الأربعاء، 13 ديسمبر 2017

Lagaan.. عندما تحدد لعبة مصير أمة


منذ أن سيطرت البرتغال على أجزاء من الهند بعد اكتشافها رأس رجاء الصالح الذي قصّر المسافة وحوّل مسار التجارة والملاحة البحرية العالمية كانت الهند بما فيها من الثروات والسكان والثقافات محل اهتمام أوروبي متزايد، وبعد أن دخلت القارة العجوز عصر الصناعة والتقانة وتطلعت إلى ما وراء البحار بغية السيطرة عليها واستنزاف الطاقات والموارد الطبيعية للشعوب الغارقة في الضعف والإنقسام زاد الإهتمام ودخل كل من فرنسا وإسبانيا وألمانيا وبلجيكا وهولندا السباق المحموم نحو خيرات المشرق ونهب تراثه وحضارته الضاربة في جذور التاريخ من أجل توفير المواد الخام لمصانعهم وإيجاد أسواق عالمية لبضائعهم وأفكارهم.

وفي منتصف القرن التاسع عشر الميلادي وصل الراج الإنجليزي إلى الشبه الجزيرة الهندية التي كانت قبائل وكيانات وإمارات متفرقة ومتناحرة يجمعها الجغرافيا ويفرقها المصالح والمبادئ وحب السيطرة على الآخر فحكمها الإنجليز بموجب معاهدات أبرمها مع الأمراء والملوك وزعماء القبائل الذين كان همهم التقوّي بالكولونيالية وتمكينها للأرض من جانب، ونكاية ا لمحتل الأوروبي الآخر كإسبانيا والبرتغال وهولندا الذين كانوا يمارسون العنف والاضطهاد البشع على المواطنين الكادحين من جانب آخر.

ظن البسطاء الهنود أن بريطانيا التي تظهر دآئما في بداية الاحتلال المرونة والتفاهم وكسب ود الأعيان والقبائل والسلاطين وإبرام المواثيق المجحفة تحت جنح المال والإمتيازات والتفرقة أقلّ وطأة من الأوروبين فسلموا البلاد والعباد إليها، وحقيقة القول كانت تمهيدا للكولونيالية الغربية في أسيا وافريقيا وأقطار كثيرة من أمريكا اللاتينية، ولم تمكث بريطانيا كثيرا حتى تغلغلت في أوساط الشعب وربوع الأرض وأصبحت الهند دولة مركزية لإمبراطوريتها التي لاتغيب عنها الشمس التي تمتد من أستراليا إلى أمريكا ومن هونغ كونغ إلى غانا، وكان حكم البريطاني للهند يشمل في بعض المرات عدن والشمال الصومالي وجزر المحيط الهندى.

كانت بريطانيا ـ رغم تفوقها العسكري والمعرفي وتماسكها الداخلي ـ الدولة الثالثة أوروبيا التي وصلت إلى الهند، ولكن جاءت بفترة كانت في غاية الأهمية حيث ضعف الحكم الأوروبي في آسيا مما جعلها الوريث الشرعي الوحيد في أملاك البرتغال وهولندا، وبعد وصولها أولت اهتماما خاصا للهند لما لها من ثقل سياسي واقتصادي واستعماري بالنسبة لبريطانيا، لأن احتلال الهند كانت بمثابة إثبات الذات وهزيمة الأنداد الأوروبين في ميدان الاستعمار واستحواذ إرث الممالك القديمة الذين حكموا على العالم طيلة القرنين السابع عشر والسادس عشر بفعل القرصنة البحرية وازدهار تجارة الرقيق ومزارع قصب السكر والقطن والتبغ والبهارات في الكاريبي والبرازيل والسيطرة المطلقة على الطرق التجارية الرئيسة.

كانت الشركة الهند الشرقية East India Company التي أسسها جون واتس في القرن 17م بتفويض ملكي مباشر لتكون وجها تجاريا للتاج البريطاني ترمي إلى إبعاد المنافسين المباشرين من المنطقة الحساسة والإنفراد التام لتلك الأراضي الغنية بمواردها الاقتصادية وموقعها الجغرافي الحيوي وكثافتها السكانية، إضافة إلى إيجاد بديل للتوابل والطرقات القديمة للتجارة العالمية، وفي خضم بحثهم للتجارة البديلة وجدت الشركة أن المنسوجات الهندية قد تكون بديلا مناسبا فبدأت السيطرة على الهند إنطلاقا من هذه النظرية الاقتصادية.

استقر الانجليز على ربوع الهند ومنذ صدور قانون التنظيم وتعيين وارن هاستنجز الحاكم الفعلي العام للهند البريطانية بدأ العهد الفيكتوري في الهند التي لم تكن لقمة سهلة، بل كاد الحلم أن يتبخر  بعض المرات حيث واجه الحاكم البريطاني تحديات جمة ومظاهرات عمت البلاد وحروب شرسة قادها الأمراء الذين ناضلوا ضد التمدد البريطاني، ولكن بفعل السياسة الاستعمارية القديمة الجديدة (فرق تسد) إستطاع أن يفرق الشعب الهندي على أساس الدين والعرق والمصالح مما أضعف النسيج الاجتماعي وضرب الوحدة الهندية في مقتل.

ورغم التغلغل الإنجليزي وسيطرته التامة على مفاصل الوطن إلا أن الاحتلال الرسمي والفعلي لشبه الجزيرة الهندية بدأ فعليا عام 1875م عندما بسط نفوذه على شبه الجزيرة الهندية وسريلانكا وميانمار ونيبال، وبين ليلة وضحاها فقد الهنود أنفسهم ووطنهم وذاقوا الويلات وتجرعوا مرارة الانقسام والحروب الداخلية ونهب الممتلكات والثروات باسم الحضارة والتفوق العرقي والمعرفي، وتحولت القرى والمدن والمزارع والإنسان إلى ممتلكات للرجل الأبيض الذي جاء بحثا عن موطئ قدم وزعامة العالم الذي رسمته أورروبا وقسمته من جديد حسب مصالحها الاقتصادية والسياسية والدينية.

وقد أخلد الهنود هذا التنكيل والتهجير القسري والسادية في بطون كتبهم وأفلامهم وأشعارهم وتراثهم الفني والفلكوري، ومازالت تلك الحقبة المظلمة تشكل ندبة سوداء على جبين الحضارة الغربية التي حاولت إذلال الجموع الهندية وطمس حضارتهم وتغيير معالمهم ونهب إنتاجهم وقتل ماضيهم وتشويه حاضرهم ومستقبلهم.

ومنذ أن بدأت السينما الهندية إنتاج الأفلام الناطقة عام 1931م كان النضال من أجل الحرية وتخليد أسماء أبطال الاستقلال في صفحات التاريخ والذاكرة الجمعية للهنود والعالم الفكرة المحورية والمحرك الرئيس لمئات الأفلام والمسلسلات والمسرحيات، ومن الأفلام التي تناولت قضية الكولونيالية الأوروبية وتعسفها طيلة عقود Lagaan الذي يؤرخ جور الاحتلال البريطاني ومضايقته للسكان المحليين، الفيلم من إخراج أشوتوش جواريكر وبطولة عامر خان وجراسي سينج وراشيل شيلي وبول بلاكثورن، ورُشح لجائزة الأوسكار كأفضل فيلم بلغة أجنبية، وكان الفيلم الهندي الثالث الذي يرشح لهذه الجائزة في حينه بعد Mother India 1957  و Salaam Bombay 1988 وحصل على جائزة فيلم فير لأفضل فيلم وأفضل ممثل عام صدوره 2001م.

الاثنين، 13 نوفمبر 2017

الصومال.. جذور تمتد نحو التاريخ

كان الجو صحواً والأشعة ترسل دفئها على جنبات الكون، الأجواء مترعة بمرح الأطفال ووجوه جذلة بزغاريد الأعياد والحفلات الدينية في قُطر يعتبر الدين نبضه الأكبر والمكون الأساسي للثقافة والانتماء. بعد الثالثة ظهرا وصلت إلى مدينة جالكعيو، كانت منهكة منذ أن أصبحت ضحية للمزاج السياسي وصراع القبائل وشبح الاغتيالات، في وسط هذه المدينة الحزينة يرهقني التفكير، كيف حوّلها تجار الحروب من مدينة باسمة تعتبر شريان الصومال إلى مدينة يفصلها خطوط الموت وشوارع مغلقة بالمتاريس والأحجار تقسم الشعب وكأنها برلين الحقبة الباردة!

