الحديث عن مرفأ الذاكرة والمدينة
التي تحتضن كل الأحاسيس والذكريات والأشجان ليس سهلا كتابتها في قصة أو رواية
ناهيك عن عدّة سطور، في ذكر الأحبة و شذى ألحان كسمايو تتساقط علىّ المشاعر، وتتزاحم
الأفكار في خيالي، وتتراقص الأشواق على وقع أنغام الذكريات العارية، وأقع في عمق
النوستالجيا والترحال إلى الماضي الفخيم، والحنين إلى أماكن إختفت بفعل السياسة
والزمن، فيخونني التعبير ويعجز القلم عن نسج الكلمات المشحونة بعشق المدينة وطيبة
الإنسان.
تغازلني كسمايو وتأسرني بجمالها وفي
غمرة الحنين الذي يذبحني أطالع جمال المدينة وبهاء الإنسان عبر زرقة السماء،
والحنين الشارد إلى ضفائر السمراوات، وعيون البسطاء، وأحلام الكادحين،
والشوارع الترابية، والسواحل الخلابة، وزرائب الطيور الحاملة رسائل الحب ولسعات
الشوق، والبيوت المتلاصقة العامرة بصخب الأطفال وهمسات المحبين وقصص الحروب
وأحاديث الحزانى.
عندما كنت في المنفى الإختياري وبعد
يوم جامعي طويل في الخرطوم، كنت أتمدد فوق سريري واضعا رأسي المثقول بآلام الغربة
وصعوبة الحياة على الوسادة متحملقا بسقف البيت والمروحة العتيقة التي تدور كبندول
مهترئ، كانت الدراسة تأخذ الحيز الأكبر من وقتي ومحادثة الأصدقاء كانت المتنفس
الوحيد في ظل غربة تحتنفني، ورغم ذلك كنت أفتح من قلبي نافذة مطلة على بلدي، خاصة
معشوقتي عروس المحيط كسمايو المترنحة تحت عبأ الحروب الأهلية، والحركات المهوسة
بالقتل والدمار، وقبائل تائهة في موجات متقاطعة من حرب عبثي لا ينتتهي.
كنت أتذكر الأيام الخوالي في رحاب
الأهل وأحضان الأمهات الدافئ، والزمن الجميل، والوجوه النابضة حبا وجمالا، والطرق
الترابية لحارتنا الذي يحكي قصة أجيال
وأجيال، هنا مرت القوافل الأولي للساكنين جنوب الجنوب، وهنا سكن الأجداد بعد رحلة
طويلة وشاقة من الهضاب إلى السهوب، وهنا
جلسنا الليالي الطوال وقصصنا حكايات أغرب من الخيال، حكايات طفولية مضحكة، وأحاديث
صبيانية ملهية، هنا نسجنا روايات المراهقة بإتقان، وهناك تعلمنا عن الحب ومبادئه،
عن الهجر والوصال، والعيون الدعج والتغنج العجيب، وتبادلنا النظرات الحاملة للحب
والعشق السرمدي، والأجفان الناعسة بطول السهر وسهام الهوى، وفوق جبين الطريق
المعفر أسهبنا في تحليل المباريات وتشجيع الفرق والتعلق الواضح للساحرة المستديرة.
لا أنسي التفاصيل الصغيرة لحارتنا
الواقعة في جنوب حيّ فرجنة العريق، أمام بيتنا وعلى بعد مسافة قصيرة يقع منزل
عبدالناصر صديقي الذي هاجر إلي أمريكا بعد سنوات الصداقة الممتدة بإمتداد الوطن، أصبح
فاقعا كمشاعر الغريب وكأنه يحاكي مشاعر صديقي في منفاه هناك في بلاد عم سام أمريكا
أو أرض الفرص كما يقولون. وكان عبد الناصر قاصا مثاليا قلما
يجود الزمن مثله في الحفظ والسلاسة والتفنن والحرفية العالية من الإنتقال الأنيق
من قصة محزنة إلى قصة مبكية، ومن حكاية موجعة إلى حكاية مفرحة، ومن الأفلام
الرومانسية إلى أفلام الرعب والحروب، كان يحفظ ملايين القصص وآلاف الحكايات ومئات
الأساطير المستوحاة من الأفلام والخيال، ومن الواقع المؤلم، أو من الميثولوجيا
الصومالية الملئية بمثل هذه القصص.
وعلى شمال بيتهم يقع منزل بشير
بعولي الأسمر الطويل صاحب الصوت الجهوريّ والصدر الواسع، كان سياسيا لبقا ومحنكا
عزف على جميع الأوتار السياسية الممكنة في القرن الإفريقي لديناميكيته السريعة
وعقليته المبنية "السياسة هي الفن الممكن" في صغرنا كنا نقول هو ممثل
لدولة معيّنة في كسمايو لم يكن ظننا صحيحا
أبدا، بل كان من إنتاج الخيال الصومالي المريض المؤمن بنظريات المؤامرة والعدو
الخارجي المتربص، رغم أن المعول الصومالي يهدم كل شيء ولم يترك ما يهدمه الغريب،
والآن يتمايل مع نغمات طانتو وعلى وقع صوت أحمد بُدل
هناك في جكجكا مهد اﻷدب والقوافي، ولم يرجع إلى عروس المحيط كسمايو منذ عقد من الزمن .
