كان الجو صحواً والأشعة ترسل دفئها على جنبات
الكون، الأجواء مترعة بمرح الأطفال ووجوه جذلة بزغاريد الأعياد والحفلات الدينية
في قُطر يعتبر الدين نبضه الأكبر والمكون الأساسي للثقافة والانتماء. بعد الثالثة
ظهرا وصلت إلى مدينة جالكعيو، كانت منهكة منذ أن أصبحت ضحية للمزاج السياسي وصراع
القبائل وشبح الاغتيالات، في وسط هذه المدينة الحزينة يرهقني التفكير، كيف حوّلها
تجار الحروب من مدينة باسمة تعتبر شريان الصومال إلى مدينة يفصلها خطوط الموت
وشوارع مغلقة بالمتاريس والأحجار تقسم الشعب وكأنها برلين الحقبة الباردة!
شجن الأيام وعلى وقع مدينة علّق الصوماليون عليها آمالا جساما رغم
التشظي يجعلني أبكى بصمت وأراقب عبر نافذة السيارة التراث والإبل والجبال، الطريق
معبد ويخترق جبال من كالكوارتز الذي يدخل في صناعة الكهرباء والمجوهرات والسيراميك
إذا وجد الأدمغة المتعلمة، توقفنا قليلا على مشارف قرية ريفية صومالية الطابع
والملامح، وبعد لحظات من احتساء الشاي بدأنا المسيرة وتعمقنا نحو الجمال الذي يغفو
على جبين الثروات والانكسارات، هنا أغنام تسرح، وهناك راعي على الهضبة المجاورة
ينشد لإبله، وسمراء تمضغ صمغا وتضحك بلذة فاتنة، والنساء الصوماليات لهن ضحكات مثل
الأجراس سلاسة وإيقاعا.
الصوماليون رعاة مهرة، وصيادون من الطراز الأول، ومحاربون أشداء،
يمتد وطنهم التاريخي من رمال المحيط شرقاً إلى هضاب الحبشية غرباً، ومن وراء نهر
تانا جنوباً إلى جوار الدناكل بمحاذات البحر الأحمر شمالاً، ولم يكونوا طيفا واحدا
في المهنة والحياة، بل كانوا رعاة رحل في الريف والأدغال، وتجارا في السواحل، ومزارعين
على السهول وعلى ضفاف الأنهار، والسبب الذي جعل أرضهم مترامية مقارنة بأعدادهم هو
التنقل والبحث عن القطرة والعشب، وإذا ما وصلوا إلى أرض تسودها المياه والكلأ
كانوا لايعودون منها أبداً، وقد أجبرتهم الظروف أن يكونوا متمرسين في الحروب
والنجدة والسير لمسافات طويلة على الأقدام.
وقفت على أعتاب بلاد البخور والعطور والممالك التي حكمت على المنطقة
ووصل صداها إلى الهند والسند والصين وبلاد العرب وسوفالة وزنجبار وموزامبيق. كان
الاتصال دائما لاينقطع بين الصومال وبين الشعوب وخاصة سكان شرق الأوسط من
الكلدانيين والكنعانيين والآشوريين وغيرهم، وتروي الكتبُ الرحلات التاريخية
للقبائل العربية إلى شرق أفريقيا منذ فجر التاريخ.
وعندما بزغ فجر الإسلام عرفت المدن الساحلية الإسلام قبل أن يصل إلى
المدينة المنورة، وذلك عندما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه الهجرة إلى
القرن الأفريقي، ومنذ هذا التاريخ كان التداخل العربي الإسلامي مع سكان شرق
أفريقيا والقارة عموما يتم بطريقة حضارية، ولم تكن الطبيعة تقف دون العرب ونشر
دينهم وممالكهم فشيّدوا المدن وأثّروا على الملامح واللغات والفن والتركيبة
السكانية.