شجن الأيام وعلى وقع مدينة علّق الصوماليون عليها آمالا جساما رغم التشظي يجعلني أبكى بصمت وأراقب عبر نافذة السيارة التراث والإبل والجبال، الطريق معبد ويخترق جبال من كالكوارتز الذي يدخل في صناعة الكهرباء والمجوهرات والسيراميك إذا وجد الأدمغة المتعلمة، توقفنا قليلا على مشارف قرية ريفية صومالية الطابع والملامح، وبعد لحظات من احتساء الشاي بدأنا المسيرة وتعمقنا نحو الجمال الذي يغفو على جبين الثروات والانكسارات، هنا أغنام تسرح، وهناك راعي على الهضبة المجاورة ينشد لإبله، وسمراء تمضغ صمغا وتضحك بلذة فاتنة، والنساء الصوماليات لهن ضحكات مثل الأجراس سلاسة وإيقاعا.

الصوماليون رعاة مهرة، وصيادون من الطراز الأول، ومحاربون أشداء، يمتد وطنهم التاريخي من رمال المحيط شرقاً إلى هضاب الحبشية غرباً، ومن وراء نهر تانا جنوباً إلى جوار الدناكل بمحاذات البحر الأحمر شمالاً، ولم يكونوا طيفا واحدا في المهنة والحياة، بل كانوا رعاة رحل في الريف والأدغال، وتجارا في السواحل، ومزارعين على السهول وعلى ضفاف الأنهار، والسبب الذي جعل أرضهم مترامية مقارنة بأعدادهم هو التنقل والبحث عن القطرة والعشب، وإذا ما وصلوا إلى أرض تسودها المياه والكلأ كانوا لايعودون منها أبداً، وقد أجبرتهم الظروف أن يكونوا متمرسين في الحروب والنجدة والسير لمسافات طويلة على الأقدام.

وقفت على أعتاب بلاد البخور والعطور والممالك التي حكمت على المنطقة ووصل صداها إلى الهند والسند والصين وبلاد العرب وسوفالة وزنجبار وموزامبيق. كان الاتصال دائما لاينقطع بين الصومال وبين الشعوب وخاصة سكان شرق الأوسط من الكلدانيين والكنعانيين والآشوريين وغيرهم، وتروي الكتبُ الرحلات التاريخية للقبائل العربية إلى شرق أفريقيا منذ فجر التاريخ.

وعندما بزغ فجر الإسلام عرفت المدن الساحلية الإسلام قبل أن يصل إلى المدينة المنورة، وذلك عندما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه الهجرة إلى القرن الأفريقي، ومنذ هذا التاريخ كان التداخل العربي الإسلامي مع سكان شرق أفريقيا والقارة عموما يتم بطريقة حضارية، ولم تكن الطبيعة تقف دون العرب ونشر دينهم وممالكهم فشيّدوا المدن وأثّروا على الملامح واللغات والفن والتركيبة السكانية.

لقد أسس العرب حضارات وحكموا على المنطقة ومازال أطلال مدنهم باقية على شواطئ المحيط الهندي لتدل على التطور العمراني والحضاري للعرب، كانوا قادة العالم في القرون الوسطى من حيث الحراك الثقافي والكشوفات، واتسموا بدقة النقل والأمانة العلمية، ويعتبر ابن بطوطة والمسعودي والادريسي والحمداني وياقوت الحموي وعلي بن سعيد المغربي الذين زاروا الصومال وكتبوا أنها كانت من أكثر البلدان الإسلامية رخاء، كما كانت الممالك الصومالية تحمي المقدسات الإسلامية وتسيطر على الطرق الرئيسة للملاحة البحرية روّاد هذا المجال.

كانت ملاحظاتهم مذهلة وانخراطهم في الشعوب الأصلية تتيح لهم معرفة الخبايا والتغلغل في نفوس الأفارقة ومعرفة البلدان والقبائل، وتعد مراجعهم في غاية الأهمية خاصة وأن العرب كان لهم أكبر الأثر في الصومال منذ أن هاجرت إليها القبائل العربية بعد انهيار سد مأرب وما تبعه من الهجرات.

كنت غارقا في وحول التاريخ ومطبات الجغرافيا، حيث المعالم الأثرية ومجالس سلاطين ورسنجلي تفوح منها رائحة العراقة. سلطنة ورسنجلي تأسست على المناطق الشمالية للصومال في القرن الثالث عشر وذاع صيتها بعد بروز حركة الدروايش كقوة محلية قوية عام1897م، وخاضت السلطنة ضد الحركة حروبا من أجل البقاء، ورغم صراعها ضد الدراويش والقبائل لم تستسلم السلطنة نهائيا، بل استمر حكمها إلى أن تربع على عرشها السلطان محمود علي شري الذي نفاه الإنجليز إلى جزيرة السيشيل مع الثائر المصري سعد زغلول خوفا من تنامي قوته وتأثيره بعد هزيمة الدراويش عام1921م.

الأحد، 23 يوليو 2017

أميستاد .. رحلة نحو العبودية


قبل أن تصبح أفريقيا مرتعا للكواسر الأوروبية منذ القرن 16م كانت المدن والقرى المتناثرة على أهداب الأنهار وكتف المحيطات وجبين التلال مرحة وراقصة، تجاور الأرض والبحر والسماء، تحيطها حقول ومروج ممتدة وخلجات إنسانية أليفة تنسجم مع وهج الشمس والعيون الريفية الحالمة تحت إيقاع أفريقي دافئ، ولم يكن الإفريقيون يعرفون سوى البراءة والحروب القبلية والمناكفات العشائرية التي طوت في داخلها أنواعا من العبودية الناعمة وإن لم تصل إلى درجة التجارة والبيع في سوق النخاسة، وبعد قدوم أوروبا الجشعة التي تدنّس القيم وتقدّس المال تناحرت القبائل وتسابقت القوميات من أجل كسب ود المحتل ومساعدته لبلوغ هدفه الإستعماري فقاموا ببيع بني جلدتهم وسُجل في غضون قرنين شحن أكثر من 18مليون أفريقي إلى الغرب كعبيد.

لقد نشطت السفن الغربية في أفريقيا من أجل السيطرة على المصادر الطبيعية وتجارة الرقيق، وكابدت القارة حيال ذلك خسائر فادحة إقتصاديا واجتماعيا أدى إلى خلل في النسيج الاجتماعي وضياع الهوية والمعالم ومصادر الحيوية والطاقة، حيث كانت تتراوح معظم أعمار العبيد الذين تم شحنهم إلى الغرب مابين 15 إلى 45عاما، ورغم مرور مئات السنين من إنتهاء الرق تتقلب أفريقيا ما بين إستبداد محلي وملامح رسمها الإستعمار بوحشية تعف عنها الوحوش الكاسرة، وانتشر العنف وساد الجهل والمرض في أصقاعها.

أحاطتني غيمة من الكآبة وأنا أتابع المشاهد المحزنة للفيلم الدرامي "أميستاد" الذي يعالج الحدث الأسوء في تاريخ البشرية إطلاقاً (تجارة العبيد)، الفيلم الذي رشح لجائزة أوسكار بعد صدوره عام 1997م من إنتاج ستيفن سبيلبرغ وبطولة مورغان فريمان ودجيمون هونسو وأنطوني هوبكنيز وآخرون جسّدوا المعاناة بكثير من المصداقية والإنسانية.

يستعرض الفيلم بطريقة دراماتيكية مبكية ألوان العذاب والهوان الذي مورس ضد الشعب الأعزل بعد إختطافهم من مرابعهم إلى المخافر، وبعد ساعات يجد المرأ نفسه في  صفوف طويلة وعارية تتجه نحو مرافيء الشحن!، والمدهش المثير للإشمئزاز هو ترحيلهم إلى القهر على قع أجراس الكنسية وترانيم القساوسة، وكأنهم يبشرون العبيد في عالم الوحشية، ولاغرو فالمبشّرون ظلوا الوجه الناعم للمحتل، وكانوا روّاد التمهيد والاستكشاف.

بمباركة الكهنة وبكاء الأبرياء تتجه سفينة الصداقة التي أصبحت رمزا للعبودية إلى الحياة القاسية، ليكون السود على متنها النواة الأولى لإنتاج الثروات وإنشاء الحقول وحفر القنوات وبناء السكك الحديدية وتحريك عجلة النهضة الصناعية للغرب الذي اختار شعوب أفريقيا بالذات من أجل البنية الجسمانية القوية والصبر وتحمل المشاق.