ويظهر عبر صورة الخيال منزل على
لهلي الرجل المهوس بالإقتصاد والكرة، وفي جوار بيته يقف شامخا مبنى أول مدرسة قمت
بتدريسها عام 2005م مدرسة إفتين الإبتدائية، ولا أنسى المسجد الصغير الذي كان الشابان
الصديقان اﻷحمدان قوفلي وزميله قاما
بترميمه وتجديده، وجابر المؤذن الخلوق والقارئ
الصامت، صوته المميز يهز جنبات الحارة ويوقظ النائمين عن الصلاة فجرا، في مقتبل
العمر وعلى رحاب هذا المسجد كنت أصلي الناس صلاتي الفجر والعشاء، الأحمدان عاشا في الدنيا كريمين جسدا اﻷخوة الصادقة والزمالة
الحقيقية ورافقا إلي الرفيق اﻷعلى وإلى الفردوس إن شاء الله .
ومن الأماكن الملتصقة في ذاكرتي
الطريق إلى ميناء كسمايو وشاطئ ليدو الذهبي، ويحمل هذا الشارع
الذي يعد أجمل ما بقي للأمة وللوطن بعد إنهيار الحكومة الصومالية أشجانا وأحزانا،
ويضم في داخل طيات إسفلته الباهت مئات القصص والمشاهد، ليالي مترعة بالبهجة، ودولة
صومالية قوية، وعبث السنين، وأخبار اﻷحزان واﻷفراح، ويوميات حزينة لمدينة أثرتها
التقلبات السياسية والحروب اﻷهلية.
يعد هذا الشارع الذي بني في أواخر
حقبة اﻹستعمار وباكورة أيام الدولة الصومالية من أهم شوارع كسمايو المدينة الإستراتيجية،
حيث يربط المدينة بالميناء الرئيس القلب النابض للمدينة إذ تمنح
عليها البضائع والسلع وجميع ضروريات الحياة القادمة ما وراء البحار هناك في التنين
الصيني، او الهند بلد العجائب، او دبي المركز الإقتصادي العالمي.
في صغري تعودت أن أمشي عليه ذهايا وإيابا وأنا أتجه
إلي الساحل والضفة الغربية للمحيط الهندي ﻷمارس هوايتي المفضلة مداعبة الساحرة
المستديرة على الهواء الطلق والرمال الناعم، أو التفرج بجمال الميناء والجلاميد
المتناثرة التي تشكل حاجزا منيعا بين الميناء والمحيط، والثكنات العسكرية للبحرية
الصومالية الواقعة في الأنفاق داخل الجبال المحاذية للمحيط الهندي .
كنا نعد اﻷيام والساعات ونحن ننتظر يوم الخميس عنوان
السعادة والحبور في عقل طفل حرمته الحروب جميع الألعاب الطفولية، ما أبسط أمنيات
الطفولة! لعبة وتجوال، فضفضة ونقل اﻷساطير
وسرد الحكايات الموغلة في القدم، كبرنا وذهبنا إلى أصقاع العالم نحمل هموم
الوطن، وأحلاما برئية تنتظر التحقيق، وتغيّرت الملامح واقتربنا شيئا فشيا نحو
الكهولة، ورحل البعض الى سكون القبور
وغمرت الغربة بعضنا، وما زال هذا الشارع يخزن ذكريات تأبى النسيان، وآثار أقدامنا
الطرية مرسومة على جبينه المضحاك.
أما بيني وبين شاطئ كسمايو الخلاب
بروعة منظرة وجمال مياهه وزرقة أفقه الصافية علاقة حب لا تنتهي منذأن كنت يافعا لا
أفكر سوى الدراسة في الصباح والكرة والتسلل إلى الأفلام والسينماء التي كانت
تبهرنا بعرضها الخلاب وتمثيلها الساحر المصحوبة بترجمة أنيقة لأفلامها الأجنبية
إلى اللغة الصومالية في المساء، برفقة الطيبين أمثال أخى الشهيد حسن نور، وصديقي
المغترب إبراهيم، ومحمد عرمالي، وعبدالكريم باخا، وطوح عبدي يوسف، وعبدالرحمن معلم، ومحمد
مصطفى، وآخرون دافعنا معا ألوان فريق مدرستنا في الصغر، وشكلنا مجموعة قوية في
العراك والشجار في مرحلة المراهقة، وفي الكبر بعضهم رحلوا من البسيطة وأعبائها إلى
سكون القبور وسكوت المراقد، وبعضهم غيبتهم الغربة وأبتلعتهم المنافي الشاحبة،
وبعضهم مازال قابعا في سجون المستبدين والزنزاناة الإنفرادية لمصادري الحقوق
ومكبلي الحريات.
أحب مدينتي
الجميلة بفسيفسائها الشعبي وكريزميتها الخاصة وحبها الذي سكن قلب كل صومالي أصيل،
وطبيعتها العذراء وموقعها المتميز.