في الماضي كان الحنين الدآئم
إلى الأوطان والتغني بأمجاده ومآثره من سمات المغتربين الذين طوحهم الزمن إلى بلاد
بعيدة يتكاثر فيها أوجاع الغربة، وألم المهجر، وزرآئب الذكريات الصاعدة في الأمسيات المبللة بالشوق والحنين، والسعادة
الكامنة في الخيال المجسد في صورة وطن أحببناه رغم صعوبة الحياة وشظفها، أما اليوم
فنحن نمارس الحنين ونتجرع كوؤس الشجن ونحن في عقر دارنا ومرابع أهلنا، ويذيبنا الشوق ويقطع التحسر أكبادنا وتدب
المعاناة في أجساد أحلامنا ونحن في عقر أوطان كانت بالأمس القريب ملكا لنا نترنم
بحبها، وننظم القصائد لجمالها، ونضحي من أجلها المهج والأرواح، وقد آلت اليوم سياسيا
إلى غير سكانها الأصليين، وأصبحتْ في أيدي الغريب رغم أننا مازلنا نعيش فوق تربتها
نرعي الإبل، ونسرح الأبقار، وننظم الأشعار، ونمارس الحياة، ونطلق قهقهات مسائية
موغلة في وجنات الصومالي الأصيل رغم القهر والمحن التي تثير في النفس كوامن التأوّه
والحسرة الأبدية.
كنت أعتقد في صغري وأنا أختلس
السمع وأصغى مساء إلى أحاديث الجدّات الطاعنات، وهمسات الشيوخ، وثرثرة النسوان، وسرديات
الخالات في فناء بيتنا المتكيء على أهداب نهر شبيللي الخالد أن بلدي يمتد من تخوم
مدينة مِينْجي في بلاد مُكامبا (Mukamba)وتحديدا يبدأ جنوبا من مدينة أُوكَاسِي الواقعة
بين الجبال الإلتوايئة والغابات الشبه الصحرواية والمستنقعات المجاورة لنهر تانا،
ليمتد شمالا حتي يصل إلى صحراء أبُخ، ومن رمال المحيط شرقا إلى هضاب الحبشة غربا
مرورا بالمدن التأريخية التي سجلنا على جدرانها وأزقاتها وشوارعها أجمل القصص
وأروع البطولات وأعذب الألحان.
وعندما كبرت وواجهت الحقيقة
وأنتهت البرآءة والبهجة الطفولية على أعتاب الأحلام الأرجوانية، والتنقل هربا من
لدغات الموت في مدن الحروب والأطلال والدمار، وأصوات الرصاص، وزخات المدافع، والهجرات
الداخلية التي لا تنتهي، كانت الصدمة أن بلادي لا تتجاوز ثلث ما كنت أحلم به، وأن
الثلث نفسه في طريقه إلى التلاشي والإبتعاد والإنفصال!، أحلامي تلاشت على وقع
العنف والكيد السياسي والنفاق الإداري والتحلل الأخلاقي، وأصبح وطني الكبير ما بين
أقاليم ترزح تحت الإحتلال الأسود ومنحها الإستعمار إلى دول لا تستحق، وأقاليم
مستقلة شكلا ومستعمرة مضمونا، وتحولت بفعل الساسية الهمجية للأشقاء المتناحرين على
جثة وطن حلبة صراع مكشوفة تتصارع فيها جميع القوى المحلية والخارجية.
تكثر الجروح المعنوية في جسدي
الذي أنهكه إجهاض الأحلام قبل أن ترى النور، والغباء المختفي خلف أسوار البلاهة
والممرات العابرة بين تحقيق الأماني وتبديد المطالب، والحقد الدفين في قلوب تجار
الكوارث، وضمير أثرياء الحروب، ورغبات المهوسين بإراقة الدماء وإزهاق الأرواح
وتمزيق الأجسام، وأتعبتني أغتيال الأمل في رحم الغيب، ورسَمتْ الليالي الطويلة
التي مكثنا في أحضان المرارة والدمار كآبة موحشة على ملامح الجميع، وجعلت الوضع مؤسفا
ومأساويا، أجيال مفصولة عن ماضيها ولا تعرف فصول تأريخها،أمة تهدم كيانها بعنجهيتها
المقصودة، وتشوه تراثها بصراعاتها العبثية، وتساهم في تجزأة وطنها وتتباهي بطرب
وخيلاء سذاجتها وجهلها.