يتكدس الأفريقيون التعساء في داخل السفينة، والإسبان يمارسون السادية والإذلال، أبرياء مقيدون بالأصفاد والسلاسل، تجريد عن الملابس، شتائم وعهر أخلاقي وكراهية وتفنن بالقتل، جوع وإهانة في تقديم الطعام، ملامح شاحبة، وحلاقيم ناشفة، هنا إنتهت الإنسانية إنهم عبيد لاحقوق لهم، قصة مؤلمة لم تنته فصولها وإن تدثرت بألفاظ رنّانة وأسماء ناعمة كهئيات أممية ومنظمات عالمية.

وبعد إختناقات في أقبية السفن والموت إرهاقا يهاجم الأفريقيون البائسون وببسالة نادرة على القبطان، تحدث معركة رهيبة نفسيا وبدنيا ويفوز الأفريقيون السباق نحو النجاة ليطلب قائدهم العودة شرقا نحو الديار، يتظاهر القبطان العودة فيما يواصلون رحلتهم نحو أمريكا، وبما أن البسطاء الريفيون يتميزون بقراءة النجوم والإهتداء بها ليلاً منذ أن استوطنوا في الفيافي والأدغال الماطرة راقبوا النجوم بعد منتصف الليل وبواسطتها أدركوا أن الربان غدرهم والسفينة متجهة نحو الغرب والعبودية وليست نحو الخلاص ودفء أفريقيا وحلمها الجميل. 

تمتد المعاناة من سيراليون وسواحل أفريقيا الذهبية إلى شواطيء الغرب ومن القوارب الصغيرة إلى أميستاد إنها مأساة تمتد عبر التاريخ والجغرافيا والأحاسيس، وبعد رحلة شاقة وصلوا إلى أمريكا وأصبحت حياتهم ملونة بالهواجس والظلامية والمخاوف، وفي لحظة بالغة القسوة يتم تقييدهم وربطهم بسلاسل مؤلمة تقودهم مجموعة من البيض في سخرية وازرداء إلى أسواق النخاسة، إنها تجليات حضارة الغرب المادية المبنية على العنصرية والإضطهاد.
يتنازع اللوردات وأصحاب الشركات على ملكيتهم ومصيرهم فيتم تجريدهم من الأسماء والأسمال والإنتماء والآدمية، وفي الزنزاناة الباردة الغارقة بالعتمة والأوساخ والطبقية ينام السود ويحاولون التمرد واستعادة الحرية ولو بالخيال ولكن للآلة الحديثة رأي آخر حيث البارود تحسم المواقف لصالح الإمبريالية.

شعور العبودية والفقر والتنوع الثقافي وضياع المستقبل تغزوهم في أمريكا، وفي وسط محكمة هزلية يهتفون " أعطونا الحرية .. أعطونا الحرية" وتتحول الحرية إلى نغم ومبدأ يعيش من أجله الأبرياء، الحلول معدومة والآمال تتضاءل ولا يلوح في الأفق سوى مزيد من الظلم والغطرسة، في بيئة مأزومة بالسخرية وترى العبيد أرقاما لاتخضع سوى معايير الربح والخسارة يتصدر المشهد أفريقي تحرر عن العبودية ليحمل مسؤلية المساجين وتحريرهم ورإجاعهم إلى وطنهم، وفي أروقة المحاكم والقوانين يبحث عن العدالة وقاضي لم ينسلخ عن الآدمية ولم تعمه شهوة المال والسلطان، ولكن كيف يجد والقوانين والعادات والتقاليد السائدة في المجتمع الأمريكي تكرّس العبودية وترسخ  نظام الطبقية والتفوق العرقي كما كَتب سولومون نورثوب في مذكراته 12عاما من العبودية؟

الثلاثاء، 20 يونيو 2017

أمي .. ذكريات الرحيل والألم


ولا ينبيك عن خلق الليالي .. كمن فقد الأحبة والصحابا
من الصعب أن نكتب شئيا عن الأحبة الذين رحلوا من الفانية إلى الخلود، ومن ضجيج الكون إلى صمت المراقد وسكون القبور.

في هذه المقدمة أحفز نفسي وأنا أقف على أعتاب الذكرى 9 لوفاة والدتي الحبيبة فاطمة أحمد طاهر، وأحاول أن أكتب عنها شئيا للذكرى، وكوفاء لحبها السرمدي وتجديدا للأمومة التي فقدتها، وأسعى جاهدا أن أخفف بركان الحب الذي يغلي في داخلي ويثير كوامن الحسرة في نفسي الضعيفة التي لا تقوى أمام ضربات الحنين، وأن أتنفس ولو عبر المداد وأبوح ما يجيش في صدري من الحب والألم والصدمات التي تركها الرحيل المفاجئ لأمي التي كانت كل شيء بالنسبة لي ولأشقائي الأفاضل بنينا وبنات.

ولكن وعلى امتداد تلك السنوات العجاف أبدو عاجزا ولا أستطيع أن أجد سطورا تواسي نفسي المكلومة قبل شعوري النازف دما ودموعا، وكلمات تضمد الجرح النازف وتطبب الأحاسيس المختنقة في داخلي، وأحرفا تليق بوصف الأم وحنانها الكبير، وخاصة أمي التي كانت عصامية من الطراز الأول، ومناضلة من طينة المكافحات اللاتي يربين الأولاد بعرق جبينهن ويقمن بتضحيات جسام ستكتب التاريخ في زمن كانت مواصلة الحياة صعبة للغاية للشعب الصومالي على الأقل.

تجرعتّ مرارة اليتم صبيا، وفي صدر حياتي المترعة بالفقر والتنقلات والرحلات والتقلبات الكثيرة فقدت أبي وقبل أن أميز الأشياء وأتعرف على الوجوه المتواجدة في محيطي البيئي، وبتّ لا أعرف عنه شيئا لا عن حكمته ومركزيته للعشيرة، ولا عن سمرته الفاتحة وأناقته الكبيرة، ولا عن مرحه وشخصيته المحبوبة، ولا عن قامته الطويلة ولا كرمه الحاتمي حسب ما وصفه ندماؤه وأترابه الذين عاشوا بعده وقطعنا معهم شوط الحياة بعيدا، ولا أدري كيف كانت حياته المليئة بالبطولات المطلقة في مرابع أهله في البوادي والقرى والفلوات والمدن، ولكن سمعت نزرا قليلا عنه وحكايات تمجده وترفع قدره وكانت مصدرا للسعادة، رغم أني كنت لا أبالي كثيرا في تلك الحكاوي لأن الجهل بالأشياء أو الأشخاص نعمة في بعض الأوقات.

وبعد رحيل والدي المبكر أصبحتْ أمي هي الوحيدة في حياتي، تشفق عليّ وتهدهدني في الليل وتطلب في النهار رزقي، وعشت في كنفها أحبو وأركض وأنمو وأكبر، وأرمي إلى حضنها عندما تتعبني لعبة الطفولة وشجارها المستمر مع الأتراب والخلان، وأجد بجوارها أنس الأم ودفئها عندما أتحير في متاهات الحياة القاتلة في الكبر، وقامت مقام الأب والأم معا، وأدت واجبها الديني والأخلاقي تجاهنا بأكمل الوجه، بل تركت من أجلنا حقوقها الطبيعية وحاجاتها الإنسانية.

وفي هذه الحياة التي تدور في فلك الأم من الطبيعي أن يكون رحيلها قبل تسعة سنوات صدمة كبيرة بكل ما تحمله الكلمة من معنى وزلزالا قويا تعرضت له أسرتي! فكان يوما أسودا غابت عنه الشمس التي كانت تنير حياتنا وتبث الأمل في نفوسنا وتشد سواعدنا الناعمة لنستطيع مقاومة صعاب الكون، وفقدنا الأم المثالية التي منحتنا كل شيء من الممكن أن يقدمه الإنسان للإنسان في حياته ولو كانت هذه التضحيات على حساب صحتها وراحتها.

يوم مأساوي بكل المقاييس، ولم أكن أتصوره لهوله، لا عن إنكاري لمصيبة الموت الحتمية لكل الخلائق ولا عن الرحيل المرّ لأمي، ولكن بفرط تعلقي وحبي لأمي كنت أتصور أن أمي ستعيش سنوات قادمة وأياما آتية مديدة حتى ترى أحفادها يلعبون أمامها بعفوية الأطفال وجمالهم وبرآتهم، وحتى تقدم لهم الهدايا الملفوفة بالدعاء الصادق في جنح الليل وفي هدأت الأسحار حين تفتح أبوب السماء للمتضرعين.

