في
وسط شهوة التسلط ونشوة الدمار بدت الحقيقة كالسراب في وسط المراتع الظامئة،
الجموع الصومالية تآئهة ولا تدري ماذا يجري وأين المخرج!، وبلهاء السياسة تحرق
البلد من أقصاه إلى أقصاه، والمليشيات المسلحة تنشر الرعب والخوف وتنهب الممتلكات
وتسرق الغالي والثمين وتزهق الأرواح بدم بارد، والملامح البرئية للوجوه التي تشبه
القصائد تحولت إلى سمرة شاحبة، وأهازيج القرى الصومالية وألحانها الخالدة تغيرت
إلى هدير للرصاص وزخات للمدافع وصراخ لبكاء الثكالي، وأنين للجرحى ودموع تقطر من
عيني حزين، و أشلاء متناثرة للأجساد التي إلتهمتها القنابل ومزقتها الراجمات.
بدأت
موجات النزوح وبشكل علني وواضح،! شاحنات مكتظة بالنساء والأطفال والشيوخ تخرج إلى
جميع الجهات والأصقاع تنشدن الأمن وتبحثن السلامة، وتحولت الأحياء والمدن
الصومالية إلى مغارات للصوص القبلية وقلاع لمصاصي الدماء وباحثي ضحايا الحروب
الأهلية والصراعات العبثية للشعب الصومالي الذي يتقاسم أفراده البسمة قبل اللقمة،
والنسب والدم قبل الإنتماء والدولة والقطر الجغرافي.
الحزب
الحاكم والقادة العليا للدولة العسكرية تحاول الصمود ضد ضربات القوات المتحالفة
والمعارضة المسلحة التي تبتلع الأراضي والأقاليم بسرعة جنونية لم يكن أحد يتوقعها،
وسخرت الحكومة العسكرية أموال الدولة ومقدرات الشعب لدفاع هيكله وتأمين كيانه
المتهلهل والمترنح بسبب العواصف السياسية والتجوية القبيلة وضربات المتمردين.
في الليل
وحين يعود الوالد إلى المنزل كانت المكالمات الهاتفية تأتي من كل حدب وصوب كالرياح في أيام العواصف، ، وكان يتكلم بتشنج وحدّة، يضحك
بهستيريا ويمازج بين الفكرة الجميلة، والرأي السديد، والحس الإنساني، وصخب الجمل
والتعابير، ولكمات موجه للطاولة وربما للجدران المواجهة، ومرات كان يتكلم بصوت
هادئ يحلل الوقائع، ويقدم الإقتراحات، ويعرض الحلول الممكنة للطرف الثاني للمكالمة
الذي كان مجهولا بالنسبة لعنب .
كانت
طيلةساعات اليوم بالنسبة لإبراهيم
ساعات دوام ولحظات متتالية لهدير العمل، سواء كان في بيته وبين عياله وأسرته، أو
بين الدوائر الحكومية ومقرات العليا للقيادة العسكرية أو السياسية، أو أجهزة أمن
الدولة التي كان تباشر أعمال القمع والتصفيات الجسدية والنفسية
للمعارضة المسلحة أو الأبرياء العزل على السواء، لأنه عندما تفقد الحكومة أعصابها
الباردة وضاعت بوصلتها وفُقد الأمن والأخلاق يستوى الجلاد والضحية،! ولا يفرق بين
برئ ومجرم، ولا بين مذنب ومواطن صالح لا يتعدى همه قوت عياله والمصارعة مع أعباء
الحياة وصعوبة إيجاد لقمة عيش كريمة.
كان
إبراهيم كادرا من كوادر الدولة وضابطا
رفيع المستوى من الحزب الحاكم أو قادة ثورة أكتوبر رغم أنه كان في الصف الثالث، إي
من أصغر الضباط الذين إستولو على الحكم وقادو الإنقلاب العسكري صبيحة يوم 21
أكتوبر عام 1960م، في تلك الفترة كان ضابطا صغيرا وهامشيا جاء من الشرطة وخاصة من
إقليم جوبا العليا الذي أحيل إليه بعدما رجع من العراق الذي أمضى فيه سنتين ونصف
من التدريبات الشاقة ومثلها قضى في الإتحاد السوفيتي يتدرب على القيادة وتنمية
مهاراته التنظيمية.
في وسط
مروج الليل كان إبراهيم يتحدث بنبرة مرتفعة: (الحرب قد اقترب وبات يهدد على مشارف
مقديشو، والأراضي التي تخضع تحت سيطرة الحركات المعارضة المسلحة التي تجد يد العون
والمساعدة من المعسكر الغربي بقيادة حلف الشمال الأطلسي (ناتو)، وبعض الدول
المجاورة التي بينهم وبين الصومال حالة عداء تأريخي ترسبت في الوجدان ويخرجها
الإنسان من جوف الأم ومن رحمها ويؤمن بها إلى أن يتوسد التراب دفينا في جوف الأرض
وفي لحد القبر، يتوسع كل يوم ويبتلع مدنا وقرى جديدة.
ومن
الغريب أن بعض الدول العربية التي لانعرف هدفها من مساعداتها السخية للمتمردين
باتت تضاعف أنشطتها العدآئية أخيرا ومنحت أموالا طائلة وذخائر ومعدات عسكرية للجبهات المسلحة، ولا نعرف متي ينتهي هذا
المسلسل المرعب والشبح المخيف؟!، في هذه اللحظة يتدخل حسن وهو الأخ الأكبر
لإبراهيم وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة ويصيح ولكن ما أعرفه ــ يأخذ نفسا عميقا ويقول
بنبرة صوتيه لا تخلو من الإحباط ــ الجبهات المتمردة قويت شوكتها وسيطرت معظم
الأقاليم والبلدان الواقعة شمال مقديشو).