كنت في مدينة صومالية تصافح المحيط عندما
انهالت عليّ الذكريات وأنا أتأمل حياة أفريقيا الملتهبة من أقصاها إلى
أقصاها، في أعماق الألم حلّقت بعيدًا فوق القارة الغنية بمواردها وبؤسها
أراقب أحلام شعوبها وتطلعاتهم في ظل القهر وتكميم الأفواه الذي جعل الشعب
كتماثيل حزينة لا إرادة لهم، إضافة إلى العبودية الجديدة المتسترة وراء
رداء الهيئات العالمية.
منذ ربع قرن
وشعبي الصومالي قابع في أوحال الحروب وفواجع التشريد، وصوَبوا بنادقهم صوب
صدورهم بعد أن كانت تدافع المقدسات والمعتقدات عبر سلسلة من النضال الطويل
من أجل المبادئ والمقدّرات، فقد حاربوا البرتغال في عمق البحار، واستحوذوا
على أجزاء واسعة من أراضي شرق أفريقيا ينشرون الإسلام ويحاربون الجهل،
وتوغلوا جنوبًا نحو السافانا والتلال المغطاة بالثلوج والسمرة الغامقة، وفي
بداية الحملات الأورروبية قسّم الاستعمار أراضي الصومال إلى خمس أجزاء
تجمعهم الأمنيات، وفي سبيل تحقيق مطالبهم سقط الملايين وجرح مثلهم، ولم يكن
الطريق مفروشًا غير الدماء ومقارعة نصارى أوروربا وأباطرة أباسينا
وسياستهم التوسعية عبر التاريخ.
من
مقديشو اتجهت غربًا نحو بلاد الشعر (أوغادين) وكأني ألاحق الشمس وهي تعزف
لحن الغروب خلف روابي إقليمٍ جرى فيه صراع عالمي مصغر منذ أن منحته
بريطانيا الإقليم الغني بالثروات لإثيوبيا نكاية على الشعب الصومالي الذي
أبى أن يعيش الإنجليزُ بسلام في أرضهم، كنت أحث الخطا نحو تاريخ أمتي
وأمجادها الضاربة في عمق التاريخ، الألحان الشجية، وأريج اللبان، ورائحة
الإبل الممزوجة بالأدب، وتكايا السلاطين والمدن التي تحاور الثروات تثير في
وجداني مشاعر عتيقة وتشكل «زوايا غير محكية» تنتظر حكّاء ماهرًا يقدمها
للعالم.
الصومال العريق بتاريخه منذ
مملكة بونت وما تلاها من الممالك والحضارات اشتهر في السنوات الأخيرة
بأزمته الإنسانية المتكررة! ولكن ما لا يعرفه العالم أن هذا البلد يعني
قرابة مليون كم مربع من الإبل والمحيط والملاحم. والجريمة
الوحيدة التي اقترفناها أننا أردنا أن نعيش أحرارًا يحملون لواء الإسلام
وأنفة ورثناها عن أسلافنا، وأرادت الكولونيالية أن نعيش بلا وطن ولا هوية
ولا انتماء، وأن نكون موزعين على البلدان المجاورة لكسر شوكتنا وتمزيق
وحدتنا!
توغلت في أفريقيا وتجاوزت الحدود
المصطنعة بعد نكسة برلين 1884-1885، وتعمقت الجرح الأفريقي النازف منذ
قرون، في صغري كنت أحمل همّ قارة المستقبل، أعجبني لحن المناطق المرتفعة،
وأبهرني قوة ساكني الأحراش، وسحر الحلم القابع وراء الحناجر التي تهتف
بالحرية ولو بصوت متهدج خلف ضجيج الجغرافيا ومونولوجيا الذات، كنت أكتب
قصصهم وأحكي عن أشواقهم عبر مداد قلمي الحامل بفيض من اللذة والألم ومحاربة
الركود الثقافي للمجتمعات.
