قبل أن تصبح أفريقيا مرتعا للكواسر
الأوروبية منذ القرن 16م كانت المدن والقرى المتناثرة على أهداب الأنهار وكتف المحيطات
وجبين التلال مرحة وراقصة، تجاور الأرض والبحر والسماء، تحيطها حقول ومروج ممتدة وخلجات
إنسانية أليفة تنسجم مع وهج الشمس والعيون الريفية الحالمة تحت إيقاع أفريقي دافئ،
ولم يكن الإفريقيون يعرفون سوى البراءة والحروب القبلية والمناكفات العشائرية التي
طوت في داخلها أنواعا من العبودية الناعمة وإن لم تصل إلى درجة التجارة والبيع في سوق
النخاسة، وبعد قدوم أوروبا الجشعة التي تدنّس القيم وتقدّس المال تناحرت القبائل وتسابقت
القوميات من أجل كسب ود المحتل ومساعدته لبلوغ هدفه الإستعماري فقاموا ببيع بني جلدتهم
وسُجل في غضون قرنين شحن أكثر من 18مليون أفريقي إلى الغرب كعبيد.
لقد نشطت السفن الغربية في أفريقيا
من أجل السيطرة على المصادر الطبيعية وتجارة الرقيق، وكابدت القارة حيال ذلك خسائر
فادحة إقتصاديا واجتماعيا أدى إلى خلل في النسيج الاجتماعي وضياع الهوية والمعالم ومصادر
الحيوية والطاقة، حيث كانت تتراوح معظم أعمار العبيد الذين تم شحنهم إلى الغرب مابين
15 إلى 45عاما، ورغم مرور مئات السنين من إنتهاء الرق تتقلب أفريقيا ما بين إستبداد
محلي وملامح رسمها الإستعمار بوحشية تعف عنها الوحوش الكاسرة، وانتشر العنف وساد الجهل
والمرض في أصقاعها.
أحاطتني غيمة من الكآبة وأنا أتابع
المشاهد المحزنة للفيلم الدرامي "أميستاد" الذي يعالج الحدث الأسوء في تاريخ
البشرية إطلاقاً (تجارة العبيد)، الفيلم الذي رشح لجائزة أوسكار بعد صدوره عام
1997م من إنتاج ستيفن سبيلبرغ وبطولة مورغان فريمان ودجيمون هونسو وأنطوني هوبكنيز
وآخرون جسّدوا المعاناة بكثير من المصداقية والإنسانية.
يستعرض الفيلم بطريقة دراماتيكية
مبكية ألوان العذاب والهوان الذي مورس ضد الشعب الأعزل بعد إختطافهم من مرابعهم إلى
المخافر، وبعد ساعات يجد المرأ نفسه في صفوف
طويلة وعارية تتجه نحو مرافيء الشحن!، والمدهش المثير للإشمئزاز هو ترحيلهم إلى القهر
على قع أجراس الكنسية وترانيم القساوسة، وكأنهم يبشرون العبيد في عالم الوحشية، ولاغرو
فالمبشّرون ظلوا الوجه الناعم للمحتل، وكانوا روّاد التمهيد والاستكشاف.
بمباركة الكهنة وبكاء الأبرياء
تتجه سفينة الصداقة التي أصبحت رمزا للعبودية إلى الحياة القاسية، ليكون السود على
متنها النواة الأولى لإنتاج الثروات وإنشاء الحقول وحفر القنوات وبناء السكك الحديدية
وتحريك عجلة النهضة الصناعية للغرب الذي اختار شعوب أفريقيا بالذات من أجل البنية الجسمانية
القوية والصبر وتحمل المشاق.
يتكدس الأفريقيون التعساء في داخل
السفينة، والإسبان يمارسون السادية والإذلال، أبرياء مقيدون بالأصفاد والسلاسل، تجريد
عن الملابس، شتائم وعهر أخلاقي وكراهية وتفنن بالقتل، جوع وإهانة في تقديم الطعام،
ملامح شاحبة، وحلاقيم ناشفة، هنا إنتهت الإنسانية إنهم عبيد لاحقوق لهم، قصة مؤلمة
لم تنته فصولها وإن تدثرت بألفاظ رنّانة وأسماء ناعمة كهئيات أممية ومنظمات عالمية.
وبعد إختناقات في أقبية السفن
والموت إرهاقا يهاجم الأفريقيون البائسون وببسالة نادرة على القبطان، تحدث معركة رهيبة
نفسيا وبدنيا ويفوز الأفريقيون السباق نحو النجاة ليطلب قائدهم العودة شرقا نحو الديار،
يتظاهر القبطان العودة فيما يواصلون رحلتهم نحو أمريكا، وبما أن البسطاء الريفيون يتميزون
بقراءة النجوم والإهتداء بها ليلاً منذ أن استوطنوا في الفيافي والأدغال الماطرة راقبوا
النجوم بعد منتصف الليل وبواسطتها أدركوا أن الربان غدرهم والسفينة متجهة نحو الغرب
والعبودية وليست نحو الخلاص ودفء أفريقيا وحلمها الجميل.