لا أنسى ذلك الصباح الصيفي في العاصمة الكينية نيروبي وفي الحي المعروف بسوث سي south c كان البرد قاسيا جدا، وكانت الغيوم السوداء تحجب السماء، وكان الصقيع يؤلم أطراف الجسم ويمنح الأرض وشاحا من الضباب الناعم وكان كل شيء مختلف ومتغير! في الساعة العاشرة ونصف تقريبا من صباح يوم السبت 23.8.2008 فاضت روح والدتي الطاهرة إلى بارئها، فخيل إلى أن الحياة لا تستمر أبدا بناموسها المعتاد بعد هذا اليوم، وعم الظلام على حياتي وكأن الدنيا توقفت عن الدوران وامتنعت المجرات عن الحركات وتجمدت النجوم والكواكب في جوف الفضاء، وذابت الشمس وذبل رحيقها، وأفل القمر وضعف نوره!

مصيبة المؤت لغز مخيف وحقيقة مؤلمة لم يرتقي إليه البشر إدراكه ومعرفة كنهه، لذا لم أستطع أن أستوعب بسرعة ما يجرى في حولي وما يدور أمامي، أنياب الموت تنهش جسم أمي ومن عشت في رحمها قبل أن أرى النور وكبرت في كنفها بعد الولادة وسنوات اليتم المؤلمة، بكاء صامت وعويل يقطع أوتار القلوب، وذرفات من دموع الحزن تسيل على خدي، لم يتجرأ حد أن يقول ماتت من سهرتْ كثيرا لإسعادك وطوى صفحة أمك إلى الأبد، وأنقسم الناس بين مشفق لحالي وبين من خنقته العبرات واسكتته الفاجعة، وبين من يربت على كتفي ويحثني علي الصبر والتجلد.

ورغم أن جثة أمي الهامدة ممدودة أمامي دون حجاب أو حاجز أو حتى قطعة من القماش الناعم الذي يغطي عادة على الموتى، كنت أعتقد أن أمي في غيبوبة وأنها حتما ستعيد وعيها قريبا، وهذا ليس من صنع الخيال ولا نظرية مستوحاة من الأفلام، بل حقيقة عشتها في ذاك الصباح، وكانت مجرد أمنيات بسيطة لمتيم يعشق أمه حد الجنون، ربما كانت أحلاما سرابية كنت أهربها عن الحقيقة الصادمة والفاجعة التي حلت بنا في هذا اليوم!

السبت، 8 أبريل 2017

الصومال .. أدب برائحة الإبل

في مجتمع شديد الخصوصية وظل حاجزا ثقافيا بين العرب في الشمال وأفريقيا في الجنوب كان الصوماليون منذ القدم يملكون أدبا برائحة الإبل وعبق اللبان وتعاريج التاريخ. شكل رافدا للثقافة والملامح والحياة والتاريخ الفني والحضاري للصومال التي طالما وُصف أمة الحرب والشعر، وبلدا رائدا في محيطه حضاريا وأدبيا قبل أن تنهار حكومته وبالتالي إنهار معها الأدب وكثير من المظاهر الحضارية، حتى بدت الصومال في المخيلة العالمية دولة الفشل والمجاعة والقرصنة، وأمة لاتملك ماضيا مشرقا وثقافة بامتداد المحيط وأدبا بقدسية الشعر والحِكم في بلاد البونت.

رغم إقتران الأدب بالشعر في المخيلة الشعبية الصومالية لكونه بعيدا عن التأثير الغربي الذي أدخل القصص والروايات في الأدب الأفريقي الحديث إلا أن الأدب وبمختلف أنواعه يعتبر ورقة شفافة تعكس الخيال الملئي بالجمال والشعر وبحر الصراعات وأنهار الأغاني والألحان المعبرة بالإيقاعات المتأصلة في عمق التراث الذي يتكؤ لغة زاخرة بالجمل والألفاظ والمفردات والتراكيب، كما يعبر عما يدور في أوساط الشعب وتصوراته للحياة والواقع والمستقبل والماضي وطريقة تفكيره وأحاسيسه وتعاطيه للأحداث والتغيرات التي تطرأ في محيطه.

ومما يجعل الأدب الصومالي مهما في هذا الظرف الدقيق كونه يعتبر متحفا لوطن كان مدخلا شرقيا لأفريقيا، وأمة ظلت وبحقب مديدة شفهية تعتمد الكلمة في نقل الأدب والفنون والألغاز والألعاب والأساطير وسرد الأحداث. وكونه يحمل في طياته الشيء الكثير من التراث وحقائق عن الإنسان الصومالي وأصله الذي لانجده في أروقة الكتب وبطون القصص المكتوبة، إذ كان الشعب الصومالي يحفظ تاريخه وعاداته وأنسابه وأيامه عبر قوالب أدبية قاومت على المتغيرات وبقيت ماثلة إلى يومنا هذا. والقصص المروية في بطون الشعر والحكايات الشعبية توثيق لحضارة أمة وماضي شعب ترك بصماته الواضحة في منطقته.

ورغم تنوع الأدب الصومالي إلا أن الشعر يعتبر عموده الفقري ومنبعا مهما للحضارة الصومالية ومن أهم أنواع الأدب شيوعا واستخداما في الأوساط الصومالية منذ قرون، حتى أصبحت الصومال بلد الشعر والقافية، وكان الشعر وسيلة هامة يستخدمها الشاعر ليصل صوته إلى الجماهير، كما كان متنفسا مُهمّا يبث في طياته همومه ومشاكله والمشاعر التي تختلجه، وتارة كان سيفه التي يدافع بها قومه وعشيرته ووطنه أو القضية التي يؤمن بها، ولذلك كان الشعر في التاريخ الصومالي ترسا يحمي القبيلة أو الدولة، وبريدا للحب، وعنوانا للجمال، ولافتة للترحيب، وطيفا سابحا من الخيال الذي يبث فيه الشاعر القلائد الشعرية المزركشة بأجمل الأنغام وأشجاها وأصدق المشاعر وأدفئها.

والشعر الصومالي متفرد بطبعه ومتميز بكونه جزأ لا يتجزأ عن الأدب الإفريقي الذي له خصائص أدبية معينه تفرضه الحياة والواقع والميثولوجيا الأفريقية العريقة، كما هو أدب مشبع بالتراث والتأثير  العربي بحكم الموقع وروابط الدين والدم والوجدان والهجرات العربية المتعاقبة نحو المشرق الإفريقي منذ إنهيار سد مأرب وما تبعه من التغيرات مما جعل الأدب الصومالي عربيا بطريقة الأسلوب والإستهلال والأداء وتناول الأحداث.

وخلال المسيرة الطويلة للأدب الصومالي كان الشعر رمانته ولحنا يعزفه الحكماء والأدباء والسلاطين والعشاق في مختلف الأعمار والأمصار الصومالية، حتى أصبح الشعراء مفخرة القبائل وحفظت الذاكرة الجمعية أسمائهم، وأصبحت السلاسل الشعرية مشهورة تتناولها الألسن والأجيال وتتناقلها السمار في المجالس الثقافية والأدبية والفكرية والدينية.

كان الشعر الأصيل يحمل الذكريات والحنين للأطلال، ويصور الملاحم البطولية وملامح الحياة، ويصف الكون والحياة والإبل، والمرأة التي أبدع الصوماليون في وصفها سواء بلونها الأسمر الأنيق وقامتها الهيفاء وثغرها الباسم وجيدها الطويل وشعرها الأسود الفاحم، والجواد مفخرة الرجال، ومما حفظت التاريخ أن السيد محمد عبدالله حسن فاق الشاعر الجاهلي امرؤ القيس في وصف ومدح الحُصن، إذ كان مدح قائد الدراويش لحصانه المفضل حِينْ فِنينْ أبلغ وأكثر عمقا من وصف امرؤ القيس لجواده في معلقته الشهيرة قفا نبكِ.

