسقها.
كان الطقس بارداً فهطل المطر بغزارة مخيفة ورغم برودة الأجواء وبكاء السماء وقفت تستمتع وتغني وتتمايل وتبرز مفاتنها وتضاريس جسمها المتناسق. وعلي صفح الجبال الرملية الممتدة على طول الساحل كشفتْ وجهها ورقبتها عن الخمار؛ فبدا وكأنه البدر في ليلة حالكة الظلام وحركات خصلات شعرها الفاحم أضفى على الموقف جمالا ينبعث من ثغر حورية الجنان.
نظرتُ إليها برومانسية موغلة في البدائية وكأني أرعى إبلي على أعالي بلادي ولست سائحا في منتجع مشهور يرتاده المحبون وعشاق الطبيعة، وممن تجولوا في العالم واستجمموا بسواحل المتعة. وبعد معركة رهيبة في داخلي عزمتُ أن أوجّه إليها التحية كمناورة استراتيجية تلطف الأجواء المشحونة بالترقب والانبهار. ألقيت مرسال كلماتي نحو درب وعر وملامح آسرة غطتهه كبرياء أنثى ساحرة! لم تلتفتْ إليّ ولم تأبه لفضولي بل عزفتْ على وتر اللامبالاة المدويّ وتوغلت في نظرتها المركزة للأفق وكأنها تقرأ تفاصيل الطبيعة أو مصابة بجفاف العاطفة.
حاولت عبثا أن أتقرب إليها وأتواصل معها عاطفيا لكنها واجهت توسلاتي الروحية وإيحآتي الرومانسية بمزيد من البرودة المحيّرة! ليت الأمر توقف عند ذلك بل أخذت انطباعا سئيا وفسرتْ هذه الجرأة حبا للاستطلاع وفضولا ساذجا لصعلوك يتودد إلى قلوب الغواني بكل الطرق، وربما قالت في نفسها هي مجرد حركات صبيانية ونزوة تقوده إلى سندريلا الزمان ومن تغار عليها الظباء ويخفي القمر طلعته استحسانا لجمالها.
وبعد إلحاح مثير من لغة الجسد استقبلتني بنصف ابتسامة باهتة بلا عنوان أظهرت ثغرها وكأنه "شمس تجلّت من غمام"!، جمعتُ قوتي ولملمتُ أطراف مشاعري وأرسلتُ إليها زفيرا ساخنا وجملا متقطعة ماكرة تلبي الحاجة وتفي المقصود ويلفها ضباب الخوف من المآل، دارتْ وجهها الصبوحي 90 درجة بسبب حياء أنثى تقليدي وطغى على تعابيرها أناقة الرضى التي مهدت حوارا باهتا لم يدم طويلا بل أجهضه الزمن كعادته.
غادرتُ الشاطئ وأنا أجر جنين الهوى وخيبة الفراق بعد أن فرق النوى بيننا، وفي سحيق الجوى تذكرت أبيات لأبي حزم، وتمتمت بها وأنا أودع لؤلؤة الشاطئ، ولا أدري هل يجمعنا الزمن مرة أخرى أم هكذا يطبع البين صورته على حياتنا ويفرق شمل المحبين؟ وهل تمر حياتي وتجمّل أناقتها على مسيرتي ولو كعابر سبيل؟!
كيف أذم النوى وأظلمها *** وكل أخلاق من أحب نوى
قد كان يكفي هوى أضيق به *** فكيف إذا حل بي نوى وهوى
استغربتُ ضعف قلبي وسرعة عاطفتي وقصر الزمن، ولكن لا غرو فأيام الربيع أقصر فصول السنة وأروعها. و للمشاعر سلطان على القلوب، وبعض الحب يبدأ من أول نظرة، ولوعته ولمساته الحانية على بساط الطبيعة العذراء يصعب مقاومتهما.
كما كنت بعيدا عن وطني كنت بعيدا عن كنف الوصال وهمسة الحبيبة في هدأت السحر فشكلت الإبتسامة والموافقة الوجدانية إنجازا يكتب بماء الذهب في ذاك المساء الصعب. رجعت بخفي حنين ينتابني الشوق وتلهيني تلك الابتسامة العذبة. ولكن كما جمعتنا نظرة عابرة كانت ستتطور أن لم يجهضها الزمن إلى رحلة وجدانية عامرة قد تجمعنا الأيام على ربوع وطن يمتد بامتداد الإبل والسمرة والمحيط.
أرخي الليل سدوله وسلمت جفوني إلى الكرى؛ فطاردني طيفها وهاجمتني إلف المحبة بلا حبيبة تشاركني لوعة الوصال، وبت ليلتي أناجي طيف غائبة لا أعلم هل أتلذذ بهمس حروفها ونشوة كلماتها وعبق أريجها الفواح؟ أم خلق لغيري ليعيش مسرات لا تنتهي وحبورا لا ينقطع؟ توجهت إلى غرفتي تحت قبة ليل مظلم عاطفيا! كنت منهمكا لتنظيم تراكم الحب في رفوف الذاكرة؛ لأجعل حبي الجديد ملئيا بالشجن.
تمر الأيام والليالي وبعض الذكريات تكون عالقة بين طيات الذكريات وحافة القلوبالذكريات الصادحة من بعيد وفي غرفة حالكة الظلام جعلتني لا أنام ليلاً، بل أغرد وحدي على سراب الغربة كطائر عنيد يغنى لرفيقته على ضفاف عين مدينة بيدوا فتثير شجني وتعذبني في المنافي التي لاتمنحنا سوى الدهشة وتجاعيد تطبع على سمرتنا القمحية بصمات الأعوام.
زرائب الذكريات تؤثر على الأعصاب والمشاعر كفنجان قهوة ترتشفه على مهل في عمق جكجكا ورقصة الطانتو وأغانيها تنساب من بين الأزقات المعبقة بالنضال ودولة القوافي، وتغيّر المزاج كمفارش القات في هرر حيث تستقبلك الجميع بابتسامة حضارية تتوسد مآثر الماضي وملاحم الأبطال وقصور السلاطين وأغاني شجية ذات أوتار خماسية تذكرك كيف يقفز الحب عوائق الطبيعية والحياة، وكيف يتلذذون بصوت العندليب موغي وهو يعزف عوده الطري ويردد مناجاته الشجية مع الحبيبة ويعاتب الجغرافيا ويتذمر عن الأميال والفراسخ والطبيعية الممتدة في جو رومانسي حالم. 
Baal goray Haldhaa iyo Biyoo Dahab lamoodyeey
Buuraha dhaxdeeniyo Badda yaa intuu dhuroo
Bari laga gudbaayiyo Ban cidl’,ah kawada dhiga.
كم أنا مولع بالمقاهي التي تقدم تلك الأغاني كطريقة خاصة للاستقبال والاعتذار معا.

وبعد اسبوعين من المعاناة وتعلق غريب لشخصية غير معروفة اعترفت أن التعلق بمعدوم قد يؤدى إلى شرب المنون صفواً، وبما أنني لم أزل أتمسك بخيط حب غامض واستحال الوصال مع المعشوقة عزمت على الرحيل نحو المجهول، وأن أستمع إلى صوت العقل وانقطعت عن الغزل وأسبابه إلى الأبد وعدت إلى رشدي.

الفن، الاستبداد والاشتراكية.. وأشياء أخرى!

  بعد يوم غائم أعقب أسابيع من الحرارة والرطوبة الشديدتين؛ كان الليل الكسماوي صافيا وجميلا. الرذاذ الذي بدأ بالتساقط بعد التاسعة مساء ومجالسة...