تمتد المعاناة من سيراليون وسواحل
أفريقيا الذهبية إلى شواطيء الغرب ومن القوارب الصغيرة إلى أميستاد إنها مأساة تمتد
عبر التاريخ والجغرافيا والأحاسيس، وبعد رحلة شاقة وصلوا إلى أمريكا وأصبحت حياتهم
ملونة بالهواجس والظلامية والمخاوف، وفي لحظة بالغة القسوة يتم تقييدهم وربطهم بسلاسل
مؤلمة تقودهم مجموعة من البيض في سخرية وازرداء إلى أسواق النخاسة، إنها تجليات حضارة
الغرب المادية المبنية على العنصرية والإضطهاد.
يتنازع اللوردات وأصحاب الشركات
على ملكيتهم ومصيرهم فيتم تجريدهم من الأسماء والأسمال والإنتماء والآدمية، وفي الزنزاناة
الباردة الغارقة بالعتمة والأوساخ والطبقية ينام السود ويحاولون التمرد واستعادة الحرية
ولو بالخيال ولكن للآلة الحديثة رأي آخر حيث البارود تحسم المواقف لصالح الإمبريالية.
شعور العبودية والفقر والتنوع
الثقافي وضياع المستقبل تغزوهم في أمريكا، وفي وسط محكمة هزلية يهتفون " أعطونا
الحرية .. أعطونا الحرية" وتتحول الحرية إلى نغم ومبدأ يعيش من أجله الأبرياء،
الحلول معدومة والآمال تتضاءل ولا يلوح في الأفق سوى مزيد من الظلم والغطرسة، في بيئة
مأزومة بالسخرية وترى العبيد أرقاما لاتخضع سوى معايير الربح والخسارة يتصدر المشهد
أفريقي تحرر عن العبودية ليحمل مسؤلية المساجين وتحريرهم ورإجاعهم إلى وطنهم، وفي أروقة
المحاكم والقوانين يبحث عن العدالة وقاضي لم ينسلخ عن الآدمية ولم تعمه شهوة المال
والسلطان، ولكن كيف يجد والقوانين والعادات والتقاليد السائدة في المجتمع الأمريكي
تكرّس العبودية وترسخ نظام الطبقية والتفوق
العرقي كما كَتب سولومون نورثوب في مذكراته 12عاما من العبودية؟
طالت الجلسات وزادت المعاناة وفي
صباح مفعم بالإهانة يتم سوقهم كالأنعام وهم مقيدون بالسلاسل والخنق والمشاعر السالبة
ويتم إدانتهم بالتمرد والقتل والقرصنة والجرائم القانونية! والمؤلم حقا أنهم لايستطيعون
دفاع أنفسهم وتعبير آرائهم باختلاف الثقافات والألسن، وبمحاولة لإثارة الإنسانية في
داخل الرئيس طَلبت منه جمعية إلغاء العبودية مناصرة القضية وتحرير الأبرياء، ولكن رواسب
العنصرية في نفسه وعدم شعور الشفقة تجاههم حالت دونه ودون مساعدة المخطوفين.
تنعقد جلسات المحاكمة تلو الأخرى
دون تقدم، ويسود الصخب والترقب في المحكمات، شهود ومحامين وسلاسل وإهانة متجددة. النقاش
محتدم لتحديد مصير هؤلاء الذين وقعوا ضحية للشراهة الإسبانية. رعايا الإمبراطورية الإسبانية
التي كان شعارها "لأبعد مدى" من السيطرة والقسوة كانت تجارة العبيدعمود إقتصادهم
ولن يقبلوا بسهولة إنتهاء عصرهم الذهبي، في إحدى الجلسات تنتصر العدالة ويلوح في نهاية
الأفق ضوء التحرير والعودة إلى الديار، وكعادة الطغاة سيتم في الخفاء وبعيدا عن الأنظار
تغيير القضاة لإطالة القضية! السماسرة يضحكون بجذل ويعلوا شجن قاتم على ملامح الأفارقة
وترجع الأمور إلى المربع الأول ويكون الفوز لصالح من ينمق القصّة ويملك السلطة وليس
العدالة والصدق.
كادت الأحلام أن تتوارى واجتاح
الياس على مساحات الآمال في قلوب المنكوبين وأنصار العدالة، وفي لحظة بالغة الفرّادة
وانتصرت الآدمية على الطمع البشري تبتسم لهم العدالة ويأمر القاضي بإطلاق سراحهم وسجن
تجّار الرقيق بائعي الكرامة والحياة بجرم إختطاف أناس أبرياء ولدوا في أفريقيا بعيدا
عن المقاطعات الأورروبية التي تسري عليها قانون الرق والعبودية!، ونقل المساجين إلى
مسقط رأسهم إن اختاروا وعلى نفقة الدولة.
فُتح الأغلال عن معاصمهم وتعالت
الهتافات والزغاريد، أنهم أحرار وليسوا عبيدا ولاممتلكات، كانت لحظة بالغة الجمال والفانتازيا
لأن العبودية جريمة كبرى في حق البشرية. لقد جعلت الحضارة الغربية الإنسان الأفريقي
تعيسا في بلده تنهب الأموال وتغدر الإنسان وتقسّم الأوطان.
لقد تم تحريرهم واتجهوا نحو أفريقيا
وأغانيها ومرح الطبول والأحراش الملئية بالأمل والحياة والبؤس، ولكن كانت هي الأخرى
غارقة في الصراعات والنخاسة وحرق القرى، وبقيت ندوب العبودية وحكايتهم تدرس في أروقة
التاريخ، رغم أن أفريقيا بعد الإستقلال الشكلي تناست عن تلك المأساة والفصول الحالكة
لمسيرتها الطويلة نحو الحرية .