لم تكن تلك الليلة من ليالي الخرطوم المعبأة بالذكريات
والشجن لتمر دون أن أتذكر رنات التوجع ووميض الأفراح التي مرت على لوحة حياتي. في
تلك الليلة الطاؤوسية بدأ قلبي يعزف لحن الذكريات ويطرق ابوبا الماضي، لم أتفاجأ
من هذياني وترحالي السريع نحو الماضي كسرعة الضوء في الفضاء لكوني جلستُ أمام المنافي
وجها لوجه، وأوردني السهر في كل مورد.
كنت أعض شفتي خانقا وأتامل بغرابة ظلام العتمة وإضاءة
الغرفة وسقفها العتيق، وفي لحظة نادرة من الصفاء العميق والتأمل السحيق وفي خضم
إنهماكي في رفوف الأفكار وتناسق الخواطر، مرت الذكريات أمامي كزرائب الطيور ،
فهالني بين ألبوم الذكريات صورة تحمل الحزن الإفريقي وشبح الحروب ولاتخلو من
المظاهر التراجيدية للمشاعر المتبلدة.
بحر الذكريات أجبرتني أن أهرب إلى السكون، وفي هدوء
الليالي المطبق يراودني خيال أن أرقص على مقربة من الأرصفة بأريحية محسودة. وفي
خضم أمواج الواقع كدتُ أن أنسى الماضي وأنحني رأسي أمام الواقع لقوته وعمقه،
ولكن تذكرت تلك الليلة الربيعة في نيروبي المختبئة خلف أبوب خشبية من الذكريات
الصدئة والأحداث المتلاحقة والتنقلات الإجبارية والإختيارية.
الصورة القاتمة لازمتني منذ ذلك التاريخ، ولم يمسح الزمن
عن ذاكرتي في الحل والترحال، بل كل ومضة أوهمسة تقف أمامي وتصدح في أعماقي، ويرتفع
معدل الشعور المتنافض كلما أتوغل أرخبيلها وأغني فوق رمالها بصوت خافت يصدر عن مزاج
قابع على رماد الماضي.
كانت الصورة مزيجا من قبح الحروب وسلبية المشاعر
والأحاسيس، وتعود لـعام 2008 للميلاد، ذاك العام الذي حمل لي كل تناقضات الحياة، الأفراح
والأتراح وأنغمست فيه الملذات والمتاعب، وحملني جمال الحياة وسواد الحال والمنون
التي إختطفت أعز الأشخاص إلىّ، كما حرمني أشياء كثيرة مثيرة ومتنوعة لا أنساهم،
وأرتكبتُ برفقته بعض الحماقات المقيته وبعض التهورات السخيفة، وفي نهايته إبتسم لي
الحظ أخيرا وحققتُ أغلى مطامحي في تلك الفترة، لتبقى تلك السنه الأكثر حضورا في
سجل ذكرياتاتي الحافلة بكل ألوان الطيف وتقلبات الحياة.
إنهمرتْ السماء على نيروبي الحزينة وأبتْ أن تكتحل
عينيها النعاس. قطرات المطر لا تكف عن المدرار، وصخب الطبيعة ورعدها الهادر إمتزج
بلون الدم وصوت الملاهي، وضجة الرصاص، ورائحة البارود. وموسيقى الجاز، ونغمات
الهيب هوب الصاخبة، والصوت الذي يولد من حناجر السمراوات وهن يغنين من أطربتهن
أناشيد الحب والحياة.
بدأ المطر يهطل وكأنه يغسل الدماء من تربة نيروبي الودودة،
وكستْ الطبيعة لونها على صفحات الكون، وأنوار المدينة تومض ولهى في وسط العمارات
والمباني الحكومية والمتاحف التاريخية، وبدت المباني رغم جمالها أكواما من رماد
وآهات من الألم!، وأصبحت الحدائق المنتشرة في نيروبي مجرد أعشاب تهزها الأعاصير
أوأغصان أشجار أصابتها رعشة في زمن المغيب.
بعد الإنتخابات الرئاسية والبرلمانية وما شابها من غموض
وتزوير على أعلى المستويات لم ترضي النتيجة أطراف الصراع الإنتخابي الذي سرعان ما
تحول من الإقتراع إلى الإحتراب، ومن تنافس شريف إلى تناحر بغيض ومن صناديق
الإقتراع إلى بنادق الإقتتال!، وفقدت المدينة بريقها وزخمها المعروف، ولعلعت
الرصاص في الأزقات والشوارع وعاش الناس في هلع وفي هرج ومرج، الناس حائرون، والصوص
منتشرون، والدولة نائمة، وبائعي الكرامة ينتظرون القريب قبل الغريب على الرصيف،
والشرطي يتسابق مع العصابات والمجرمين ويدخل معهم حرب كر وفر في شوارع نيروبي
الرئيسة وفي أزقاتها الجانبية.
