الثلاثاء، 1 أكتوبر 2013

ملحمة إسطنبول و ذكرى النجمة الخامسة للمهول 1



ليلة الخميس25.5.2005م،  كانت الليلة الأولى في حياتي التي حضرت أول نهائي للشامبيونزليج وأنا مشجع للكتيبة الحمراء ومهول المرسيسايد العريق ليفربول بقيادة الكابيتانو جيرارد والجنرال بنيتيز، كنت في كسمايوا جنوب الصومال وفي نادي لا بيعد كثيرا عن عمق المدينة كان المتنفس الوحيد في زمن الحروب والمليشيات المسلحة.

حشد كبير من مشجعي ميلان جعل النادي وكأنه مدرج أفريقي من مدرجات سانسيرو، وللعلم فالصومال قبل عقد ونيف كان التشجيع للفرق الإيطالية بحكم الاستعمار الإيطالي للصومال وقوة الكرة الإيطالية (جنة كرة القدم) في نهاية التسعينيات وبداية الألفية، مشجعي المهول جلسوا على الصفوف الأمامية كالعادة بزيهم الأحمر وحناجرهم السمراء، يرددون نشيد الحب والحياة: لن تسير وحدك أبدا!

كان الصخب عاليا فاختفت كلمات المعلق، هدير وضوضاء وأغاني إيطالية وإنجليزية وكأني أتفرج المباراة من على مدرج ملعب أتاتورك في وسط إسطنبول! بدات المبارات ولم تحتاج إلى جس النبض ومقدمات، بل دخل الفريقان في لب الموضوع في الدقيقة الأولى من زمن المباراة، دخلنا التحدي والهجمات المتتابعة في الدقيقة الأولى وكغير عادة المباراة، اجتاحتني قشعريرة بلاعنوان وأنا أتابع تشكيلة الروسونيري التي ضمت نجوم المجرة وعباقرة الساحرة المستديرة.

 كرة ثابتة في ظل حارس مرمى اشتهر بتذبذب المستوى ودفاع ضعيف مقارنة بعمالقة ميلان، تحسر واضح، تنهيدات وخوف يسدل أستاره على الجناح الأحمر للملعب، أنبرى لها ملك الريجستا بيرلو وسجّلها مالديني ببراعاعة موغلة في دهاء الطليان، توتر ونظرات غريبة في المدرجات وانكسار على وجوه اللاعبين، بنيتيز يصحح ربطة عنقه، وجيرارد يضبط شارة القيادة! وكاراجير يشجع اللاعبين ويحثهم بمزيد من العطاء والركض والجديّة.

 بدا التوتر واضحا في محيا الجميع، وكأن المبارة إنتهت وليست في الدقائق الأولى من شوطها الأول. بينيّة متقنة راقصة من ملك السامبا كاكا ولمسة لاتينية من قائد هجوم تانغو كريسبو مزقت عذرية الشباك!. تفنن في الإذلال ولدغة ثانية في وسط ذهول المشجعين، ليل بهيم وإحباط، استحواذ تام لكتبية الفني الإيطالي أنشيلوتي وتيه لكتيبة الإسباني بنيتيز.

ليفربول يبدو أنه ليال كارثي بكل المقايس، الخطوط الثلاثة متباعدة، هجوم خجول يقوده تشيكي لايملك مهارات اللاتين ولاجدية أوروبا، ودفاع مهترئ بقيادة طيب الذكر سامي هيبيا، وخط وسط متباعد ومتشتت لايستطيع مجارات خط وسط ميلانيستا الرهيب. لمسات من زمن الجميل، وهزة عنيفة بقياس 9ريختارعلى شباك الحارس البولندي دوديك ثلاثة صفر! فغر الجميع أفواههم! وهنا كدتُ أن أرفع الراية البيضاء، ووقفت عىي مشارف اليأس، ولكن علمتنا المستديرة أن لا يأس إلا بعد صافرة نهاية المبارات، وليفربول لا يعرف الإستسلام أبداً. أنتهى الشوط الأول على أمل أن يحمل الشوط الثاني الخبر السعيد للكتيبة الإنجليزية.

بدأ الشوط الثاني بأهازيج أنجليزية وصيحات إيطالية، تناسق بديع لكل الأشياء، الوجوه جميلة والميدان إكتسى لونه في ليلة كتب لها أن تكون أروع ليلة في نهايئات أوروبا على مر التاريخ، شاشة الملعب  تشير إلى شيء غريب! ثلاثة للميلان، صفر للمهول! لا أفهم ماذا حدث ولم أكن أريد أن أعرف!، إنهمرت عليّ التساؤلات من كل حدب وصوب، هل تنتهي الليلة بفضيحة كروية مدويّة تزلزل عرش المرسيسايد؟ هل نتسطيع حفظ ماء الوجه ونسجل هدفا لرد الإعتبار على الأقل، استبد بي الخوف وكنت في قلق شديد.

ما أغرب مسار الكرة هذا المساء وما أعقد منطق المستديرة! لماذا يعاند الجلد المنفوخ ليفربول؟ الا يستحق أن يعيد النادي العريق اسمه وتاريخه الأوروبية من جديد؟ ولكن اقتنعت بمقولة شهيرة استمدت منها القوة والعبرة "التاريخ يعيد نفسه" فتاريخ الزعيم حتما سترجع وستحرق عاصفة الزعيم ليل أوروبا.