لم تكن الصومال دولة هامشية في تاريخها، بل كانت مسرحا للأحداث ونضال الأدب والقوافي والنصال، ولكن وبعد الحروب والتشريد ووجود أجيال جديدة ولدت في المهجر بعيدا عن الأصالة والتقاليد من المطلوب دراسة الأدب الصومالي وخاصة الشعر والتعمق في الجوانب الغامضة للتاريخ والتراث، واستقصاء ما حوته الكتب القديمة، وأرشيف المستعمر، وألسنة المعمرين الذين يشكلون مكتبة عامرة وبموتهم تموت المعرفة والعادات التي كانت بعيدة عن الكتابة إلا النزر القليل المكتوب باللغة العربية التي معظمها أوراد وترانيم صوفية واشعار دينية ووطنية تنتمي إلى حقبة الإمام أحمد الغازي وثورة الدراويش وامتدادهما، إضافة إلى بعض الأدب الصومالي الذي وجد في المكتبات الأوروبية.

في عهد المستعمر الأوروبي كان القطر الصومالي الكبير يعيش حياة البداوة والإرتحال والإعتزاز بالنفس والحروب سواء كانت ضد أباطرة أباسينيا أو فيما بينهم، أو ضد الغزو الأوروربي، وحارب الصوماليون ضد أربعة دول أوروبية ومنعوا من الإختلاط والتمازج الثقافي والفكري مما أدى إلى عدم وجود أي أثر كولونيالي في الصومال، حتى بعد مكوث أورروبا في الصومال الكبير أكثر من 400سنة بدأ من النجدة البرتغالية في القرن السادس عشر حتى مغادرة آخر جندي أورروبي من الأراضي التاريخية للصومال عام 1977م .

وفي تلك الفترة ومقارنة بالأدب في أفريقيا الغربية أوالجنوبية لم يجد الأدب في شرق أفريقيا عموما والصومالي خصوصا رواجا من قبل المستعمر الأوروبي الذي ألّف كثيرا عن الغرب والجنوب الأفريقيين، ولا نعرف سبب هذا العزوف ولكن كون غرب أفريقيا الموانئ التي تشحن العبيد إلى أوروبا والكثافة القبلية والسكانية، ووصول أوروبا قديما إلى الجنوب، إضافة إلى عنصر الدين ونظرة الإنسان الصومالي للأوروبي، وانطباع الأوروبين لاسيما بعد مقتل الرحالة الألماني فون دير ديكن K.K.Vonder Decken الذي قتل بطعن حربة في مدينة بربرا شمال الصومال، والمضايقات التي لقيها الرحالة الإنجليزي ريتشارد بارتون  Richard Burton صاحب كتاب "أول أقدام في شرق أفريقيا"First Foot-steps in east Africa  جعل الأدب الصومالي بعيدا عن الإهتمام الأوروبي.

السبت، 25 فبراير 2017

بين إهانة المعابر وفقدان الأوطان (3-3)


لم أنس أرضي حيث كنت في الإشراقات الدافئة أستمتع شدو الطيور وزغاريدها في الغابات الحاضنة بالقرود والأفاعي والنمور الإستوائية، وفي الصباح الباكر يتعالى صوت الأطفال وهم في حلقاتهم القرآنية يرددون بالأيات، الأطفال في الريف الصومالي مقسمون بين الرعي والزراعة والتعليم، كنا نغدو بأجسامنا ونظراتنا الطفولية إلى مزارعنا الملئية بالخضرة وألوان الحياة، في القسم الشرقي التي لاتبعد كثيرا عن الساحل كنا نزرع الذرة والفاصوليا والسمسم، وكنا نزرع الموز والمانجو والباباي في الجانب الجنوبي المطل على النهر.

الأراضي الساحلية بين قريتي والمدينة كانت مركزا للجنود الإيطاليين منذ أن سنّ برلمانهم قانون الصومال الإيطالي (Somalia Italiana) عام1908م، وكانوا يستخدمون المنطقة كقاعدة عسكرية منذ أن اشتدت وطأة النضال الموجهة إليهم، كانت المعارك كثيرة والتنكيل مستمرا والمقاومة تتجدد في كل جيل، وعلى بعد 12كم شمالا وفي الجسر المرتبط بين المدن والسهوب الساحلية وقعت معارك عنيفة بين الثوار وبين المحتل الإيطالي، كانت المعارك عنيفة تسطو عليها البنادق والسيوف والمدافع، وبعد مرور أكثر من قرن مازالت الميادين تشهد بسالة النضال وعظمة المواقف.

غادر الأروبيون الأراضي الصومالية وانتهى غدرهم ولم ينتهي الألم، بل امتد في رحاب الزمن وربوع الجغرافيا حتى سيطرت حركات السفه السياسي على ربوع الوطن مما أجبر الكثيرين الفرار إلى المهجر بحثا عن الذات وقدسية النفس التي حرم الله إلا بالحق، جئت أوروبا أحمل مزيدا من الطموح والشوق ولكن إختلاف الأديان والثقافات تحول بيني وبين الأهداف المرسومة على دفتر الأماني وما أكثرها في الغربة!.

على شاطيء الثلوج جلست أتأمل على قسوة الحياة والتناقض المناخي بين هذه المنطقة وبين قريتي، هنا من الصعب أن يعيش الدّب فما بالك بإنسان جاء من أقصى القرن الإفريقي حيث تتوهج الشمس طيلة أيام السنة، التكيف في الحياة الباردة وكثير من الوجوه التعيسة والملامح التي غطتها البرودة الممزوجة بالأنين كان تحديا ينسيني وخز الطبيعة ونوبات السعال المتصاعدة عن الخيمات.
الليل هنا متشابه مطلي بالظلمة والزمهرير ولا فرق بين الليالي المقمرة أو تلك التي هيمنها الدجى. النجوم الإفريقية المسطحة على هامات الدروب السماوية، وحميمية النسائم الإستوائية تغتال الأسى في رحم الغيب، أما ليل المخيم فهو عبارة عن شبح يطاردنا ويبعدنا عن حيوية الحياة.

في العنابر الجنوبية حيث الجناح الأسيوي تزوجت كامبودية سمينة من ميانماري أسمر، نشب خلاف حاد بين الجاليتين حيث كانت الفتاة من أسرة بوذية متطرفة تأبى مخالطة الأديان الأخرى، بينما كان الولد مسلما هرب من بورما بسبب الإبادة الجماعية ضد الأقلية الروهينغية، التطهير العرقي التي تقوده إمرأة حائزة على جائزة نوبل للسلام،! ويا لعار الجوائز المسيّسة والتكريم المبني على المحاباة، ويا لعار العالم والسقوط المدوي للأخلاق، المسألة الروهينغية عرّت الأخلاق الفاسدة للطغمة الحاكمة في ميانمار والعالم بكل أصنافه ودوله ومعتقداته، حيث يمارس ضد هذا الشعب الأعزل أسوأ انواع الظلم والتهجير القسري والإبادة على مسمع العالم بل وبمباركة دولية أحيانا.

الحب لغة عالمية وإرث إنساني، ومن المفارقات أن الحب لايعترف الحدود ولا القيود وإلا فكيف يحب الضحية الجلّاد؟ وكيف تنشأ الأحاسيس بين قلب ملأته الأسى وانهكه التعب والبحث الدوؤب للأمن والإنسانية ولقمة العيش في القرن 21م؟، هرب من أجل أغلبية بوذية متسلطة تلغي التعددية والمواطنة وتربط الدين بالإنتماء وتحارب التنوع الثقافي والعرقي، كان قبل إسبوع يحدثنا بلغته المحلية ويترجمها أراكاني آخر بسويدية ركيكة، حدثنا عن المحرقة والإبادة الجماعية وموجات البطش الموجهة لتلك القومية التي ذنبها الوحيد أنها مسلمة!.

أتعبني التفكير فاستسلمت لكرى أرسلتني إلى النهر والأزقات الضيقة بين الغابات قبل أن أصحوا بضجة رهيبة تتصاعد من الخيمة المجاورة التي يسكنها إرتري باذخ الطول كث الشعر هاديء الملامح، جاء قبل شهرين يحمل أمنية تتمدد في قلبه بمرور الزمن ومرارة تركت على نفسه رسوبات من القلق والتشاؤم، صفعة مؤلمة تلك التي تحدث للأجيال المناضلة بعد إنتظار طويل، الجموع الإرترية التي ضحت المهج والأرواح من أجل الاستقلال كانت تمني النفس إنتهاء الإستعمار الأسود وكابوس اللجوء وليالي التشريد في دول الجوار وكل أصقاع العالم، ولكن بعدما ذهب الإستعمار وجاء الاستبداد تحولت الحياة إلى جحيم لايطاق واختفت الأماني وراء سراب الدولة الشمولية التي مارست العنف وكل ما يعف عنه الوحوش، وظلم ذوي القربى أشد مضاضة من وقع الحسام المهند.