الأبراج العاجية والمباني الشاهقة وثورة الطبيعة تتحول
في زمن الخوف إلى أشباح تتلاعب في الضباب، وكائنات فضائية تصب لعنتها على الإنسان
الذي أبدع في البناء والتشييد وأخفق في السلام والمحافظة على المكتسبات الحضارية
والروحية والتاريخية، وأفني نفسه وأهدر ماله في مواجهات عبثية دامية لا ناقة له
ولاجمل.
أحلام تصرخ ومستقبل قاتم وحرب الشوارع ومواجهات دامية،
موت جماعي هنا ومجزرة هناك، قتال بين الشعوب واحتراب داخلي رهيب، ونهب لممتلكات
الدولة، وسطو مسلح لثروة الأمة وتأريخها، وموجة عنف رهيبة تؤدي إلى التشرد والضياع
والتشرذم والهلاك، وزهق لأرواح الكادحين والبسطاء في كل البقاع.
بعد رحلة رائعة من غاريسا حاضرة الإقليم الصومالي في
كينيا وكان الخيال الفنتازي يملأ أركان قلبي ويمني نفسي وصول البيت قبل ظلام
العتمة، كان جبين نيروبي باهتا ممزوجا بالضجر والألم ! الناس مسرعون بإتجاهات
مختلفة وبحاجب معقود!، والحياة ملطخة بالدموع واللون القاني والأماني والتضرع،
الحركة تجري بتروي شديد يشوبها الحذر، كل شيء يخبرك التغير الذي طرأ على حياة
الناس والمدينة.
في ذلك المساء الشاحب لم تكن المدينة كما تعهدنا جميلة
وكما تغني لها الشعراء والأدباء قريبة إلى الجنة، بل كانت خابئة المنارات كدروب
كريهة، الدم يفور من كل بقعة من جسدها، القتلى أكثر من ألف شخص خلال أقل من
شهر والجرحى لايعد ولا يحصى، مما كون الإحباط وفقدان الأمل في النفوس، وهدم جسر
التواصل بين أبناء المجتمع الواحد.
النواقيس والأجراس تدق الخطر الداهم في كل لحظة ، لم
أفكر سوي إيجاد مواصلات آمنة تقلني من إيتسلي إلى وسط المدينة لأركب مرة
أخري من الوسط التجاري إلى حي سوث سي (South C) الذي أسكنه،
ولكن ندرة المواصلات تجبرني أن أقف في المحطة أكثر من ساعة كان الخوف والترقب
سيّدا الموقف، وأخيرا أدركت باصا مكتظا بالركاب والخوف، لم يكن عندي ترف الخيار
ولا فسحة الإنتظار فقزت عليه كغزالة رشيقة أو كظبية أليفة في وادى فَافَن الموغل
في سحيق التاريخ، وبعد خمسة وعشرون دقيقة من الخوف نزلت عن الباص على رصيف
هيلاسيلاسي إيفنيو" أو شارع هيلاسيلاسي" المكتظ بالمارة والسيارات
والباعة المتجولين وأطفال الشوارع والمتشردين.
كانت الصورة هذه المرة أبلغ من ألف كلمة ومليون حكاية
!.... رمال السياسة المتحرمة أثرت كل شيء!، الحياة معدومة ورائحة البارود تزكم
الأنوف والشرطة أرهقتها المطاردات، أما الشعب أصبح ضحية لمزايدات سياسية، وهلوسات
فكرية، وأجندات جهنمية خططتها أنامل الحقد والحسد عن غرة، ودفن الجميع روؤسهم في
تراب التجاهل والإستخفاف بمصائر الشعوب، السياسيون غمرتهم شهوة الكراسي، والحكومة
تدور في المربعات العبثية، والمعارضة لا تقدم سوى إراقة الدماء ولا شيء يبدد الأسى
وينهى القتال يبدوا في الأفق! إلهي ماهذا الجنون؟ وماذا أصاب كينيا جنة القرن
الإفريقي والحديقة الجميلة في وسط الحقول الملتهبة؟.
ت
رجلت قليلا نحو منعرج الطريق القريب إلى محطة البنزين
التي تطل على مومباسا رود من الجهة اليسرى، وتحت الجسر أو سكة الحديد التي تربط
كينيا بوسط وجنوب الإفريقي عبر يوغندا، كانت رائحة الصندل المنعشة حول التربة
السوداء التي تحتضن آلاف الجرحى ومئات القتلى تدخل أشياء غريبة في قلوبنا وتغتال
الأمل، بينما أبواق السيارات الهاربة والطلقات النارية للشرطة تؤنس الوحشة
للخآئفين.
وقفت وحيدا في قلب الخوف والترقب حينما أدلى الليل سدوله
وشفق المغيب رسم على الأفق قبلته الأرجوانية بشكل مدهش ونثر عبير ورده تحت
قبة الليالي الربيعية، أنتظرت المواصلات العامة وطال الترقب وبدأت البرودة تدق
مسمارها المؤلم في لحمي وعظامي، وبدأ الخوف يتسلل إلى قلبي، وتأخر الزمن كثيرا
وعقارب الساعة تشير إلى التاسعة والنصف بتوقيت شرق أفريقيا.