لقد أسس العرب حضارات وحكموا على المنطقة ومازال أطلال مدنهم باقية
على شواطئ المحيط الهندي لتدل على التطور العمراني والحضاري للعرب، كانوا قادة
العالم في القرون الوسطى من حيث الحراك الثقافي والكشوفات، واتسموا بدقة النقل
والأمانة العلمية، ويعتبر ابن بطوطة والمسعودي والادريسي والحمداني وياقوت الحموي
وعلي بن سعيد المغربي الذين زاروا الصومال وكتبوا أنها كانت من أكثر البلدان
الإسلامية رخاء، كما كانت الممالك الصومالية تحمي المقدسات الإسلامية وتسيطر على
الطرق الرئيسة للملاحة البحرية روّاد هذا المجال.
كانت ملاحظاتهم مذهلة وانخراطهم في الشعوب الأصلية تتيح لهم معرفة
الخبايا والتغلغل في نفوس الأفارقة ومعرفة البلدان والقبائل، وتعد مراجعهم في غاية
الأهمية خاصة وأن العرب كان لهم أكبر الأثر في الصومال منذ أن هاجرت إليها القبائل
العربية بعد انهيار سد مأرب وما تبعه من الهجرات.
كنت غارقا في وحول التاريخ ومطبات الجغرافيا، حيث المعالم الأثرية
ومجالس سلاطين ورسنجلي تفوح منها رائحة العراقة. سلطنة ورسنجلي تأسست على المناطق
الشمالية للصومال في القرن الثالث عشر وذاع صيتها بعد بروز حركة الدروايش كقوة
محلية قوية عام1897م، وخاضت السلطنة ضد الحركة حروبا من أجل البقاء، ورغم صراعها
ضد الدراويش والقبائل لم تستسلم السلطنة نهائيا، بل استمر حكمها إلى أن تربع على
عرشها السلطان محمود علي شري الذي نفاه الإنجليز إلى جزيرة السيشيل مع الثائر
المصري سعد زغلول خوفا من تنامي قوته وتأثيره بعد هزيمة الدراويش عام1921م.
شنت الدراويش حروبا ضد المحتل الأوروبي والقبائل والكيانات المعارضة.
وفي عام1911م هاجمت الدراويش على معاقل السلطنة، كان حربا أستخدم فيه جميع الأسلحة
المتاحة في تلك الحقبة التي كانت الدراويش تولي اهتماما كبيرا على وجع العدو
الخارجي وإخضاع القبائل وجيوب الاستعمار وبسط سيطرتها على المنطقة.
وبعد اخضاع معظم القبائل اهتمت الدراويش على بناء القلاع، وتشييد
الحصون، وحفر الآبار، وتطوير المدن، وتثقيف المجتمع، وحثهم على الجهاد ومقارعة
النصارى والقبائل المارقة عن حكم الدراويش، كما اهتموا بالأساليب الدفاعية وبناء
وحدات للهجوم السريع والمباغت الذي أحرج الإمبريالية طيلة 20سنة استمر النضال في
ربوع الوطن، ومن المؤسف حقا أن هذا التاريخ المشرف لاتعرفه الأجيال الصومالية
الشابة، ولكن عندما نستعيد وعينا الثقافي الغائب منذ ثلاثين سنة ونقرأ سير الأحداث
ومذكرات الجنرالات الذين حاربوا ضد الثورة الصومالية ندرك عظمة هذا التاريح
وبطولات الدراويش الذين أرهقوا الإمبريالية ماليا ومعنويا وعسكريا وبسببهم نجى
الله الأمة من التنصير.
كنت أجر ألم الحاضر والماضي وأنا أسير نحو القلاع ومجالس الأجداد
والمواقع الأثرية المجهولة رغم أهميتها، أمة أهملت ماضيها وتسير بجنون نحو طمس
المعالم، حتى أصبحت الصومال دولة هامشية ومجهولة في المخيلة العالمية! ولم تكن
كذلك، بل كانت مؤثرة في محيطها وما تم إكتشافه من الآثار والمقابر التي ترجع إلى
آلاف السنين في بعض المناطق يعتبر ضئيلا جدا بالنسبة للمخفي الذي ستكشفه الأجيال
القادمة بعد تشجيع الأبحاث الأثرية وقراءة الكتابات المنقوشة على الكهوف والحجور.
