الحوار البنّاء
والنقاش الجاد والمثمر يقرب الوجهات ويصحح الأخطاء ويبعد الضغينة والعداوة عن قلوب
البشر، ويخلق جوا من التسامح والإيمان بالقيم الإنسانية واحترام الآخرين، وهو
الدفعة المعنوية التي تحث الناس على الجلوس إلى الطاولة المستديرة لطرح الأفكار
ودراسة الإشكاليات حول القضايا المهمة والمصيرية. فالحوار يجعل المرء قابلاً لسماع
آراء مغايرة، والأفكار المختلفة، والنقد البناء والنقض الإيجابي، ويعزّز فرص قبول المرء
تام برأي الآخر، واحترام وجهة النظر المخالفة، والانشغال بتحليل أفكاره لا شخصيته
وتفنيدها حسب مايراه مناسبا.
وعند أمة منكوبة
ومأزومة مثل أمتنا، تواجه قضايا تشعبت وتعقدت وتحجرت بمرور السنين كقضية الصومال،
يكون الحوار والتعقل والهدؤ والتأني مطلبا أساسيا للتغلب علي المشاكل والعقبات،
سبيلاً لحل الأزمة. ذلك الحلّ الذي قد يكون العناد والتشبث بالرأي ورفض
الرأي الآخر حجر عثرة أمام المصالحة والحوار، وعقبة كأداء في وجه مشاريعنا
وأجنداتنا الوطنية.
ولإنجاح أي حوار
يفترض بالمتحاورين الابتعاد عن إغتيال الذات، وافتعال الأزمات، وتجريح الأشخاص،
وإدارة النقاش بهدوء وعقلانية، والحرص على جعله هادفاً وذا أجندة واضحة، يسوده طرح
موضوعي للحقائق كما هي دون مزايداة أو تعتيم أو دوران في الحلقات المفرغة، ويكون
الحوار أعمّ فائدة إذا كان مع أكاديميين هدفهم طرح الحقائق وتقديم وجهات نظر علمية
من شأنها حلحلة الأمر وتقديم الحلول، وتكون الأطراف المتحاورة جادة في دارسة
أفكار لإنقاذ شعبهم وانتشال أمتهم التي أحاطتها المخاطر، وتسير إلى الطريق
المسدود، ويتخلصّوا من الذّاتية والميل لمحاكمة الطرف الآخر وإدانة نواياه.
يتجلى الفرق بين
الجدل العبثي أو ما نصطلح عليه بـ(fadhi ku dirir)،
وبين الحوار البنّاء، في هذا الشاهد، فقد وجدتني أمس في جلسة نقاش جرئية استمرت
لأكثر من ثلاث ساعات بين مثقفين وأكاديميين معارضين للفيدرالية ولمشروع جوبالاند،
وآخرين مؤيدين لها، واستطاع الجميع التّوصل للتفاهم في نهايته، لأسباب منها
سرد الحقائق التاريخية، والمصداقية، ومراعاة الجميع لخطوط الاحترام والبعد عن
تجريح الذات.كما أنّ التساؤلات المطروحة حول دور الحكومة في إثارة البلابل في
كسمايو وإدارة جوبا لاند، وبثّ الدّعاية التي تضب الزيت في النّار، واقتراح
البدائل والتّصورات في المرحلة الحالية. استطاع المعارضون للفيدرالية وإدارة
جوبا توضيح ما وراء هواجسهم وتتلخص فيما يلي:
·
مصير القبائل القاطنة في المحافظات الصومالية
التي تحكمها جوبالاند في ظل وجود كيني غير بريئ.
·
كيفية تطبيق الفيدرالية في هذه المحافظات التي
تتميز بالتّنوع القبائلي
وكان ردّ
المؤيدين على النّحو الآتي:
·
إن كان المقصود أن بعض القبائل ستكون هدفاً
للقوات الكينية، أو أنّ الإدارة ستضطهدها بدعم من القوات الكينية، فهذا طرح يعكس
مخاوف مبالغ فيها، ولا سبيل لدحضه سوى بانتظار ما سيحصل خلال العامين القادمين،
إضافة لذلك فإن هذه الفكرة ستضعنا أمام سؤال سيثير الدّهشة وهو: هل القوات
الإفريقية الأخرى آلية دعم لقبائل ضد قبائل أخرى؟ أما تواجد تلك القوات، فهو مرتبط
بوجود القوات الإفريقية من يوغندا وبوروندي وإثيوبيا، وإذا انسحبت هذه القوات من
الصومال، فإن وجود الكيني يكون غير شرعي وغير مبرر والكل سيحمل السلاح لمقاومته
ومجابهته، أما أن نقول ان وجود يوغندا وبوروندي شرعي ومطلب شعبي وهم إخوة لنا
ولايطمعون ثروتنا على عكس كينيا، فهذا مسوغ غير ناضج سياسياً، ويحمل رؤية غير
معلنة للمعارضين لسنا متأكدين منها.
·
أما تطبيق الفيدرالية في هذه المحافظات ذات
التّعددية القبلية، فإنّ الاتفاق على أنّ النظام الفيدرالي في الصومال حلّ لا بد
منه بعد حروب كثيرة فقد الجميع خلالها الثقة، وانخفض منسوب الوطنية، سيجعل من هذه
المحافظات خير دليل على إمكانية تأسيس بقعة جغرافية لا يكون لها وجه قبلي واحد، بل
تجمع أطيافاً كثيرة ومتعددةً، وتقضي على مخاوف الفدرلة على أساس قبلي.
لم تخلُ الجلسة
من الاحتداد، لكن الاحترام كان ضابطاً لمجرياتها، والبعد عن الخوض في مواضيع أخرى
بعيدة عن محور النقاش، كمشكلة الفيدرالية ومساوئها، والضبابية المرافقة
لبنود الدستور المؤقت، وما هي الجهات المستفيدة من فرض الفيدرالية، وغيرها
من االتساؤلات القلقة من قبيل: هل الفيدرالية مرشحة أن تنقذ الأمة من الوضع
المزري التي تعيش فيه أم لا؟
وبهذا الضبط
للحوار، لم يحد بعض لإخوة بداً من تأجيل هذه المناقشات، وخصوصاً أؤلئك الذين ذهبوا
بعيداً وطرحوا مغالاطات مفاهمية. ولم تؤدّ تلك التشنجات لزعزعة العلاقات الإنسانية
والصداقة التي تربطنا ببعضنا.
وختاماً، إن
التباين الفكري بين المتحاورين ينبغي أن يقتصر على عالم الأفكار، وأواصر المودة
أبقى وأعلى من كل الاعتبارات والشعارات التي يروّجها أعداء أمتنا ودعاة الحروب
والعاملين على تقطيع أجزاء الوطن، واستنزاف طاقة البشر، وإنهاك قوة الشعب وإيقاع
العداوة بين أبناء الصومال، وتمجيد الذات والقبلية.