من الصعب أن نكتب شئيا عن الأحبة الذين رحلوا من الفانية
إلى الخلود، ومن ضجيج الكون إلى صمت المراقد وسكون القبور.
في هذه المقدمة أحفز نفسي وأنا أقف على أعتاب الذكرى 9 لوفاة والدتي الحبيبة فاطمة أحمد طاهر، وأحاول أن أكتب عنها شئيا للذكرى، وكوفاء لحبها السرمدي وتجديدا للأمومة التي فقدتها، وأسعى جاهدا أن أخفف بركان الحب الذي يغلي في داخلي ويثير كوامن الحسرة في نفسي الضعيفة التي لا تقوى أمام ضربات الحنين، وأن أتنفس ولو عبر المداد وأبوح ما يجيش في صدري من الحب والألم والصدمات التي تركها الرحيل المفاجئ لأمي التي كانت كل شيء بالنسبة لي ولأشقائي الأفاضل بنينا وبنات.
ولكن وعلى امتداد تلك السنوات العجاف أبدو عاجزا ولا أستطيع
أن أجد سطورا تواسي نفسي المكلومة قبل شعوري النازف دما ودموعا، وكلمات تضمد الجرح
النازف وتطبب الأحاسيس المختنقة في داخلي، وأحرفا تليق بوصف الأم وحنانها الكبير،
وخاصة أمي التي كانت عصامية من الطراز الأول، ومناضلة من طينة المكافحات اللاتي
يربين الأولاد بعرق جبينهن ويقمن بتضحيات جسام ستكتب التاريخ في زمن كانت مواصلة
الحياة صعبة للغاية للشعب الصومالي على الأقل.
تجرعتّ مرارة اليتم صبيا، وفي صدر حياتي المترعة بالفقر
والتنقلات والرحلات والتقلبات الكثيرة فقدت أبي وقبل أن أميز الأشياء وأتعرف على
الوجوه المتواجدة في محيطي البيئي، وبتّ لا أعرف عنه شيئا لا عن حكمته ومركزيته
للعشيرة، ولا عن سمرته الفاتحة وأناقته الكبيرة، ولا عن مرحه وشخصيته المحبوبة،
ولا عن قامته الطويلة ولا كرمه الحاتمي حسب ما وصفه ندماؤه وأترابه الذين عاشوا
بعده وقطعنا معهم شوط الحياة بعيدا، ولا أدري كيف كانت حياته المليئة بالبطولات
المطلقة في مرابع أهله في البوادي والقرى والفلوات والمدن، ولكن سمعت نزرا قليلا
عنه وحكايات تمجده وترفع قدره وكانت مصدرا للسعادة، رغم أني كنت لا أبالي كثيرا في
تلك الحكاوي لأن الجهل بالأشياء أو الأشخاص نعمة في بعض الأوقات.
وبعد رحيل والدي المبكر أصبحتْ أمي هي الوحيدة في حياتي،
تشفق عليّ وتهدهدني في الليل وتطلب في النهار رزقي، وعشت في كنفها أحبو وأركض
وأنمو وأكبر، وأرمي إلى حضنها عندما تتعبني لعبة الطفولة وشجارها المستمر مع
الأتراب والخلان، وأجد بجوارها أنس الأم ودفئها عندما أتحير في متاهات الحياة
القاتلة في الكبر، وقامت مقام الأب والأم معا، وأدت واجبها الديني والأخلاقي
تجاهنا بأكمل الوجه، بل تركت من أجلنا حقوقها الطبيعية وحاجاتها الإنسانية.
وفي هذه الحياة التي تدور في فلك الأم من الطبيعي أن يكون
رحيلها قبل تسعة سنوات صدمة كبيرة بكل ما تحمله الكلمة من معنى وزلزالا قويا تعرضت
له أسرتي! فكان يوما أسودا غابت عنه الشمس التي كانت تنير حياتنا وتبث الأمل في
نفوسنا وتشد سواعدنا الناعمة لنستطيع مقاومة صعاب الكون، وفقدنا الأم المثالية
التي منحتنا كل شيء من الممكن أن يقدمه الإنسان للإنسان في حياته ولو كانت هذه
التضحيات على حساب صحتها وراحتها.
يوم مأساوي بكل المقاييس، ولم أكن أتصوره لهوله، لا عن
إنكاري لمصيبة الموت الحتمية لكل الخلائق ولا عن الرحيل المرّ لأمي، ولكن بفرط
تعلقي وحبي لأمي كنت أتصور أن أمي ستعيش سنوات قادمة وأياما آتية مديدة حتى ترى
أحفادها يلعبون أمامها بعفوية الأطفال وجمالهم وبرآتهم، وحتى تقدم لهم الهدايا
الملفوفة بالدعاء الصادق في جنح الليل وفي هدأت الأسحار حين تفتح أبوب السماء
للمتضرعين.