في قلب حيّ
كابيرا الكارتوني في نيروبي وعلى جدار مقابل للبيوت المطلة على المزابل
التقيت شابًا في مقتبل العمر، كان يتحدث عن مأساتنا وهو ينفث دخان سيجارته:
«لقد حوّلت الأدمغة العفنة أفريقيا إلى أوكار للفاقة والجريمة، الاستعمار
لم يذهب بل بقي في بلادنا يجثم على صدرنا، ويقتل أبناءنا تارة عبر وكلائه
الذين أوصلهم إلى رأس الهرم، وتارة بالتدخلات، ومرات عبر السيطرة المطلقة
على الإنتاج وتحديد أسعار الخامات، ليأخذ الغرب الأموال ونحن لعنة الثروة.
في
المعابر والمطارات لا صوت يعلو فوق الترقب وهاجس الجنود والأسلاك والجدران
الفاصلة بين الأفريقيين. المؤسسات المدنية الفاعلة والتحول الديمقراطي
باتا ضربًا من الخيال في ظل جيوش ذابت في السياسة وتحمي عرش الطغاة، القوات
المسلحة في أقطارنا هي اليد الباطشة للأنظمة المستبدة، فبدلا من ابتعادها
عن السياسة وانغماسها في المهام الرسمية انخرطت فيما لا تتقنه فتاهت في
مسالك القمع والإرهاب، وبامتزاج رغبة العساكر مع أطماع المؤسسات المدنية
المأزومة تكونت دولة المافيا، وأجهزة بلا كفاءات تغرق في الشبر الأولى من
مشاكل الوطن بعد أن هربت الأدمغة المثقفة إلى الخارج خوفًا من السجن أو
القتل.
نلنا الاستقلال الصوري وغادر
المحتل، وترك لنا إرثًا من صراع الهويات والمصالح والأيديولوجيات، مما صعب
على مجتمعاتنا الخروج من شرنقة الالتباس، وبناء فكر مستقل يؤسس أفريقيا
جديدة تنفض الغبار وتحارب ضد عوامل التخلف والعوز».
كان
يحلل الأطماع الغربية بعبقرية، اعتراه حزن شفيف فتحول لونه الأسمر إلى
ملامح ملوّنة بالشجن والخوف من المستقبل الذي يطرق على الأبواب بطريقة غير
تقليدية،سألني ما مدى صلاحيات النظريات الاقتصادية المطبقة علينا منذ عقود؟
هل تقودنا نحو الازدهار أم ستكرس الفوارق الطبقية وستكون القارة «مكانًا
قذرًا لا تصلح للحياة» حسب وصف شارل الثاني ملك إنجلترا؟ أجبت لا أدري!
وأنا أعرف أن محاولة الإجابة سوف تقودني إلى متاهات وسيل من الاستفهامات!
ولكن ما أدهشني هو كيف كان يهتم بالمستقبل والعنف المسيطر على القارة التي
تقف اليوم في مفترق الطرق.
على طول الطرق
الرابط بين القرى والمدن والأحلام دروب وعرة يغطيها ضباب الإحباط وتحيطها
المعاناة. على مقربة الحدود الرواندية الأوغندية، وعلى مشارف الحدود
الإثيوبية السودانية، وسنوات الترحال في كينيا، وفي عمق المراعي الشاسعة
للصوماليين في القرن الأفريقي كانت أسئلة بعينها تقض مضاجعي، لماذا غزت
أورروبا إلى أفريقيا إذا كانت تعاني من الأوبئة والتخلف؟ ولماذا إلى الآن
ما زال الاقتصاد الغربي يعتمد عليها؟ وما سرّ الحدود الوهمية التي قادتنا
إلى ظلم الجغرافيا والأزمات؟
في قرارة
نفسي كنت أعلم أننا ضحايا المصالح الإمبريالية ونحتاج إلى سنوات من الجهد
والمثابرة كي ننسى لدغاتهم، وسنوات أخرى كي نستطيع أن نقول لا للتدخلات
الخارجية لنحافظ على خصوصياتنا، يجب أن نستعيد إرادتنا واستقلالنا
الاقتصادي كي نستعيد استقلالنا السياسي إذ «لا استقلالًا سياسيًا دون
استقلال اقتصادي».