وفي وسط أحلام معلقة بحبال
الهواء تتحول همسات الخيال إلى صوت مسوع، فأتجاوز على غير المعهود حدود الواقع إلى سحيق
الزمن عبر آلة الزمن السريعة، ويجلدني الضمير، وتعذبني صفحات التأريخ الضائعة
والتعبثر الجغرافي لأمة كانت تصول على ذرى التلال الخضراء وهامات الهضاب المترامية،
وتتنسم بعظمة وإباء شذا الهواء الممزوج بأريج الكرامة وعبير الزهور التي تهب عن
الحقول والغابات المتكاتفة، والفرق الكبير بين الماضي والحاضر يسبب لي
وخزا في الضمير وحرقة في المشاعر، أمة كانت تجول وتسيطر على الشواطئ الخلابة لشرق
إفريقيا تمرح إبلها وعصب حياتها في الفضاء الرحب دون خوف أو رهبة، وكانت تحمل لواء
الفكر والأدب والحضارة ، وتملك تأريخا مرصعا بالملاحم والبطولات جعلت نفسها أضحوكة
العالم وكتبت إسمها في أحلك صفحات التأريخ!.
ألم الذكريات شكّل صدى يتموج في
خاطري، فبدأت أردد وأنا أجمع حروفي لأكتب كلماتي التي لا تليق بحزني شعر نزار قباني
العظيم "هوامش على دفتر النكسة" لقد تبحّر الشاعر أمواجا لا ضفاف لها من
الحزن وتأنيب الضمير وجلد الذات، وتعذّب وهو يرى كيف سقطت العزة العربية والكرامة
الإنسانية، وكيف إنهارت المروؤة والشهامة، وكيف إختفت النشوة والوطنية في الملفات
العربية المنسية في الرفوف البالية.
أما أنا أتألم وأتقلب أحيانا على
فراشي، وأحيانا على صفحة وطن مزقته الحروب، وأنهكته الصراعات، وقسمته الدول الإستعمارية
إلى كيانات وأقاليم تابعة إلى دول لا تجمعه روابط الدم، ولا علاقة النسب، ولا أفق
التأريخ والوجدان المشترك، أقف ناصية الليل الحالك وعبثا أحاول التعايش مع ألوان
النكسة وأنواع النكبة دون أن أنظم القصائد، ولا أطلق عنان التفكير، أو أبوح ما يجول
في خاطري لأحد، سواء عاش في ذهني أو عاش معي في تلك البقعة السابحة في داخل الظلام وسيول
الذكريات الجارف.
كيف أستطيع أن أعيش هانئا وأنا طريد
تحطمت أحلام عمره بين الخوف من المجهول
والترقب لمآلات وطن عاش حبه في دمي ولحمي وحروف لغتي وتعابير وجهي وسمرة
ملامحي، لا أملك حق الدخول إلى وطني والعودة إلى مسقط رأسي دون تأشيرة العبور أو
التسلل إلى المدن المعتمة، والقرى الصحراوية، والمستنقعات المتناثرة على ضفاف
الأنهار وشواطئ المحيطات، وإن أردت ان أدخل بسلام إلى داخل مدن أجدادي ومرابع أهلي
ومسارح آبايئ دون المرور إلى السلطات الحاكمة أو المحتلة عليّ أن أتحاشى عيون الشرطة،
وأتهرب من الإعتقالات أو الإغتيالات، وسطوة حماة الحدود، أوأن أقفز فوق الأسلاك
الشائكة والسياج المكهرب، إنها ماساة بكل المقاييس أن أكابد المشقة والخطر لأدخل
إلى وطني التأريخي .
في ظلمة الفجر وفي خبايا الأمنيات
القديمة يذكرني التمزق الجغرافي الذي أصاب وطني "الصومال الكبير"
المقولة الشهيرة "التاريخ جغرافية متحركة". الأحداث التاريخية تتحرك في
داخل أحاسيسي، والأطلال الساكنة في الذاكرة والأمجاد الغابرة تسبب غصة وحرقة لشخصيتي
النضالية التي تحمل في جيناتها عظمة الآباء، وأنفة الأجداد، والإنتماء لخريطة تشمل
جل المدن العامرة والقرى الوادعة في القرن الإفريقي.
