أفجوي مدينة الجمال والبساتين والحكاوي
والتراث الصومالية حيث اشتهرت المدينة بطبيعتها الخلابة وألعابها الشعبية وطابعها
التاريخي والثقافي التي احتفظت به المدينة رغم سنوات الحروب والتهجير التي حولت
لوحة الصومال الجميلة إلى لوحة كالحة وكئيبة، كما تعتبر أنها من إحدى أهم المدن في
الجنوب الصومالي بكونها سلة الغذاء والجمال وموطن الفلاحين الذين هم عصب الحياة في
وطن يعتمد على الرعي والزراعة.
موقعها المتميز ولمساتها الخاصة إضافة إلى
التخطيط الجيد والمباني القديمة جعل أفجوي مدينة لها تأثير خاص في الوجدان
الصومالي لذا نجد اسمها يتردد في الأمثال والقصص
والفن الصومالي بكافة أنواعه. قبل الإستعمار الإيطالي الذي سيطر على
المدينةفي بداية القرن العشرين كانت قبلة السياح لكونها تتمتع بكافة المرافق
السياحية والحيوية ما جعلها مدينة يقصدها الجميع في العطلات الرسمية والأعياد
الدينية والوطنية.
تركت المدينة انطباعا جيدا على مشاعري
وتعلقت بجمالها وبساطة الحياة في أحيائها العتيقة منذ زيارتي الأولى عام 1998م،
أحببت إبتسامة الأطفال وهم يلعبون أسفل الجسر وتمنيت أن أتمدد في داخل الأكواخ
الحالمة على ضفاف نهر شبيلي، وركضت وحيدا صوب الحقول والحدائق المنتشرة على طول أفجوي
الموغلة في جمال الجغرافيا والمترعة بنشوة الرقصات الشرقية الهادئة.
في الزيارة الأولى كانت المدينة تشبه قرية
إستوائية تكاسلت الشمس في أفقها، وتغفو على ضفاف الجمال والغابات الكثيفة لذا كانت
زيارتها من إهتماماتي الخاصة منذ أمد بعيد، وبعد عقدين من الزمن تقريبا قصدت صوب
معبد الجمال والمدينة الفاتنة بحماسنها وغنائها وتفردها الشعبي حيث تحتضن المدينة
القبائل الصومالية والعربية إضافة الى الجاليات الأخرى التي كانت المدينة تضمهم
منذ أن إستقرت هذه الشعوب في التربة الصومالية.
ذهبت مع رفاقي إلى أفجوي المدينة الآسرة
التي إستمدت تاريخيا حيويتها وإستراتيجيتها من موقعها المتميز لكونها البوابة
الجنوبية الغربية للعاصمة مقديشو التي تبعدها حوالي 30كم، وتزود أفغوي مقديشو بمعظم إحتياجاتها من الخضروات
والفواكهة لذا تشكل نبض مقديشو ورئة مهمة تتنفس منها العاصمة.
كانت الأجواء صيفية ساخنة وأرتفعت الرطوبة
في الجنوب الصومالي إلى أعلى مستوياتها، لأن الشمس كانت تجري تلك الأيام على خط
الإستواء الذي يمر بالنصف الجنوبي من الصومال، كان الحر يشتد والرطوبة تزداد
والعرق يتصبب كلما توغلنا في السفر الذي تحول أخيرا وعندما وصلنا إلى عين الجمال
وإبتسامات جميلة مارسناها على وقع رقصات الأغصان وصوت الأوراق التي تعزف أجمل الألحان.
في وسط مروج أفجوي الخضراء وعلى حافة أحد
الحقول الزراعية التي كان العمال منهمكون بحرثها، إلتقيت بمزارع مسن يبدو على جسمه
بقايا قوة وعضلات كانت مفتولة في زمن الصبا والشباب، جاء من أقصى الجنوب الصومالي
حيث المدن التي أعرفها جيدا وقضيت فيها سنوات الطفولة وأنضر أيام عمري، تحدثنا
كثيرا عن القرى الناعسة على ضفاف نهر جوبا العريق بدءا من جلبJilib زهرة المدائن الواقعة على سهول
نهر جوبا التي أسرتني منذ أول زيارة بجمالها قبل 15 عاما، مرورا بكمسوما Kamsuma سرة المدن وهمزة الوصل بين
الإقليمين التوأمين جوبا السفلي وجوبا الوسطى، مرورا بكلانجيKalanje ومريري Marereyمصنع السكر الذي
كان أكبر مصنع سكر في الصومال وثاني أكبر مصنع في القارة السمراء، وتطرقنا على
مزارات المتصوفة عن بلد الكريم BaladAlkarim، ومانموفو Manamofa، وبارسنجوني Barsanguni،
هذه القرية السياحة التي ينصفها خط الإستواء، وبإمكان الإنسان أن يعيش فيها
لحظة تاريخية نادرة الحدوث، حيث يستطيع أن يضع رجله اليسرى على النصف الشمالي من
الكرة الأرضية ورجله اليمنى على النصف الجنوبي من الكرة الأرضية.
