بعد انتهاء معرض مدينة "جالكعيو" للكتاب الذي كان
يهدف إلى نشر السلام والمصالحة الشاملة بين القبائل -قبل تعزيز الثقافة والمعرفة-
في مدينة اشتهرت بالنزاعات القبلية وخرائط الموت، لمعت في رأسي فكرة الذهاب إلى
ميناء "غَرَعَدْ" الذي كان بارقة أمل في وسط الهزائم. كنت متحمساً
للمشاريع الرامية إلى الاعتماد على الذات في مجتمع فقد الكثير من الإيمان بنفسه
واستسلم للإحباط والاتكالية، ولكن كيف أصل إلى منطقة صعبة الوصول، وتبعد عن
جالكعيو مئات الكيلومترات والطرق وعرة والمواصلات شحيحة جداً؟ لم أستسلم رغم
العوائق ولم تحبطني قلة الخيارات، بل ذهبت إلى مدينة "غَرُوي" عاصمة
ولاية بونتلاند الصومالية مرافقة أصدقاء يسافرون إلى غرعد عبر طرق موحشة، لمشاركة
افتتاح أول ميناء تجاري في الصومال يملكه القطاع الخاص.
ومما زاد حماسي للسفر إلى جانب اللغط الذي أثير حول مشروع قيل
إنه لا يمكن تحقيقه ولشدة غرابته وصف بأنه وهمي أو كذب مريح، أن الفترة التي عملت
فيها كمستشار للمبعوث الرئاسي للشؤون الإنسانية والجفاف، لمست الإهانة التي يتعرض
لها الصومالي في المحافل الدولية، وكيف سئم العالم من أخباره ومشاكله وانقساماته.
في قاعات المؤتمرات وردهات الفنادق واللقاءات الثنائية على هامش الاجتماعات، كانت
تعابير الوجوه وانفعالات العيون والنظرة التي تعبر عن الشفقة أو الاستصغار؛ ترهق
ضميري وتهزّ كل خلية من خلايا كرامتي.
على مشارف مدينة "غروي" وفي أعماق الطبيعة الحزينة
بدأ المطر ينهمر والسماء تبكي بغزارة. كنت سعيداً بانتهاء الجفاف والمياه المنسابة
في الجداول وبطون البوادي، في حين كان الرفاق يخافون من السيول التي تقطع الطرق
الترابية وتعيق السفر. كنت مقتنعاً وأنا في المكاتب العالمية ومقار الهيئات
الأممية -وبعد سنوات كنا نعتمد على المساعدات الإنسانية والإغاثة العاجلة، ولم
نستطع حتى في بناء مرحاض يسع لشخص واحد إلا بمساعدة خارجية- أن المساعدات
الانسانية لا تنهي الجفاف، وانتظار الأيدي الخارجية تعني الاستسلام للواقع الذي
نعيشه، وأن انتظام الأمطار، وتغيير العقلية الصومالية هما المخرجان الوحيدان من
أخطار الكوارث المتكررة.
كان الطريق وعراً والسيارة تسير ببطء شديد وهي تقطع الفلوات
والقمم ومنحدرات الوديان، وكان صديقي زكريا ربيعة الذي يتمتع بموهبة كتابية
اغتالتها مشاغل الحياة يغط في نوم عميق حتى في الطرق الوعرة التي تكاد فيها
السيارة أن تنقلب لفرط الأحجار، لتعوّده على الطبيعة ومعرفته الجيّدة للمنطقة،
فيما كان صديقي حوش عُردن الذي لا يفقد شيئاً مضحكا ليقوله حتى في أحلك الظروف
يلحن الحكايات، ويحدثنا بحماسة عن المشروع الذي استحوذ على اهتمامه في السنوات
الأخيرة؛ وهي مجلة (بِعِيد) المهتمة بالتعقب على خيوط التاريخ والاهتمام بالذاتية
الثقافية التي كانت سياجاً منيعاً وحصناً تحطمت على أسواره أطماع الشرق والغرب.
ورغم مشقّة الطريق إلا أن الوضع لم يكن قاتم برمته، بل كان مشبعاً بالفكاهة وعبقاً كنت مشدودا إليه، إضافة إلى المشاهد التي أعادتني إلى رحلاتي البريّة بين مدينة "كسمايو" و "حَمَرْ" في بداية هذا القرن. كنا نعيش في كسمايو الغارقة في بطش المليشيات وقهر القبائل، وكنا ننتهز الإجازات المدرسية للسفر إلى مقديشو بحثاً عن مزايا العيش في عاصمة أنهكها الحرب وشوهتها الصراعات. في ذاك الزمن وإن كان المجتمع الصومالي هشاً فقيراً وغامرا بالبؤس، إلا أنه لم يذق بعد عذاب الحركات المتطرفة والضياع في أضابير التطرف، والشعور بالحرمان الشديد في أحياء المدن المحاصرة.
مررنا بقرى وجبال ونجوع تأثرت بالجفاف، ومواشي هزيلة، وأطفال
حرموا من حق التعليم. وفي حلكة الليل وفي بادية نائية استضافتنا أسرة كانت كريمة
رغم معاناتها من شظف العيش، وصادفنا في الطريق جموع عائدة إلى مُراحها بعد هطول
الأمطار وإحياء الأرض بعد موتها، فبالأمس القريب كانت المنطقة قاحلة جرداء والآن
تنبض بالاخضرار والروائح الزكية. كان مشهدا تمنيت لو أني أعيش في وسط جماله وشذى
زهوره.