أستطيع أن أتخيل وأنا
في قرية أوغندية صغيرة لا تظهر أبدًا على الخرائط كيف كانت حياة قبيلة
لانغو (Lango) النيلية التي نزحت من الشمال واستوطنت في الأراضي المطلة على
السفوح الخضراء في شمال وسط أوغندا،كانوا رعاة ومزارعين يتنقلون بين
الشمال والجنوب بحرية، يهتمون بالرقصات والموسيقى والحروب وثروات نهرهم
موروتو، وبعد مجيء الغزاة أصبحت حياتهم فصولًا من العبودية وتغيير
المعتقدات مثل أشقائهم الأفريقيين على ربوع القارة التي ارتبطت في مخيلة
الغرب بأنها قارة المجهول والوباء والشعوذة! رغم أنها كانت قبل غزو
الإمبريالية قارة تتمتع بمقومات حضارية واقتصادية فاق إمكانيات المقاطعات
الأورروبية التي كانت راسخة في التناحر والأوهام في العصور المظلمة
أورروبيًا. لقد شيّد الأفريقيون حضارات وأسسوا أنظمة ناجحة للحكم والحياة
في حين كان الأروبيون يتسربلون رداء الرجعية ويغطون في نوم عميق، وبعد
النهضة الصناعة استخدم الأوروبيون التقنية الحديثة لإذلال الشعوب والقارات
ولم يستخدموا لإسعاد البشرية، فهجموا على أفريقيا الواعدة.
في
معظم رحلاتي كنت أحاول نسيان الوحشية التي مارسها المحتل ضد الأفريقيين،
وأستمتع بالنماذج المحلية الجميلة، والطبيعة العذراء، لذا كنت أبحث عبر
بطون الكتب واللقاءات ومضة عابرة، أو نهضة مرتقبة، أو نموذجًا ناجحًا في
مجالات الحياة، وكنت أتمنى أن أرى أفريقيا تستفيد من خبراتها وتبتعد عن
سطوة الجنرالات ولعنة السياسين، وصدارة الشاشات عندما يتعلق الخبر بالقتل
والدمار.
لذا اتجهت إلى رواندا التي تشكل
نموذجًا فريدًا في استحواذ العنف ونسيان المجازر من أجل مستقبل مشرق يسع
الجميع. في مطار كيجالي لمست جودة الخدمة وسلاسة التنظيم وحسن الضيافة
لأولئك الذين كانوا يشبهونني ملامح وأحلامًا، كانوا يحملون سحنتي وإيماني
بأفريقيا، في عيونهم بريق الثقة والعمل الجاد الذي استطاع أن يحوّل كيغالي
من عاصمة الإبادات والصراع القبلي إلى أنظف عاصمة أفريقيًا! كانت تدور في
ذهني لماذا َلانستطيع نحن الصوماليون ترك إرث الحروب الأهلية؟ ولماذا لا
نحتذي تلك الإرادة التي تستطيع تحويل الاحتقان والكراهية إلى طاقات إيجابية
عبر المصالحات الوطنية والعيش المشترك؟ السرّ هي القيادة الواعية والرغبة
الحقيقية، نحتاج إلى إيجاد قيادة رشيدة تحمل رأي الحكماء، وجاذبية العظماء،
وصدق البسطاء، وحزم الشجعان، ورقة الأمهات، وجمالية الوطن، ورؤية سياسية
شاملة من أجل انتهاء كابوس العنف.
ولكن
ما يؤسفني حقًا هو أن بعد سنوات من المساواة والعدالة الاجتماعية رواندا
تقترب تدريجيا نحو الشمولية وسلب الإرادة! من وراء السمرة الحالمة لفتيات
كيجالي كنت أرى جنين الاستبداد يتشكل في خيال رئيسهن الذي لجأ إلى تعديل
الدستور والتلاعب به من أجل تمديد فترته الرئاسية، وربما لاحقا سيمدد أكثر
ليصبح رئيسًا مدى الحياة بخطوة انتحارية قد تقود البلاد إلى الهاوية مرة
أخرى، فالرجل بعد أن أفرغ ما في جعبته من أفكار لم يعد بإمكانه مواصلة
المسيرة، وبدأ رصيده يتآكل خاصة وأنه في خريف عمره.
لقد
ظل النموذج الرواندي ملهمًا للأجيال الأفريقية الشابة، ولكن يبدو أن
كاغامي بدأ تشويه تجربته الناجحة كعادة الأفارقة وما خبر أحمد سيكو توري
عنّا ببعيد.