لا أنسى ذلك الصباح الصيفي في العاصمة الكينية نيروبي وفي
الحي المعروف بسوث سي south c كان البرد قاسيا جدا، وكانت الغيوم السوداء تحجب السماء، وكان
الصقيع يؤلم أطراف الجسم ويمنح الأرض وشاحا من الضباب الناعم وكان كل شيء مختلف
ومتغير! في الساعة العاشرة ونصف تقريبا من صباح يوم السبت 23.8.2008 فاضت روح
والدتي الطاهرة إلى بارئها، فخيل إلى أن الحياة لا تستمر أبدا بناموسها المعتاد
بعد هذا اليوم، وعم الظلام على حياتي وكأن الدنيا توقفت عن الدوران وامتنعت المجرات
عن الحركات وتجمدت النجوم والكواكب في جوف الفضاء، وذابت الشمس وذبل رحيقها، وأفل
القمر وضعف نوره!
مصيبة المؤت لغز مخيف وحقيقة مؤلمة لم يرتقي إليه البشر
إدراكه ومعرفة كنهه، لذا لم أستطع أن أستوعب بسرعة ما يجرى في حولي وما يدور
أمامي، أنياب الموت تنهش جسم أمي ومن عشت في رحمها قبل أن أرى النور وكبرت في
كنفها بعد الولادة وسنوات اليتم المؤلمة، بكاء صامت وعويل يقطع أوتار القلوب،
وذرفات من دموع الحزن تسيل على خدي، لم يتجرأ حد أن يقول ماتت من سهرتْ كثيرا
لإسعادك وطوى صفحة أمك إلى الأبد، وأنقسم الناس بين مشفق لحالي وبين من خنقته
العبرات واسكتته الفاجعة، وبين من يربت على كتفي ويحثني علي الصبر والتجلد.
ورغم أن جثة أمي الهامدة ممدودة أمامي دون حجاب أو حاجز أو
حتى قطعة من القماش الناعم الذي يغطي عادة على الموتى، كنت أعتقد أن أمي في غيبوبة
وأنها حتما ستعيد وعيها قريبا، وهذا ليس من صنع الخيال ولا نظرية مستوحاة من
الأفلام، بل حقيقة عشتها في ذاك الصباح، وكانت مجرد أمنيات بسيطة لمتيم يعشق أمه
حد الجنون، ربما كانت أحلاما سرابية كنت أهربها عن الحقيقة الصادمة والفاجعة التي
حلت بنا في هذا اليوم!
طالت الغيبوبة وتيقنت الخبر الحزين وهمس في أذني العم ناصر
عرتي رحمه الله: ماتت أمك فعلا والانخراط في موجات البكاء كالأطفال لا تغير الواقع
ولا تعيد أمك إلى الحياة أبدا، لذا كن رجلا واصبر! وقعت هذه الكلمات عليّ كالنيازك
المدمر والشهب الحارق وكأني أستفيق من حلم طويل، لمست على جسمها الذي يبرد تدريجيا
وفاضت مشاعري الصادقة تجاه أمي الحنونة.
وبعد أن غيبها الموت في دهاليزه إلى الأبد وتركتُ عن
المدينة التي واريت في ثراها جسد أمي، فقدت أحبة وأصدقاء أولهم عمي وجدي لأمي، كما
فقدت ابن خالي الذي عشنا منذ الصغر، وماتت خالتي الوفية التي ضاعفت شعور الألم
ومرارة الأسى في نفسي، ومات صديق الطفولة والملاعب الكروية والدراسة حسن نور، ورغم
هذا رحيل أمي ترك في نفسي ذكريات عالقة، ومنذ وفاتها مازال الألم يبرح في مكانه
ووخزات الفراق تتجدد والجرح مازال ينزف تعلقا، والذاكرة مازالت تردد على صدى صوتها
وهي تطلبنا أن نستيقظ لصلاة الصبح قبل آذان الفجر بساعة لنصلي النوافل وندعو الله
أن يسدد خطانا وينير دربنا ويحفظنا من الشر وأهله.
كانت أمي صوامة قوامة تقوم الليل وتصوم بالنهار رغم الأعباء
الحياتية والمعيشية التي كانت تثقل على كاهلها وحيدا بعد وفاة الوالد الذي ترك ستة
أطفال وفي بداية سنة التسعين الميلادية، حينما كانت الأمّة الصومالية تعيش أسوأ
سنواتها إطلاقا وأقبح فصول حياتها، تشريد وتفرق وموجات من الجفاف والمجاعة
والتدمير. ورغم كل هذه السنوات العجاف والأيام المؤلمة ما زلت أتذكر ملامح أمي
الدقيقة، وطيفها يعتريني في كل حين. رحم الله أمي وأمهات المسلمين.