كنتُ حاملا قنينة ماء وبقايا أمل وخوفا ملأ قصبات
الضلوع، وأحتضن حيرة أنفثها بشكل زفرات رغم البرودة والأسى، وأردد هل تحولت مدينة
السحر والجمال إلى سرداب للصوص وأكواما من الجثث والركام؟ أم أن العاصفة ستكون
سحابة صيف عن قريب ستنقشع؟.
في هذا الجو الكئيب طفقت أراقب بمن حولي، فيبدو لي أن
قصص الحيارى والعابرين من شاطئ الحياة إلى برزخ القبر يجعل العيون غارقة في الرعب
وتفسير الأحداث، لا أحد ينبس ببنة شفة سوى زخات المطر وعيون غمرها الخوف ومشاعر
إغتالها الحرب، وطوابير من الناس مقيدة على الرصيف البارد بسبب ندرة المواصلات.
وقفت وسط الجميع جنبا إلى جنب مع فتاة شقراء
ممشوقة نظرتها على عجل، وفي تلك اللحظة الحرجة لم أكن أفكر سوى وسيلة سهلة للوصول
إلى البيت، ولأني لم أكن يوما ضمن الآثمين بالهوى وممن شربوا كؤوس الحب أصنافا،
وممن يتسترون قبعة الإزدحام ويرسلون سهام عيونهم وجماح مشاعرهم في وسط جحافل الخوف
وفي وحي سكون الليل، لم أرد إختلاس النظر أو التقرب إلى الإنفرجية الجميلة.
في أول الوهلة سمعت همسة وخطوات وئيدة
نحوي ولم أعر لها أي إهتمام، بل كنت مشغولا بإيجاد المواصلات التي أصبحت نادرة
بسبب الخوف والقتل المتفشي في المدينة، وبقيت الصرخات والشك عنوانا للشعب، لذا
تماديت في التجاهل حينما لاحقني الصوت وأنا مضطرب من شدة البرد والخوف ومتهاوي من
أجل التعب والإرهاق.
المسطور في القدر لا مفر منه،! أتبعني الصوت الذي طوع
المسافة لصالحه وطوي البعد ليصل طبلة أذني الباردة وجسدي المترنح تحت صقيع نيروبي،
نظرت إليها فإذا هي شقراء أوروبية، ويبدو على محياها كدمات وآثار التعدي أو
التعذيب لا أدري، الخوف والوجل طمس معالم وجهها، ومظاهر الحيرة رسمت على وجهها بقع
حمراء وهالة دموية شفافة، أشفقتُ لها وأحزنني موقفها كثيرا لأني لم أتكيف ولم أر
في حياتي شخصا أبيضا يعاني بينما سواد البشرة مقترنون بالحرمان والمعاناة.
ماذا تريد؟ وماذا تفعل إمرأة شقراء فارعة الطول على شارع
هيلاسيلاسي في هذا الزمن المتأخر وفي ظل الخوف الذي أجبر المواطنين اللزوم في
بيوتهم؟، ولكن سرعان ما تذكرت أن المنطقة هي وسط نيروبي المعروفة بقلب العاصمة
النابضة، حيث التنوع العرقي والسحني واللوني هو الأبرز، ويؤم إليها السياح
الذين ترنوا قلوبهم إلى جمالها وإمتيازاتها المتعددة، ويزيد شغفهم فضاء الإبتكار
تحت سماء الحرية والإبداع الذي بات عنوانا لنيروبي لندن افريقيا.
كان الإصغاء إجباريا لأجل الإنسانية وربما حب الفضول
والتطلع قادني إلى ذلك رغم الخوف الذي يسيطر على الحياة. كانت مثقلة بشيء ما
بالهموم أو المعاناة أوالخوف أو رعشة البرد أو زقزقة عصافير البطن من أجل الجوع أو
الحزن والأسى أو التيه لا أدري!، وقفتْ بجنبي ترمقني النظر وأنا أتحاشي النظر
إليها وأتهرب من أسئلتها المحيرة، قفزتُ بضع مترات وخلست النظر إلى بريق عينها
الشاحب فإذا هي قطعة من القمر أو حورية أخطأت طريقها.
كانت أصوات الرصاص تخرج من كل الشوارع ودبدبة اللصوص
والشرطة تتنتهي إلى مسامعي وأنا مقبوع بزاوية بعيدة في قلب الحدث، إقتربتْ إليّ
وهمهمت بعض الكلمات المبهمة بلغة إنكليزية وصوت مبحوح لذيذ وكأنها شكسبير أو أمير
وليم !، فهمت بعض الكلمات وبعضها لم أفهم، ولكن بحكم السن والتجربة عرفت أنها تريد
معرفة شيء ما لم يخطر في بالي قط.
لم يكن الزمن مناسبا لمواصلة الكلمات وإنتظار ما تبوح به
الشقراء فقلت لها بإنجليزي ركيك مكسر الأوصال ومقطع الحروف والكلمات: لا أستطيع
مواصلة الحديث وأنتظر المواصلاة لا غير!.