لم أكن أتوقع أن أجد على ضواحي أفغوي
الرائعة وفي وسط أناقة الأزهار التي تكاد أن تتكلم وتبوح بكل مالديها لمرهفي
الإحساس وأصحاب القلوب النقية من أتحدّث معه عن القرى النائية، والمدن الصومالية
العريقة، والأرياف التي أعرفها كثيرا وبعضها كنت أتردد عليها في صغري وأيام المراهقة
الجميلة.
حاول العم إبراهيم رغم قصر يده والبساطة
التي تظهر عليه أن نكون ضيفا على أسرته وأن نذهب معه إلى البيت، ولاغرو فالأرياف
الصومالية التقليدية التي تحمل طابع العراقة والأصالة التليدة التي لم تتلون
باللون الأحمر بسبب نافورة الدماء التي سالت، ولم يتغير طباع ساكنيها بفعل الحروب
العبثية والصراعات العقيمة التي تاه الشعب في دروبها الطويلة ومتاهاتها القاتلة
أكثر من نصف قرن من الزمان، تبقي وفيّة لتقاليد الصومال العريقة وأصالة شعبها
الكريم المتسامح الذي يرى عدم إكرام الضيف من أقبح العادات التي يفعلها الإنسان على
مر العصور.
وجدنا في الأماكن النائية وفي العمق
الزراعي لأفغوي شعبا متسامحا كريما، ورياحا لطيفة تلامس وجه النهر الهادئ، وسهولا
نهرية ملئية بالأسرار والخيرات، وإبتسامات برئية لأطفال يسرحون البقر على المراعي
الخضراء، وأزهارا متعددة الأنواع والأشكال والألوان، وجداول رقراقة تناجي عناقيد
المانجو، وأغصانا تحن وتشتاق لبعضها، وحقول السنابل التي تلاطف أوراق الموز برقة
ولين كأنه فنان أوبرالي مترف بالأحاسيس العتيقة، وترعات تحيط بأشجار الباباي التي
تئنبالحمل الثقيل.
هناك وفي جزيرة مزدانة بالخضرة الداكنة
وقفنا نخلد ذكريات الأيام ونوثق صدى الساعات الطوال التي قضيناها مع صحبة الأماجد
والرفاق الكرام، وهناك وعلى ذرى الطبيعة ووقع صوت العصافير التي تترنم كمعزوفة
شرقية حالمة، وزقزقة الحمائم المزهوة بالخضرة، والبطاريق المتبخترة، والدروب
الخضراء المتقاطعة، والمروج التي تتزاحم على جنبات الطريق، والأزقةالضيقة التي
يعبرها القرويون بدراجاتهم وتقودنا نحن إلى قرية هرر التي تبعد قرابة 15كم شمال أفغوي، كانت الوجوه تتلألئ، والأفواه
مبتسمة، وفوق الأغصان الملتفة التي إتحدت وتعانقت كأنها تحس بدفئ الحب ومرارة
الفراق وفي وسط زحمة الأعشاب الملتصقة بالنهر كان تغريد القمرية يطرب العقول،
وكأنها تردد أغنية الشوق والهوى لصاحبة الصوت الطري هبة نورا وحنجرتها الذهبية
تردد رائعتها المشهورة:
(Doob qalanjadiisi gabay)
"عازب خيب
آمال حبيبته"
هذه الأجواء البانورامية التي تعطي المزاج
طراوة، وتمنح الذهن صفاء، وتغتال الكدر والأسى ورواسب الحزن والألم وقتامة الوضع
في داخل النفوس قبل أن ترى النور، كنت ضيفا على كرم منازل متناثرة حول الجداول
تفوح منها رائحة البخور واللبان، وأجواء رومانسية مترعة بألق الحقول المنتجة
وجمالية البساتين المبهرة وصنوف الفواكه والخضروات المتنوعة، والأنهار المتعرجة
التي تشق وسط المروج والطبيعة العذراء في طريقها إلى جنوب الوطن ليتلاشي على جبينه
والمستنقعات الكثيرة لسهول الجنوب.
بسط الأصيل ردائه على الكون ونحن نهمس في أذن الطبيعة وننثر على الضفة الجنوبية لنهرشبيلي كل الحكاوي والأحزان والأحاسيس العتيقة والمشاعر التي تصدح ماوراء المرئيات وفي سحيق القلوب المكتنزة بتباشير الحب، ونبحر في جو سريالي موغل في صفحات السعادة إلىأزقةالحياة الرائعة كأنفاس الحوريات الرقيقة.