تناءت المدينة وما بدا في البداية قريباً (270كم) بات بعيداً لا
يمكن الوصول إليه. وبعد 10 ساعات من التعب وفي بزوغ الفجر ظهرت مدينة غرعد من
بعيد، فلاحَ برق الشوق في فؤادي. كان صباحاً ماطراً عندما ظهرت المدينة فوق رابية
مشرفة على المحيط الهندي وسالت حماستي لرؤية مشروع سيغير وجه المنطقة، وسيفتح
آفاقاً جديدة. نزلنا في فندق "ك " الذي يعتبر من أفضل فنادق المدينة رغم
أنه يفتقد إلى المعايير التي تحدد جودة الفنادق وخاصة المياه والنظافة، وبما أنني
قرأت ذات يوم أن الاستحمام بالمياه المالحة له فوائد صحية مثل تنظيف الجسم من
السموم وتقليل التوتر وتعزيز النوم لم أتذمر من ملوحة المياه، بل خرجت من الفندق
مسرعاً والتهمت المدينة بنظرة فاحصة فتعجبت من بؤسها وشحوبها، وانعدام الحياة فيها
رغم أنها كانت مركزا للقراصنة قبل عقد من الزمن، مما يعني أنها وجدت السيولة
المناسبة والمُكنة للتمدن وزيادة سكانها وحجمها. كانت ملامح الشعب تختلف عن
المدينة، ذلك أن الحبور كان طاغياً عليهم، واستقبلوا الوفود بلافتات السعادة
وعبارات الشكر والامتنان، وترحيب يعبر عن فرحتهم بتحقيق الأمل الذي داعب خاطرهم
منذ 1938.
في الصباح الباكر انطلقت مع الجموع نحو ميناء سيساهم في تعزيز
الاقتصاد الوطني، وخلق فرص العمل في وطن نصف سكانه يعانون من البطالة، ولن يأتي
بالخير للصومال فقط بل
لملايين من شعب أفريقيا. تجولنا في مرافق الميناء الذي يتمتع بأربعة أرصفة وغاطس
عميق (8.5 -13) وموقع حيوي ذلك أنها تقع على المحيط الهندي وتخوم بحر العرب وخليج
عدن، والبوابة الجنوبية لبحر الأحمر. حديث المارة والوفود المتدفقة على المدينة
كان يصب حول النهضة المرتقبة، وتجاوز الواقع المؤلم بعد تشغيل الميناء الذي يتمركز
في خط الملاحة البحرية، ويربط بين ميناء غوادر الباكستاني (جوهرة التاج) وبين
موانئ شرق أفريقيا.
عَلم الجمهورية إلى جانب علم الولاية كانا يرفرفان بشموخ في كل
مكان. الحضور كان مهيباً والوفود الصومالية تتوافد من جميع الأقطار، إلى جانب بعض
الجاليات الدبلوماسية، وبدأ الحاضرون ومسؤولو الشركتين (وداغسن و تي إن تي) وكأنهم
أبطال حقيقيون، ولا غرور، ففي ظل الفوضى والهوان يعتبر أصغر محاولة للجيل الحالي
إنجازا حقيقياً يستحق الاحتفاء، ناهيك عن إنجاز مشروع عملاق – سيساهم في تعزيز
الاستقرار والرفاهية – دون مساعدة أحد أو منّة آخر. لابد أن المدينة وسكانها -في
تلك اللحظة الاستثنائية- كانا يشعران بلذة الإنجاز والاحتفال وكأنهم في أزهى
عصورهما.
خطبة رئيس الجمهورية د. حسن شيخ محمود كانت مشجعة ومسؤولة،
وتضمنت بغمزات سياسية، وأن الشعب الصومالي -وبعيدا عن الانتماءات السياسية
والتبعثر الجغرافي- يتطلع إلى تطبيب جراحه وتوحيد جهوده، ويسعى للتكاتف والتعاضد
والتكامل الاقتصادي والتعاون التجاري، وحفظ موروثه الثقافي وهويته الدينية، ويستطيع
النهوض من تحت ركام الحرب وبراثن العوز.
وبعد تجربة أضافت في جعبتي الكثير عدت إلى مدينة غرووي وسيول
الخريف تذكرني ببيت لبيد بن ربيعة رضي الله عنه: وَجَلا السُيولُ عَنِ
الطُلولِ كَأَنَّها ** زُبُرٌ تُجِدُّ مُتونَها أَقلامُها
في البداية كانت رحلة العودة مليئة بأنس الطبيعة التي باحت كل ما لديها من ألق وتناغم، وقصائد ظلت مستودعاً لتاريخنا وقيمنا، إضافة إلى "الكتابة عن الصومال" وعن الجوانب التي لم يستهلكها الكتاب الأجانب في كتبهم ومجلاتهم أو بحوثهم العلمية، ولكن في وطني لا تكتمل السعادة غالباً، فحدث ما لم يكن في الحسبان. ففي الساعة العاشرة ليلاً وفي وسط سهول "نُغَال" كنا نتمايل مع ألحان السعادة وأحلام العودة إلى المسار الصحيح ولحاق ركب الأمم، عندما علقت سيارتنا في الوحل، ف "بِتْنا نُكابِدُ هَمَّ (السحب) لَيْلَتَنا". كانت ليلة صعبة وباردة، وما كان يبدو في الوهلة الأولى سهلا بات صعبا للغاية، ولم نستطع إخراج السيارة من الطين إلا بعد 8 ساعات متواصلة من الجهد، وبعد أن تركنا وراءنا كثيرا من الحفر والفوضى. لقد أصابنا التعب والإعياء في منطقة بعيدة عن المدن وحتى عن أبراج شركات الاتصالات، ولكن وبما أن " في كل محنة منحة" أعطاني المبيت في العراء وعلى جانب طريق ترابي جرفته السيول إحساسا بالانتماء وعمق الجذور التي تربطني بأهلي وأرضي.