الجمعة، 10 فبراير 2017

من سكون الغربة إلى راحة الوطن 



عشت في الغربة أطيافا متعددة، أتعلم أقرأ وأكتب، وأحتضن زاوية المقاهي والقصص الجميلة، أشتاق لشذا الأهل وحناجر السمراوات وهنَّ يغنين على وقع الرقصات الشعبية والألعاب الفلكورية، وكنت أراقب وضع الوطن وهيستريا الشعب وتقلبات السياسة عن كثب، أسير على درب التعليم أتعثر فأنهض ولا أجد من يساعدني أو يواسيني أو يشارك معي إيقاعات الحياة والمتاهات الكثيرة للغربة والضياع سوى الأصدقاء.
وفي كل مغيب على أعتاب الغربة وعلى امتداد السنين والمعاناة، كنت أتذكر الأمسيات الوادعة على أكتاف الوطن برسمه السماوي وتشابكه الجميل ووصفه البديع، أتذكر ضفائر الشمس الخجولة التي تتستر وتختفي وراء الظلام، وخلف الجبال الملصقة بشفق المغيب كعذارى يسقين الحيّ أويسرحن شعرهن بليل صومالي مترع بالشعر والميثولوجيا والأمثال الشعبية وأحاديث الغزوات والفروسية.
كنت أغني كما يغني الشعراء الحالمون بمجد بلدي الذي اشتهر بينابيع الحب والجمال قبل أن تحل عليه نكبات الحروب وعبثية الصراعات ولعنة الكانتونات والتقسيمات الجائرة، وأردد وأنا أعزف ألحان التوجع "غنّي بذكري يابلادي" وكـأني زهرة حمراء في حقول الوطن تدركها العيون بلا عناء، وفي قمة النوستالجيا كنت أخاطب ملعب طفولتي ومسرح حداثتي والشبح ذات الجسد الممشوق والبشرة السمراء الجميلة الذي كان يعتريني في جنح الظلام.
كان قطار الزمن المعكوس يأخذني إلى الرمال الحريرية، والزوارق التي تتمايل على عباب الأمواج، وكنت أحسّ بفرجة الفرحة كلما استحضرت الأيام الخوالي والحكايات المثيرة، وفضول الأعراب، وعيون الشيوخ الغائرة في وسط التجاعيد، والنظرات الشاحبة للوطن. وكانت الرائحة الزكية للتاريخ تفوح كروضة محاطة بسياج الجمال على ضفاف نهر شبيللي التليد.
جمالية الماضي وسريالية الليالي المتألقات كانت ترخي حبال الرحمة للنفس التي تعيش منطقة رمادية، وتدخل السرور في القلوب التي أنهكها التعب، وفي وسط سكون الغربة كانت مخيلتي المخدرة بحب الوطن والتآئهة بعشق أمتي، وملامح أمي التي تذكرني بطيبة أهلي في الوطن الكبير ووُد أمهاتنا اللاتي يحرقن أجسادهن ونفوسهن ليضئن الشموع وينرن الدروب تتعلق بالماضي بكل تفاصيله الدقيقة وألوانه الصارخة وتناقضاته الكبيرة.
معزوفة المشاعر العتيقة كانت تجعل أيامي ساعات طاؤوسية نثر الحب فيها أنغامه الشرقية الهادئة على أحاسيسي البلورية، ونسيم الصّبا المنعش يبلل عطر الشوق في جسدي، وتمر أمامي كلوحة زجاجية شفافة هوس الطفولة للساحرة المستديرة، وشجارنا الصبياني القاتل عند كل هدف يمزق عذرية الشباك، أو كل تمريرة بينية متقنة تفك شفرات المدافعين المتكتلة في المنطقة المحظورة، وكل ركلة طائشة ترسل الكرة إلى المدرجات كسبا للوقت، أوكل مراوغة مبهرة لفنان داخل المستطيل الأخضر يعزف الإبداع الكروي على الضفة الغربية للمحيط الهندي.
لم أنفصم عن تراثي وتقاليدي العريقة، ولم يترك الزمن طابع الحداثة في نفسي، لأني عشت في صغري في بئية محافظة ذات أثر روحي كانت الدين نبضها الأكبر، فكانت نفسي تندمج مع المسجد العتيق في حيّنا والصوت الشجي للمؤذن الموقر الذي تراجيع صوته تشبه صوت مؤذن الحي في مدينتنا، جدران المسجد، والأوراد بعد الصلوات المكتوبة بطريقة جماعية تفيض جمالا، والسبحة في أيدي المسنين، وحتى دورات المياه للمسجد كانت ترسلني إلي سحيق الذكريات في مسجد سوق ويني(Suuq weyne) الشامخ في كسمايو، ولم يكن صوت المؤذن هو الشيء الوحيد الذي تشترك مدينتنا العريقة مع العاصمة العملاقة، بل طريقة الأعراس، وزغردة الحرائر،واللوراي القادمة من أدغال خط الاستواء محملة البضائع والخضروات، وعشوائية المدن، وزحمة الطرقات، تحركت في وجداني ذكريات أبت أن تتصالح مع نفسي الكلاسيكية أو أن يمحوها دجى النسيان في عالم الغربة.
وبين الخيال الفانتازي والليالي الصامتة من حولي والغربة التي تقيدك على رصيفها، كنت أقطع الزمن مع أصدقائي في الدراسة وزملائي في رحلات الحياة، وممن عاشو معي على بساط التعليم وفي صروح المعرفة، وكنت أنفث الأحلام في كنف الحكايات والأساطير الموغلة في التراث الشعبي، والليالي الملاح والأحاديث الشبابية الساذجة وعلى وقع النبرات الصوتية التي تعاني من المنطق المعاكس للحياة والألحان الحزينة للترحال والنوى.
كنا شبابا يحتضن ذكريات الحب المليئة بالتراجيديا، لأن الحب لا يتماسك أمام عاصفة الفراق والجفاف العاطفي الذي غالبا ما يكون الإبن الشرعي للفراق، بل يتساقط الحب في أغلب الأحوال كأوراق الأشجار التي عصفت بها زوابع الخريف.
وللأصدقاء والأحبة دوما مكانة خاصة في قلبي، وأنا منذ أن تورطت حسن النية والطيبة أوقل إن شئت (السذاجة والحب في عالم تقوده المصلحة ويسوقه الجشع)، اخترت أطيب وأحسن مكان في ردهات قلبي ليكون عنوانه "للأصدقاء فقط"، وممنوع الإقتراب إليه ومخصص للزملاء، سواء كانو ممن عرفتهم عن كثب وعن طريق العالم الواقعي أو جمعتنا الحياة صدفة وبدون مقدمات وتفرقنا ونحن نذرف الدموع ونتسارع مع الزمن، ونحاول أن لا ينسي أحدنا على الآخر، أو جمعتنا التكنولوجيا والعالم الإفتراضي في بحوره وفي وسطه المشحون بالشعور المتناقضة والأقنعة المزيفة.
أخص بالذكر أصدقائي الذين اقتسمنا تكاليف المعيشة وسامرنا كثيرا في ردهة البيت الذي كنا نسكنه بجو من الألفة والتناغم، وحياة قوامها الإخاء والوفاء، نجلس تحت الفضاء في سطح العمارة نستمتع بكل ما للحظات الصداقة من المزاح والتسلية، وكبابي الشاي الممزوجة بالقهقهات تدور كحلقة متصلة بيننا.
أجواء السمر المشحون بالأحاديث الجذابة وذكر النساء وحديث النساء له شجون ووقع خاص يثير الشعور ويلهب الخواطر هنا في الغربة، وهناك وفي المنافي البعيدة لابد للمشتاق أن يتذكر النظرات القاتلة والتغنج المميت والدلال الأنثوي التقليدي. ولاشيء يعادل لذة التعامل مع عطر ذكر الأنيقات سوى القراءة الماتعة حين تلاطفك نفحات الفجر الفواحة.
أصدقائي أثروا في حياتي وكانوا مصدرا لإلهامي، وكانت حياتنا ملتصقة ومتصلة طيلة السنوات التي عشنا معا، وكان تشجيعهم يذكي في نفسي جذوة الكتابة والمثابرة، وأمثال عبد الرزاق محمد عمر الذي أصبحت حياتنا مرتبطة منذ نهاية القرن المنصرم عندما كنا أطفالا يغدون إلي مدارسهم، كان شعلة مضئية في حياتي، دمث الخلق رقيق المشاعر كريم السجايا أمهرنا في المراوغة داخل المستطيل الأخضر وأكثرنا حماسة في جميع الميادين، ولا أنسى آدم حسين عثمان(حمرى) مشجع من الطراز الأول للبلوغرانا(برشلونة)  والصديق الحميم لمجلة سوكر الرياضية، شخصية مهذبة ما لم تخرج عن النص، حياته المرتبة وشخيره المزعج ومزحته القاتلة التي تحول المجلس إلى صخب ولغظ وضحكة مجلجلة طالما خففت عنا ألم السهر.