والغريب أن سكان مدينة بَرَنْ أخبروني أن الهئيات العالمية تهدم القلاع الأثرية
وتستخدم مكوناتها على أشياء لاتمس على حياة الشعب إطلاقا!
ومن أجل تصحيح التاريخ والجذور يجب أن نبحث عن الوثائق الأوروبية
وترجمة كتبهم ومعرفة خواطر الرحالة القدامى أمثال الإغريقي سيكلاكسن الذي زار
المحيط الهندي والبحر الأحمر بسنة قبل الميلاد، وباربوسا البرتغالي الذي قال عن
مقديشو: (كانت ميناؤها مزدحمة بالسفن ورائجة بالبضائع)، وسبر غور رحلات مغامري
أوروبا والإرساليات في المشرق الأفريقي، كما يجب أن نتابع خيوط الهجرات وتأثيرها
على التركيبة السكانية والتداخل الثقافي والعرقي والرحلات المتبادلة بين شعوب
العالم وسكان الصومال لمعرفة الحضارة وتحديد الماضي بدقة تقودنا نحو إثبات الهوية
والأزمة القديمة الجديدة حول الأصول والجذور الضائعة بين السرد والشفاهية.
مناظر طبيعية وجبال تعانق السحاب والضباب، وآثار قديمة تعود إلى
حضارة البونت ومملكة سبأ التي حكمت اليمن والبر الأفريقي المقابل لها، كما توجد
أيضا أضرحة عريقة مجهولة العمر، وبعضها تعود إلى الأجداد الذين انحدرت منهم معظم
القبائل الصومالية حتى سميت المنطقة أرض الأجداد، كما يوجد المعادن وأجود أنواع
الذهب والماس، وفي عهد الحكومة الصومالية بقيادة الريئس الراحل محمد سياد بري رحمه
الله أبرمت إتفاقية مع شركة رومانية لتنقب الذهب.
تربعت على فندق يقع على بعد أمتار قليلة من البئر الذي تناقلته
الأجيال وفرة مياهه وحيويته، وقلاع أثرية تشهد هندسة معمارية فريدة تدلنا كيف
تطورت فنون الدفاع والقتال في الصومال، كان الليل فاتنا وكنت أغوص في أعماق حضارة
الأجداد الضائعة، آباؤنا العظام كانوا بواسل يحملون شعلة التحدي فمضو يفتحون
الأمصار ويعمرون الأقطار حتى وصلوا إلى حدود كسلا السودانية، كانوا كالشهاب يضيئون
الطريق ويحرقون الجهل فأسسوا المدن المقرونة بالحضارة قبل مجيء الحملات
الاستعمارية التي هزمت الممالك وأحرقت المساجد وهاجمت على الارث والزعامة
الصومالية حتى انحسر سيطرتهم وتراجعوا آلاف الأميال نحو هرر وما ورائها من الشريط
الساحلي، ورغم الانحسار والتراجع لم يرض المحتل فقطع أوصال الأمة ومزق
وحدتها وكيانها.
لقد أضعنا ما بقي من الوطن والكرامة، كان الشعب يصغى إلى موسيقى
الحياة والسلام والسمرة، ويمارس الحياة في ظل دولة تحمي الحقوق والمصالح والماضي
والموارد، وكانت المزارع تغزوا على ضفاف الأنهار، والمعادن تستخرج من باطن الأرض
فتجاوزنا الحدود وتمادينا في المعارك فذبلت الحقول وضعفت القلوب وتفرقت الجموع،
وأصبحنا شعب محكوم عليه بالإعدام بسبب سماسرة يزهقون الأرواح ويقتلون الأبرياء
وينشرون الحقد في أوساط الشعب الذي تحول بعد سنوات من القهر بلا ملامح ولا طموحات
بل بلا حياة.
ذهبت بعيدا في عمق الخيال فتربعت على قمة النوستالجيا وأنا أغادر
بلاد ماخِر إلى صوب الجنوب الغارق بالحروب الأهلية، نظرت إلى الجبال المحيطة على
مدينة بَرَنْ وابتسامتها رغم التعب فأحببت لو طالت زيارتي في سَناغْ ومرابعها
وأهلها الطيبين ولكن استسلمت للرحيل خائباً محبطاً.