لم أنس أرضي حيث كنت في الإشراقات الدافئة أستمتع
شدو الطيور وزغاريدها في الغابات الحاضنة بالقرود والأفاعي والنمور الإستوائية،
وفي الصباح الباكر يتعالى صوت الأطفال وهم في حلقاتهم القرآنية يرددون بالأيات،
الأطفال في الريف الصومالي مقسمون بين الرعي والزراعة والتعليم، كنا نغدو بأجسامنا
ونظراتنا الطفولية إلى مزارعنا الملئية بالخضرة وألوان الحياة، في القسم الشرقي
التي لاتبعد كثيرا عن الساحل كنا نزرع الذرة والفاصوليا والسمسم، وكنا نزرع الموز
والمانجو والباباي في الجانب الجنوبي المطل على النهر.
الأراضي الساحلية بين قريتي والمدينة كانت مركزا
للجنود الإيطاليين منذ أن سنّ برلمانهم قانون الصومال الإيطالي
(Somalia Italiana) عام1908م،
وكانوا يستخدمون المنطقة كقاعدة عسكرية منذ أن اشتدت وطأة النضال الموجهة إليهم،
كانت المعارك كثيرة والتنكيل مستمرا والمقاومة تتجدد في كل جيل، وعلى بعد 12كم
شمالا وفي الجسر المرتبط بين المدن والسهوب الساحلية وقعت معارك عنيفة بين الثوار
وبين المحتل الإيطالي، كانت المعارك عنيفة تسطو عليها البنادق والسيوف والمدافع،
وبعد مرور أكثر من قرن مازالت الميادين تشهد بسالة النضال وعظمة المواقف.
غادر الأروبيون الأراضي الصومالية وانتهى غدرهم
ولم ينتهي الألم، بل امتد في رحاب الزمن وربوع الجغرافيا حتى سيطرت حركات السفه
السياسي على ربوع الوطن مما أجبر الكثيرين الفرار إلى المهجر بحثا عن الذات وقدسية
النفس التي حرم الله إلا بالحق، جئت أوروبا أحمل مزيدا من الطموح والشوق ولكن
إختلاف الأديان والثقافات تحول بيني وبين الأهداف المرسومة على دفتر الأماني وما
أكثرها في الغربة!.
على شاطيء الثلوج جلست أتأمل على قسوة الحياة
والتناقض المناخي بين هذه المنطقة وبين قريتي، هنا من الصعب أن يعيش الدّب فما
بالك بإنسان جاء من أقصى القرن الإفريقي حيث تتوهج الشمس طيلة أيام السنة، التكيف
في الحياة الباردة وكثير من الوجوه التعيسة والملامح التي غطتها البرودة الممزوجة
بالأنين كان تحديا ينسيني وخز الطبيعة ونوبات السعال المتصاعدة عن الخيمات.
الليل هنا متشابه مطلي بالظلمة والزمهرير ولا فرق
بين الليالي المقمرة أو تلك التي هيمنها الدجى. النجوم الإفريقية المسطحة على
هامات الدروب السماوية، وحميمية النسائم الإستوائية تغتال الأسى في رحم الغيب، أما
ليل المخيم فهو عبارة عن شبح يطاردنا ويبعدنا عن حيوية الحياة.
في العنابر الجنوبية حيث الجناح الأسيوي تزوجت
كامبودية سمينة من ميانماري أسمر، نشب خلاف حاد بين الجاليتين حيث كانت الفتاة من
أسرة بوذية متطرفة تأبى مخالطة الأديان الأخرى، بينما كان الولد مسلما هرب من
بورما بسبب الإبادة الجماعية ضد الأقلية الروهينغية، التطهير العرقي التي تقوده
إمرأة حائزة على جائزة نوبل للسلام،! ويا لعار الجوائز المسيّسة والتكريم المبني
على المحاباة، ويا لعار العالم والسقوط المدوي للأخلاق، المسألة الروهينغية عرّت
الأخلاق الفاسدة للطغمة الحاكمة في ميانمار والعالم بكل أصنافه ودوله ومعتقداته،
حيث يمارس ضد هذا الشعب الأعزل أسوأ انواع الظلم والتهجير القسري والإبادة على
مسمع العالم بل وبمباركة دولية أحيانا.
الحب لغة عالمية وإرث إنساني، ومن المفارقات أن
الحب لايعترف الحدود ولا القيود وإلا فكيف يحب الضحية الجلّاد؟ وكيف تنشأ الأحاسيس
بين قلب ملأته الأسى وانهكه التعب والبحث الدوؤب للأمن والإنسانية ولقمة العيش في
القرن 21م؟، هرب من أجل أغلبية بوذية متسلطة تلغي التعددية والمواطنة وتربط الدين
بالإنتماء وتحارب التنوع الثقافي والعرقي، كان قبل إسبوع يحدثنا بلغته المحلية
ويترجمها أراكاني آخر بسويدية ركيكة، حدثنا عن المحرقة والإبادة الجماعية وموجات
البطش الموجهة لتلك القومية التي ذنبها الوحيد أنها مسلمة!.
أتعبني التفكير فاستسلمت لكرى أرسلتني إلى النهر
والأزقات الضيقة بين الغابات قبل أن أصحوا بضجة رهيبة تتصاعد من الخيمة المجاورة
التي يسكنها إرتري باذخ الطول كث الشعر هاديء الملامح، جاء قبل شهرين يحمل أمنية
تتمدد في قلبه بمرور الزمن ومرارة تركت على نفسه رسوبات من القلق والتشاؤم، صفعة
مؤلمة تلك التي تحدث للأجيال المناضلة بعد إنتظار طويل، الجموع الإرترية التي ضحت
المهج والأرواح من أجل الاستقلال كانت تمني النفس إنتهاء الإستعمار الأسود وكابوس
اللجوء وليالي التشريد في دول الجوار وكل أصقاع العالم، ولكن بعدما ذهب الإستعمار
وجاء الاستبداد تحولت الحياة إلى جحيم لايطاق واختفت الأماني وراء سراب الدولة
الشمولية التي مارست العنف وكل ما يعف عنه الوحوش، وظلم ذوي القربى أشد مضاضة من
وقع الحسام المهند.