أفجوي والطبيعة الباذخة


أفجوي مدينة الجمال والبساتين والحكاوي والتراث الصومالية حيث اشتهرت المدينة بطبيعتها الخلابة وألعابها الشعبية وطابعها التاريخي والثقافي التي احتفظت به المدينة رغم سنوات الحروب والتهجير التي حولت لوحة الصومال الجميلة إلى لوحة كالحة وكئيبة، كما تعتبر أنها من إحدى أهم المدن في الجنوب الصومالي بكونها سلة الغذاء والجمال وموطن الفلاحين الذين هم عصب الحياة في وطن يعتمد على الرعي والزراعة.

موقعها المتميز ولمساتها الخاصة إضافة إلى التخطيط الجيد والمباني القديمة جعل أفجوي مدينة لها تأثير خاص في الوجدان الصومالي لذا نجد اسمها يتردد في الأمثال والقصص والفن الصومالي بكافة أنواعه. قبل الإستعمار الإيطالي الذي سيطر على المدينةفي بداية القرن العشرين كانت قبلة السياح لكونها تتمتع بكافة المرافق السياحية والحيوية ما جعلها مدينة يقصدها الجميع في العطلات الرسمية والأعياد الدينية والوطنية.

تركت المدينة انطباعا جيدا على مشاعري وتعلقت بجمالها وبساطة الحياة في أحيائها العتيقة منذ زيارتي الأولى عام 1998م، أحببت إبتسامة الأطفال وهم يلعبون أسفل الجسر وتمنيت أن أتمدد في داخل الأكواخ الحالمة على ضفاف نهر شبيلي، وركضت وحيدا صوب الحقول والحدائق المنتشرة على طول أفجوي الموغلة في جمال الجغرافيا والمترعة بنشوة الرقصات الشرقية الهادئة.

في الزيارة الأولى كانت المدينة تشبه قرية إستوائية تكاسلت الشمس في أفقها، وتغفو على ضفاف الجمال والغابات الكثيفة لذا كانت زيارتها من إهتماماتي الخاصة منذ أمد بعيد، وبعد عقدين من الزمن تقريبا قصدت صوب معبد الجمال والمدينة الفاتنة بحماسنها وغنائها وتفردها الشعبي حيث تحتضن المدينة القبائل الصومالية والعربية إضافة الى الجاليات الأخرى التي كانت المدينة تضمهم منذ أن إستقرت هذه الشعوب في التربة الصومالية.

ذهبت مع رفاقي إلى أفجوي المدينة الآسرة التي إستمدت تاريخيا حيويتها وإستراتيجيتها من موقعها المتميز لكونها البوابة الجنوبية الغربية للعاصمة مقديشو التي تبعدها حوالي 30كم، وتزود أفغوي مقديشو بمعظم إحتياجاتها من الخضروات والفواكهة لذا تشكل نبض مقديشو ورئة مهمة تتنفس منها العاصمة.

كانت الأجواء صيفية ساخنة وأرتفعت الرطوبة في الجنوب الصومالي إلى أعلى مستوياتها، لأن الشمس كانت تجري تلك الأيام على خط الإستواء الذي يمر بالنصف الجنوبي من الصومال، كان الحر يشتد والرطوبة تزداد والعرق يتصبب كلما توغلنا في السفر الذي تحول أخيرا وعندما وصلنا إلى عين الجمال وإبتسامات جميلة مارسناها على وقع رقصات الأغصان وصوت الأوراق التي تعزف أجمل الألحان.
في وسط مروج أفجوي الخضراء وعلى حافة أحد الحقول الزراعية التي كان العمال منهمكون بحرثها، إلتقيت بمزارع مسن يبدو على جسمه بقايا قوة وعضلات كانت مفتولة في زمن الصبا والشباب، جاء من أقصى الجنوب الصومالي حيث المدن التي أعرفها جيدا وقضيت فيها سنوات الطفولة وأنضر أيام عمري، تحدثنا كثيرا عن القرى الناعسة على ضفاف نهر جوبا العريق بدءا من جلبJilib زهرة المدائن الواقعة على سهول نهر جوبا التي أسرتني منذ أول زيارة بجمالها قبل 15 عاما، مرورا بكمسوما Kamsuma سرة المدن وهمزة الوصل بين الإقليمين التوأمين جوبا السفلي وجوبا الوسطى، مرورا بكلانجيKalanje ومريري Marereyمصنع السكر الذي كان أكبر مصنع سكر في الصومال وثاني أكبر مصنع في القارة السمراء، وتطرقنا على مزارات المتصوفة عن بلد الكريم BaladAlkarim، ومانموفو Manamofa، وبارسنجوني Barsanguni، هذه القرية السياحة التي ينصفها خط الإستواء، وبإمكان الإنسان أن يعيش فيها لحظة تاريخية نادرة الحدوث، حيث يستطيع أن يضع رجله اليسرى على النصف الشمالي من الكرة الأرضية ورجله اليمنى على النصف الجنوبي من الكرة الأرضية.

لم أكن أتوقع أن أجد على ضواحي أفغوي الرائعة وفي وسط أناقة الأزهار التي تكاد أن تتكلم وتبوح بكل مالديها لمرهفي الإحساس وأصحاب القلوب النقية من أتحدّث معه عن القرى النائية، والمدن الصومالية العريقة، والأرياف التي أعرفها كثيرا وبعضها كنت أتردد عليها في صغري وأيام المراهقة الجميلة.

حاول العم إبراهيم رغم قصر يده والبساطة التي تظهر عليه أن نكون ضيفا على أسرته وأن نذهب معه إلى البيت، ولاغرو فالأرياف الصومالية التقليدية التي تحمل طابع العراقة والأصالة التليدة التي لم تتلون باللون الأحمر بسبب نافورة الدماء التي سالت، ولم يتغير طباع ساكنيها بفعل الحروب العبثية والصراعات العقيمة التي تاه الشعب في دروبها الطويلة ومتاهاتها القاتلة أكثر من نصف قرن من الزمان، تبقي وفيّة لتقاليد الصومال العريقة وأصالة شعبها الكريم المتسامح الذي يرى عدم إكرام الضيف من أقبح العادات التي يفعلها الإنسان على مر العصور.

وجدنا في الأماكن النائية وفي العمق الزراعي لأفغوي شعبا متسامحا كريما، ورياحا لطيفة تلامس وجه النهر الهادئ، وسهولا نهرية ملئية بالأسرار والخيرات، وإبتسامات برئية لأطفال يسرحون البقر على المراعي الخضراء، وأزهارا متعددة الأنواع والأشكال والألوان، وجداول رقراقة تناجي عناقيد المانجو، وأغصانا تحن وتشتاق لبعضها، وحقول السنابل التي تلاطف أوراق الموز برقة ولين كأنه فنان أوبرالي مترف بالأحاسيس العتيقة، وترعات تحيط بأشجار الباباي التي تئنبالحمل الثقيل.