بداية غير متوقعة بل عادية في مجملها، ولمسات لا تنبؤ بإشراقة نور الهدف والأسبقية إلى هز الشباك، كرات طويلة بلا عنوان في ظل تكتل دفاعي واضح للميلان لإمتصاص الحماسة وجص النبض، لاحيلة للزعيم سوي التسديدة من خارج منطقة الجزاء، تمريرة ذهبية كالعادة من جيرارد للماتادور ألونسو وتسديدة قوية تمر على جوار القائم، قفزة هيستيرية لمشجع ليفربولي يمني النفس أنها ضربة البداية لمشروع الأهداف التي سوف تمطر على شباك الطليان، ولكن الأمنية معظمها لا تتحقق وتبخرت آماله! ومرّ الطليان بسلام ولكنها حقا كانت طلعة إستكشافية من الماتادور ليهيء الجو للقلب النابض وأسد "الأسود الثلاثة".

في وسط هذا الأجواء درس الجنرال سر قوة الميلان فكانت الجواب مصدمة ! لماذا لم أرى أولم أدرك قبل فوات الأوان؟ سرّ قوة الميلان في خط وسطه الناري خمسة لاعبين من الطراظ العالمي في منطقة المناورات، أمام ثلاثة لاعبين لم يقو عودهم ولم يخوضوا مباراة كهذا وتنقصهم الخبرة وشخصية البطل إذن مالحل؟ في الدكة يوجد ماكينة ألمانية تطحن الرجال وتقطع الكرات وتمرر بدقة متناهية.


همس الجنرال على أذن الألماني بكلمة اتبعها ابتسامة عريضة لوجه طالما أمتعنا واطربنا في داخل المستطيل الأخضر، بدأ بتسخين جسمه بعيدا عن الأنظار وزجّه الفني الإسباني فى الدقائق الأولى من عمر الشوط الثاني بديلا للظهير للأيرلندي فينان، إمتلكنا زمام منطقة العمليات وأصبح خط وسطنا من يضبط إيقاع المباراة، خط وسط رهيب يدعمها رمانة خط الوسط إستيفي جي، معركة كسر العظام تجري في منطقة العمليات وكثافة عددية هائلة وزحمة غريبة أفقدت ميلان سيطرتها المطلقة للمباراة.

بتعليمات من الفني الإسباني بنتيز هاجمت ليفربول من الأطراف والعمق، كرة هوائية من الجندي النرويحي ريسه تحلق بعيدا لتهبط رأس القائد بطبق من ذهب، سدد نحو المرمى برأسية متقنة جلجلت جنبات الملعب. بث ستيفن جيرارد روح القوة والقيادة للمشجعين بحركاته المميزة قوموا، شجعوا.. أطربوا... اضربو الدفوف... أطلقو الزغاريد... صفقوا .. واصلوا الجنون! فكان هدفا بمثابة ولادة قائد من نوع جديد، ولاعبا من كوكب آخر أستحق الكرة الذهبية لولا فساد فيفا ومجاملاتها ولهثها أمام سراب المال والإعلام.

ليلة البدلاء والقادمون من بعيد، تمريرات طولية وعرضية تستقر على أقدام التشيكي سميسر وتسديدة صاروخية تسكن شباك الحارس البرازيلي ديدا. أصبحت الأمنية مشروعة والهدف الثالث مجرد مسألة وقت لأ أكثر، إستبسال في الدفاع، إستماتة في الهجوم، حيوية في الأطراف، نشاط ذهني وتكتيكي كبير للمدرب، تفاني وحب وإخلاص للشعار إنها ملحمة بنكهة كروية خالصة، تمريرة تبدأ من الماكينة إلى الماتدور وترمومتر خط الوسط إلى بينية للزعيم جيرارد.. توغل وسرعة كالبرق وإعاقة من المستهتر جاتوزو وضربة جزاء إحتسبها الحكم الإسباني جنزاليز لصالح ليفربول.

القائد لم يكن آنذاك يحسن التعامل مع ضربات الجزاء هامان فنان ولكنة دخل للتو، لماذا لا يجرب الونسو ذلك الشاب الواعد حظه، أنبرى لها وسط ترقب وصلوات المشجعين، سدد ولكن ضاعت! رباه ماهذا الجنون....إلهي ماذا يحدث أمامي ضربات القلب ترتفع، زفرات تصعد، أقل من لمح البصر والكرة ترجع إلى أقدام الماتدور ليسدد هذه المرة بنجاح وينفجر الملعب على بكرة أبيه إحتفاء بالهدف، ست دقائق إلتهمت عاصفة الإنجليز مراكب الطليان، ست دقائق للذكرى وللتاريخ، ست دقائق غيرت مجرى المباريات، ست دقائق مرت عليناسريعا كلمح البصر وباردا كالثلج وتراقص الامل أمامنا، وست دقائق كان العذاب والتشنج حاضرا للجهة الأخري من الملعب.

الفن، الاستبداد والاشتراكية.. وأشياء أخرى!

  بعد يوم غائم أعقب أسابيع من الحرارة والرطوبة الشديدتين؛ كان الليل الكسماوي صافيا وجميلا. الرذاذ الذي بدأ بالتساقط بعد التاسعة مساء ومجالسة...