الصومال وطن
تلفه التاريخ وتحيطه المحيط والحروب، الأنهار تداعب جبينه، والمناطق الأثرية
تستقبل زواره مع لمسات إستوائية مميزة. روائح الثقافة عابقة في أزقات مساجده
الشاهدة على الحضارة الإسلامية العريقة، والمدن القديمة تشكل صندوقا مليئا
بالأسرار وماضي أمة كانت همزة وصل بين أفريقيا والبلاد العربية وما ورائها من
البلدان والشعوب.
وصل العرب إلى الصومال عبر موجات متتالية من البشر منذ انهيار سد
مأرب، وبعد بزوغ فجر الإسلام توثقت أواصر العرى بينهم وبين سكان ساحل الصومال
فأسسوا الممالك والمدن والمراكز التجارية، وبنو القلاع والموانئ وانسجموا مع
القبائل، وانتشرت ثقافتهم وحضارتهم وساد فنونهم، وبذلك أثّروا على اللغة والملامح
والتركيبة السكانية، وفي غضون سنوات قليلة ذابوا في المجتمعات المحلية وباتوا
عنصرا مكونا من اللوحة الصومالية.
على أطلال حيّ شنغاني في مقديشو تحيطني جروح لاتندمل، وانهزمت أمام
أطلال التراث الصامد، قصور السلاطين على كتف المساجد، ومتاحف تقبّل الرمال،
وذكريات الرحالة كريستوفر كولومبس، وكتابات ابن بطوطة، وآثار المؤرخين والكتاب
الذين مرّوا على بلاد بونت وهم يبحثون مجد الكلمة أو متعة السياحة في أجواء مقديشو
"ساحرة شرق أفريقيا" فهربت أداوي جروح الحروب بالكتابة رغم صعوبة نسيان
ذكرياته المترسخة في الذاكرة الجمعية للشعب.
كلما أتوغل أقترب إلى معالم قديمة، وشوارع اختفت، وتراث طمرها
النسيان، وملامح مآسي بامتداد مقديشو، وتبدوا المحيط الهندي على صفح الأفق وكأنها
تراقب مدينة تنام على وقع الإنفجارات وتصحو على دوامة سحب الثقة من أحدهم، وإذا
توغلت في الحس الشاعري والهوية الحضارية المميزة ل"حَمَرْ" سترى طلاً من
إبتسامة تبرز بعض مفاتنها وإن علاها غبار ثلاثون سنة كان خنجر الفرقاء مغروسا في
جسدها.
نحو العبور إلى تاريخ طمستها المعارك، وأمام مقر البرلمان
الصومالي الذي يعاني من تضاريس الأزمنة تعيدني مقديشو إلى بداية السبعينيات من
القرن المنصرم، المبنى الشامخ شهد مؤتمر القمة الإفريقية عام 1974م وضمّ في جدرانه
زعماء أفريقيا العظام قبل أن تنال يد الغدر وتحوله إلى أطلال باكية وثكنات للجيوش
المتصارعة على المدينة.
في تلك الحقبة كان الصومال مزدهراً ويشهد جهوداً حثيثة من أجل لحاق
قطار التقدم والاكتفاء الذاتي، تصدّر العساكر في الجمهورية الثانية وانغمسوا في
السياسية بعد دولة مدنية تنخرها الفساد وتقودها الدستور، في الوهلة الأولى بدا
الجيش وكأنه يلبي مطالب الكادحين، تضافرت الجهود وتكاتفت جميع فئات الشعب من أجل
صومال جديد، فبدأت موجات البناء وإنشاء التعاونيات والمشاريع الوطنية التي مازالت
ماثلة إلى يومنا هذا.
حكومة العساكر لمست الوتر الحساس للشعب عندما ركزت الجوانب الثقافية
والتوعوية والتاريخية، نفضوا الغبار عن تاريح الأبطال، وألفوا الأغاني، ونظموا
الأشعار لدغدغت المشاعر، وبعد قطع أشواط نحو التطور ودولة تواكب العصر وتستطيع
استعادة استقلال قرارها حدثت نكسة غيّرت البوصلة! العساكر اختاروا الأيديولوجية
الشيوعية ومحاربة الأصالة والهوية الدينية المترسخة في الوجدان، ومن أجل تعميق
الماركسية في أوساط الشعب أصدروا قوانين مجحفة بحق الدين فبدأ صراع العلماء
والسلطة، ودارت مساجلات فكرية وثقافية تطورت إلى إعدام العلماء وإراقة الدماء!
كانت خطوة جريئة نحو الإنهيار تَعَمّق بعدها الشرخ بين الشعب
والحكومة الصومالية الاشتراكية، وتوقفت عجلة الاقتصاد، وضاع الشعب وفقدت الدولة
هيبتها على القلوب وسيطرتها على الأرض، وبعد سنوات من إعدام العلماء والهزيمة
المؤلمة في جبهة أوغادين عام 1977م بدأت المعارضة المسلحة تشن حروبا على الدولة،
وبين انتهاكات الدولة البوليسية وعمالة الجبهات المتمردة ضاع الوطن، لقد دمره
الحروب وبقي تاريخه دفينا تحت عباءة القبلية و ركام المعالم وغباء المهووسين
بالحكم، وقصص شفهية لشعب تواق إلى السلام ونشر المحبة بعد عقود من الإرهاب
والكراهية.
على بعد أمتار قليلة من مجلس الشعب يطل تمثال ثائر الصومال السيد
محمد عبدالله حسن بهامته الممشوقة وتقاسيمه الدقيقة، السيد ورفاقه الأشاوس الذين
قادوا الجموع نحو الحرية والكفاح المسلح في زمن كان الوعي السياسي الصومالي في
أدنى مستوياته واجهتم مصاعب جمّة كتفكك الوطن، وتأليب رأي العام واغتيال المعنويات
عبر وكلاء الاحتلال، وعدم الحصول على الأسلحة والذخائر بسبب الحصار الأورروبي
المفروض على السواحل الصومالية، ورغم ذلك حاربوا الترويكا المحتلة ( بريطانيا،
إيطاليا، فرنسا) إضافة إلى الحبشة، وكابدوهم خسائر جسيمة طيلة عقدين كان نار
الجهاد يومض على ربوع القرن الأفريقي.