الأجداد والأجيال السابقة الذين غيبهم
الموت قبل المأساة التي حلت بالصوماليين بعد الحرب العالمية الثانية نائمون تحت الأرض بهناء ويتوسدون ترابها وقد
تكون في مخيلتهم البرزخية أن بلاد الصومال تعني القرن الإفريقي كله!، وبإستطاعة
راعي الإبل أن يبيت في جَوهرْ صافي المزاج يتمايل على وقع أغاني الرعاة وأناشيد
الحرية وشذرات المحبة، وفي باله قطيع من الإبل تركها عند خاله في مدينة وَجِيرْ
قبل شهرين، وأن يطالع الأفق المدهش على مشارف جالكعيو في نهاية الإسبوع، ليشرب شاي
العتمة في نهاية الشهر عند بئر دُولّو
التاريخي، ولا يستطيع من تجمد في المراقد قبل عدة قرون أن يدرك أن السهول التي
كانت مسرحا للألعابهم الفلكورية، ورقصاتهم التقليدية، والأفنية الدافئة لأمسيات
السمر والأدب لم تعد تنتمي إلى أحفادهم،
وأن الجبال والروابي الذين كانو يقفون على هاماتها في الأصيل تغيرت ملامحها
وأسماؤها وتبدلت أوضاعها، وأن الأحفاد لم يستطيعوا أن يكونو من طينة الأباء العظام
الذين صنعوا مجد الصومال بسنان رماحهم ،وصليل سيوفهم، وصهيل فرسانهم تارة، وتعاملهم
الكريم وأخلاقهم الحسنة تارة أخرى.
كانت النجوم سقفهم والتربة
الغبراء فراشهم عندما سكن الأجداد قبل آلاف السنين ما بين السهوب المحاذية للهضاب
العالية والروابي المطلة على المحيط الهندي، وقد ملأت الألبان المحالب، والألحان
على طبلة أذنهم بعد أن ترسب حب الجمال والطبيعة الرعوية على وجدانهم، وشكلت عدة مِهن
عصب حياتهم كتربية المواشئ، والزراعة، والفروسية، والصيد، وركوب القوارب الراقصة
على المياه، إنها شعار وطن إمتزجت فيه الأعراق وتلاقحت الحضارات على كهوفه الخازنة
أخبار الماضي وأحداث التاريخ، واتحد الجمال مع الطبيعة العذراء فرسم لوحة فنية
باذخة المعالم.
ذهب
الماضي بلا رجعة وأصبح الحاضر ذابلا داهمه الهوان والأطلال الساكنة في الذاكرة، وتتحدث
التاريخ العصري لأمتي إنكماشا رهيبا حدث على رقعتهم الجغرافية، وإنشطار أرضهم،
وتفرق شملهم، وتمزق وحدتهم، وتجزأة مصيرهم، ومصادرة حرياتهم، وإنتهاك حقوقهم
الإنسانية بإنتهاك مقدراتهم ونهب خيراتهم، وقتل أولادهم، و وأد أحلامهم، وتكريس
التضعيف وزرع الهوان في نفوسهم مقابل مساعدات جبارة وبناء القدرات الدفاعية
والتفوق العسكري والمالي لخصومهم.
في قبضة كل منا خلايا دافقة الحنين إلى
المدن الوادعة بين أحزان السنين والحدود الرسمية عند المحتل والوهمية عند السكان
الأصليين. كم باعدت هذه الحدود مُسنّة كبيرة ومراتع أهلها ومسارح حبها الأول، وبين
كهل وذكرياته الصبيانة ونزواته الشبابية، وبين شيخ وماضيه المفعم بالذكريات
الجميلة والأحداث المؤسفة والأيام التي عاشها في كنف أمة صومالية تتحدث عن الملاحم
والبطولات والغارات التي تتجه نحو القبائل، وأخبار السيول والجفاف، وطبول النصر، وأنغام الحرية، وزغاريد العرآئس، ومجالس
الشعر، وتكايا الأدب، والعتمة قبل العشاء، وقرمزية الأصيل، وسحر الشروق.
الحدود التي تفصل بين الدول الأربعة
الواقعة في القرن الإفريقي (كينيا، إثيوبيا، جييوتي، والصومال) تفصل أحلام أجيال
وتأريخ أمة، وتعني تزييفا للحقائق، وإنفصالا تأريخيا، وتبشعا حدوديا، وتباينا
ديمغرافيا بين الماضي والحاضر، لأنها باعدت بين أمة وأمنياتها المشروعة، وطمست
هويتها، وقطعت آمالها، وزوّرت تأريخها، وقامت الحدود المصطنعة بليّ عنق الحقائق، وتجاهل
تام للإرادة الصومالية، وتفريط في الحقوق، وتنازل عن ميادين الأحداث، وساحات
التأريخ، وإهدائها إلى أمم وشعوب لم تحلم يوما أن تستطيع مصارعة الصوماليين
ومقاومتهم ناهيك عن إحتلال أوطانهم وهيمنة مقدراتهم.