أناس منسيون علي هامش الحياة صرعتهم
الغباوة والخيال الكاذب وجنون الشهوة، وتركهم الواقع علي الرصيف البارد يلاعبون
أحلامهم في حافة المجهول ويرقصون وسط الضباب بعفوية موغلة في السذاجة، ويرسمون صور
الأسي علي لوحة حياتهم الردئية وقلوبهم السوداء الكالحة، لا يرعبهم الوضع ولا
يخيفهم المستقبل ولايردعهم الوازع، بل يدورون في الحلقات الفارغة بفرحة عارمة
وحبور لا ينقطع.
دأبوا في وأد حياتهم بأيديهم الملطخة
بالإدمان،ويقتربون إلي الأجداث في كل لحظة بحماسة ملتهبة وعزيمة لا تلين وعريكة لا
تهون، ويتجهون إلي قوافل الراحلين في كل حين، نسوا مسؤلية الأسرة وواجبات البيت،
يرتعون السم القاتل عن طيب خاطر ويسيل اللعاب من شدقيهم بلا ضمير.
أولادهم يستظلون الثريا وينامون فوق الثري!
وأمهاتهم قد ضمر الفقر بطونهن وألهب الجوع أجسادهن الشريف وأنهكت الجوع قوتهن وطمر
الحزن بريق عيونهن،وإخوتهم يتضورون جوعا في الطرقات بملابس هزيلة ويهدرون كرامتهم
في الطرق الأزقات! وهم يتأبطون حزمة من القات أو بالأحرى أغصانا من الموت البطئ
وقنينة ماء تشبه لون الندى علي النوافذ في ليالي العواصف وأيام الزوابع.
لم يتمسكوا بالحياة ولم ينخرطوا في الكفاح الدائم
ضد الفقر والجهل وخبايا المستقبل، ولم يبتسموا لها فقلبت الدنيا لهم ظهر المجن ولم
تمنحهم سوى دهشة ممزوجة بالضجر والخمول، وحواجب أعقدتها الحيرة والنزق والجنون،
فأصبحت حياتهم بلا معني وإبتسامتهم خالية من طعم المرح والحبور وبات وجودهم عبأ
علي الأسر والأقارب وحتي الأصدقاء.
رسبو في الإمتحانات المتتالية للحياة وخاصة مادتي
الجد والكفاح، وتاهوا في مطباتها وحواجزها الكثيرة، فلصقتهم مدرسة الحياة العظيمة
في سجلاتها الناصعة أحيانا والكالحة أحيانا أخرى أنهم عاطلون عن العمل إلا الأحلام
الأرجوانية والذكريات الأيقونية والأمنيات الساطعة والآمال الجريحة، يعيشون بضيق
وزهج واضح جعلتهم فقراء وكادحين ورجال الشوارع وتافهين لا وزن لهم بين المجتمع.
لايريدون الأوبة ولا يحبون العودة بل تتسع الهوة
ويكبر الشرخ بينهم وبين المحيطين علي مدارهم الفاتر في كل لحظة، ينظر ون الناس
بحزن صامت عميق وعيون حمراء غارقة في الحزن لدغها عقرب السهر والأرق، ويراقيون
الوضع بجسد نحيل يتلذذ علي قصص العابرين ويسامر أطياف السواد ويستأنس سكون الليل
وسكوت الحياة، ونفس لا تخلو في كنهها مسحة رجولية آسرة وبريق غمرته الهلوسات
وقيدها الإدمان علي هامش الحياة، وشخصية شوشتها المآسي وتقاسي الجوع والبرد والمرض
وتنفث مستقبلها الذي يجوب الشوارع والأزقات وعواصم الشذا والجمال ومدن الضباب
الحالمة علي ضفاف الشجن والمعاناة إلي سحيق القبور وهو يجلس علي سجادته المهترئة.
حياتهم روتينية وساعاتهم مقسمة بين النوم والسهر
ومصارعة الأشباح والكآبة، تجبرك الإنسانية علي إرخاء حبال الرحمة لهم لأن الشامتون
وحدهم هم من يستهزؤن لتلك الأرواح الضائعة علي هامش الحياة، والتي تخلفت عن ركب
الناس واستأنست حكايات الجدات الطاعنات والماضي الفخيم، ولذة الكلمات والآمال
المكتوبة علي الأوراق الكربونية والعواطف الخرساء والأجسام التي أضعفتها تكاليف
الحياة وأعباء المعيشة والبحث عن القات الذي يمضغه الأسير بشئ من الشوق والتذمر
وبصورة أكثر ضراوة وفتكا وهو يحتضن زاوية المفرش ويستمع الموسيقي الرنانة والأنغام
الشرقية والزفرات الشجية، ويتمايل يمنة ويسرة بسبب الأغنية العميقة التي تصله من
الراديو العتيق او الشريط المتليف هما أوالذاكرة الشقية فينتقله من منطقة البؤس والأحلام
الوردية وبين رائحة القات الكريهة ورائحة عرق رفقائه في المقهى ومن متاهات الحيرة
والضياع والسفر بلا طريق! إلي الخيال الفانتازى واندماج النفوس في المهرجانات التي
يصورها الخيال بلوحة سريالية بديعة، وموسيقي الجاز والأغاني الصاخبة ونشوة الجمال
الذي يفيض من بركان القات القاتل.