هناك وفي جزيرة مزدانة بالخضرة الداكنة وقفنا نخلد ذكريات الأيام ونوثق صدى الساعات الطوال التي قضيناها مع صحبة الأماجد والرفاق الكرام، وهناك وعلى ذرى الطبيعة ووقع صوت العصافير التي تترنم كمعزوفة شرقية حالمة، وزقزقة الحمائم المزهوة بالخضرة، والبطاريق المتبخترة، والدروب الخضراء المتقاطعة، والمروج التي تتزاحم على جنبات الطريق، والأزقةالضيقة التي يعبرها القرويون بدراجاتهم وتقودنا نحن إلى قرية هرر التي تبعد قرابة 15كم شمال أفغوي، كانت الوجوه تتلألئ، والأفواه مبتسمة، وفوق الأغصان الملتفة التي إتحدت وتعانقت كأنها تحس بدفئ الحب ومرارة الفراق وفي وسط زحمة الأعشاب الملتصقة بالنهر كان تغريد القمرية يطرب العقول، وكأنها تردد أغنية الشوق والهوى لصاحبة الصوت الطري هبة نورا وحنجرتها الذهبية تردد رائعتها المشهورة:
(Doob qalanjadiisi gabay)
"عازب خيب آمال حبيبته"

يوميات جيولوجي (3-3)


الدراسة:

دراستنا في مجمع السبلوقة الناري كانت تركز ثلاثة أشياء مهمة بالنسبة لكل جيولوجي في بداية مسيرته العلمية ورحلاته الجيولوجية:
1: الدراسات الحقلية.
2: التخريط أو الخريطة الجيولوجية.
3: التطبيقات الجيوفيزيائية.

*جيولوجيا حقلية
الحقل:-Field
هو تعبير عام لأي مكان خارج المعمل أو في العراء حيث يستطيع الجيولوجي عمل القياسات والدراسات وتسجيل الملاحظات الأولية وجمع الصخور والمعادن والأحافير(Glossary of Geology by Bates).
والعمل الحقلي (Field Work) من الضرورات الحتمية لأعمال التخريط الجيولوجي المختلفة والتي قد تشمل الاتي:-
1: الخرائط الطبوغرافية الاساسية Topographic Base Maps
2: الخرائط الاستطلاعية الجيولوجية Reconnaissance Geological Maps
وهي خرائط المنطقة المجهولة وبمقياس رسم حوالي 1:250000 وبعض هذه الخرائط عبارة عن خرائط تصويريةPhotogeological Maps. حيث يتم رسمها اعتمادا على معلومات حقلية قليلة وتفسير الصور الجوية
3: الخرائط الجيولوجية الاقليمية Regional Geological Maps وهذه خرائط بمقياس رسم ما بين 1=50000 إلى 1=100000
4: الخرائط الجيولوجية المفصلةDetailed ومقياس رسمها حوالي 1=10000
5: الخرائط المتخصصة وهذه خرائط متصلة جدا 1=1000إلي 1=25000
وأيا كان نوع الخرائط الجيولوجية المطلوبة فإنه تخصص فترة زمنية لأعمال التخريطMapping في الحقل لوحظ أنها دائما تقل أو تساوي فقط الوقت اللازم لإجراء الاعمال الحقلية اللازمة.
ويتطلب أمر إجراء الدراسات الحقلية:
1:التعرف على الظواهر الجيلوجية المختلفة في الصورة الجوية باستخدام عناصر التفسير.
2: توجيه الصورة الجوية بالنسبة للأحداثيات الجغرافية.
3: إيجاد و التعود علي مقياس رسم الصورة الجوية.(2)
(2)http://sudangeo1.ahlamontada.com/t873-topic

** تعريف الخريطة الجيولوجية
هي عبارة عن تجسيد بياني على سطح مستوى للوحدات الصخرية والبنيات الموجودة على مساحة ما ويتم رسمها باستخدام الخطوط والرموز والأنماط وربما الألوان. وهي عادة تصف تركيب الصخور وتقارن بين الوحدات من حيث الموقع والزمن. وقد تحوي أيضاً مقاطع عرضية وجداول للبيانات المقارنة:

الخرائط الجيولوجية:
تؤمن الخرائط الجيولوجية معلومات حول الصخور والبنيات الموجودة على سطح الأرض. وتحتوي هذه الخرائط على معلومات حول الملامح الكيميائية والفيزيائية للصخور وحول علاقاتها المكانية والزمانية ومحتوياتها المحتملة من المعادن.
وتشمل التطبيقات العملية للخرائط الجيولوجية:
ــ استكشاف وتنمية الثروات المعدنية ومصادر الطاقة والمياه
ــ تقويم إستغلال الأراضي والتخطيط لحماية البيئة
ــ التقليل من مخاطر الزلازل
ــ التنبؤ بالمخاطر البركانية

(3) ــ تقليل الخسائر الناتجة عن الإنزلاقات والإنهيارات الأرضية
(3)http://www.sgs.org.sa/Arabic/earth/Pages/NewExplosion.aspx
الجيوفيزياء التطبيقية:
وتعني إستخدام الطرق الجيوفيزيائية في تحديد هدف معين تحت سطح الأرض، مثل المياه الجوفية، والمعادن الاقتصادية، والأجسام المدفونة بأنواعها،والبترول والغاز ومعرفة التركيب الجيولوجي للطبقات تحت السطحية، وما تحتويه من كهوف أو صدوع أوفراغات وفي مجال التطبيقات الهندسية.
وهذه الطرق تنقسم إلى: الطرق الجاذبية والمغناطيسية والكهربية والكهرومغناطيسية والسيزمية والرادارية (4) 

لم تكن رحلتنا علمية فحسب بل كانت رحلة مزدوجة علمية دعوية، ومن نافلة القول أن يدرك القارئ أن جامعة إفريقيا هدفها الأول هو تخريج وإعداد داعية إسلامي يحمل هم الدعوة وتبليغها للناس، سواء كان الخريج صحفيا أو طبيبا أو مهندسا أو تربوياً، وهكذا كانت الدعوة ونشر الإسلام من صميم برامجنا نشرح للناس سماحة الإسلام وفرائض الدين وأركان الإيمان ونتجول في الأحياء والأسواق والمساجد لنشر الإسلام، ورأينا بأم أعيننا مجتمعا جائعا للدين محتاجا للدعوة الإسلامية يحب العلم والعلماء وكل ما له صلة بالدين الإسلامي.
لقد رجعنا بفوائد جمة ومعرفة غزيرة من تلك الرحلة وخاصة حياة المعسكر مع وجوه جديدة وطلاب عشنا معا في أروقة الجامعة فقط، وأهم ماتستفيد في المعسكر هو الدقه والتنظيم الفائق والانضباط القوي والحياة المغايرة لما ألفنا في بيوتنا واختلاط ومعرفة واحتكاك بالطلاب من جميع الدول والأجناس والمبيت معهم جنبا إلى جنب في العراء والفضاء الرحب أو الغرف المتواضعه، والتقاسم معهم اللقمة وشظف العيش بقلوب راضية وثغر مبتسم.

الرحلة النيلية والوداع الأخير

في اليوم الأخير وقبل أن نودع قريتنا ـ ودائما الوداع قاسي ـ ومعسكرنا الذي كوّن معنا علاقة حب ذهبنا رحلة برية قصيرة إلى النيل مع مجموعة من الأصدقاء الذين أكن لهم محبة تزاحم الرواسي، قصدنا النيل والسرور يطفو على وجوهنا، وصلنا عيون الجمال حيث تتهادي المياه بأنسيابية عجيبة لا يخلو منها خرير لطيف يصاحبه حفيف ناعم للأوراق وزقزقة عندليبية للعصافير، وبعد إستشارتنا للمرشد السياحي الموجود في المنطقة إخترنا أجمل منطقة في النيل التي هي عبارة عن جزر متفرقة علي طول النهر وتشكل سلسلة طبيعية وتلال خضراء مطلة علي الشاطئ حيث تنسجم الطبيعة بالحضارة.

ومن مميزات المنطقة أنها قريبة جدا للشلال والخانق، والخانق وهو أضيق مكان في النيل ولا يتعدي عرض النيل في هذا الخانق بضع مترات ـ والنيل هبة الله للسودان ومصر تاريخه مرصعة بالحضارة والثقافة،منبعه آية في الجمال ومجراه أعجوبة في التناسق ومصبه وسيله الهادرمعجزة خالدة، وعبوره بأقسي الطبيعة وأصعب الجغرافيا وفي وسط الصحاري والجبال والكثبان بكل شموخ واعتزازشاهد على بديع صنع الله، ومما يزيد الدهشة ويوقفنا أمام النيل مقرين بعظمة صنع الخالق أن جميع أنهار العالم تجري من الشمال إلى الجنوب ما عدا نهر النيل فهو الوحيد الذي يجري من الجنوب إلى الشمال!

Buugga "Geylame"

Maalin dhoweyd ayuu macallin Hassan Mohamud iisoo hadiyeeyay buuggiisa ugu danbeeyay ee Geylame, aniguna xil baan iska saaray inaan ugu mah...