ولد الأديب المخضرم والشاعر الفذ عبدالله معلم
أحمد أومعلم طودان كما اشتهر به ويحلو لمحبيه في
نهاية الثلاثينيات من القرن المنصرم بمحافظة دوللو
DOLLOالواقعة علي شرق
الإقليم الصومالي في إثيوبيا،وهي منطقة كانت ولا زالت تشكل أكثر المناطق الصومالية
التي ينتسب إليها أعلام اللغة والشعر والأدب الصومالي.
تاريخيا ينتمي الشاعر إلي أسرة لم تكن مرموقة في الشعر والأدب، بل
كانت أسرته متواضعة أدبيا وحياتيا تعيش في البادية كغيرها من الأسر الصومالية التي
كانت تكدح وتصارع مع أعباء الحياة في تلك الفترة الملئية بالتحديات السياسية
والفكرية والمعيشية. في صغره كان أبكما منزويا قليل الإختلاط بالأطفال، ولم ينطق بكلمة
إلا عندما وصل إلي أعتاب المراهقة وطرق أبوابها، ولم يكن سكوته عارضا طرأ في حياته
بعد الولادة بل عاش البكم منذ ولادته.
حيّرت حالته الغريبة أفراد أسرته الساكنة علي معاقلها البعيدة عن التمدن
والقرى، والتي لا تعرف الأطباء المختصين لحل هذا المشكلة العويصة التي حيرت الأسرة،
والبُكم الذي سبب للصغير أمراضا نفسية وجسدية، ولأنهم بعيدون عن المشافي والمراكز
الصحية ويعجزون توفير الدواء والعلاج لولدهم الصغير، ولأنهم يسكنون في سحيق البادية
ويضربون أكباد إبلهم عند السفر إلي المدينة وأضوائها ومفاتنها المتعددة كانت
آمالهم متعلقة برحمة اللطيف ثم تغييرا يطرأ علي حالة طفلهم المعوق .
إغتال البكم المتواصل للطفل علي آمال الأسرة التي تعيش خارج الزمن وفي
الأحراش البعيدة عن المدن في شرق أوغادينيا، وزحف الإحباط علي مساحات الأمل، ويئست
الأسرة واختفت البارقة من أن يتكلم ولدهم عندما بلغ في العاشرة من عمره دون أن ينطق
بكلمة ولوكانت عابرة وبصعوبة كبيرة، ولكن إرادة الله كانت أنفذ وجاء الفرج كعادته
يباغت الجميع.
زحف المراهق نحو منتصف العقد الثاني من عمره دون أن تلوح في الأفق
بارقة أمل، عم ّالذهول ورفع الجميع حاجب الدهشة، ماتت الأحلام أوكادت، إستسلم
الجميع وبدا وكأنهم خائبون، وفي ذات يوم وعندما وصل الشاب علي حافة اليأس بدأ بالكلام!
ولكن ليس هذيانا أو كلاما عاديا بل بركانا من الشعر ووابلا من السجع الآخّاذ، دون
مقدمات ولامحطات لتشكل مفاجأة جميلة للأسرة والقبيلة باسرها.
كان نائما تحت شجرة وارفة الظلال يتوسد نعاله ويتصبب العرق من جبينه،
وامتزجت أنفاسه الرقيقة بشخيره اللطيف المتردد داخل حنجرة طرية ستشهد فيما بعد تدفقا
رائعا لأعذب الأشعار وأعقد الألغاز الأدبية، وتأريخ الحكايات الشعبية الصومالية
بلغة رصينة وبأسلوب شيق وممتع، قفز من نومه مذعورا يتمتم ولسانه يردد بأبيات أدبية
وسطورا من نور، نظر إلي جانبيه متحملقا بالأفق كأنه يستكشف للمستقبل والزخم الكبير
الذي سيصنع شعره لاحقا، بدأ أبيات من الشعر الجميل يطرب العقول ويهز مشاعر القوم.
سكت دهرا فنطق شعرا طريا ومنظومة أدبية فائقة الجمال، ومعزوفة تطرب لها
الخيال لجمالها ورونقها وتناسقها، لذا كانت حالته غريبة وحياته عجيبة، وكسر حاجز الصمت
ومعه كسر حاجز الجمود الذي أصاب جوهر الشعر الصومالي إبان ظهور الشاعر.
لم يكن في بداية حياته مهتما بالشعر والشعراء، بل كان رعويا بسيطا مهتما
بهموم الأسرة ورعي الإبل، والعناية بممتلكات الأسرة البدوية في بادية قومه، ولكن
ظهرت نجابته بعدما تكلم ونظم قلائد الشعر والمنظومات الأدبية في منتصف العقد
الثاني من عمره تقريبا.
وبسبب النفائس التراثية التي تتدفق من عبقريته الفذة، والكلمات
اللاهبة ذات الشظى التي تنال الجمع بلاهوادة، كان بديهيا أن يطغي نجمة بين أترابه وخلانه
وأقرانه من الشعراء والأدباء في ذالك العصر الذي كان طقوس البادية تتوغل في كل شيئ،
وكان الشاعر يتمتع باحترام كبير في أوساط الشعب وبين قبيلته التي تتباهى به وتعده من
مفاخرها، وبين القبائل الأخرى التي كانت تخشى من الهجا اللاذغ للشاعر ونظمه قلائد الأشعار
والقوافي لسبهم وتنقيصهم أو أزدرائهم.
ترعرع في بادية قومه هناك في المعمق الصومالي، وكان شغوفا بالعلم
والفن بكل ألوانه، والأدب العريق والتراث الشعبي والرقصات الفلكورية التي كانت تعج
بها المنطقة، وخاصة في أوقات الرخاء وموسم الأمطار في الربيع وفي الخريف ، وكان شــاباً
قويا يتقن جميع الألعاب والرقصات، ويلقى المنظومات الشعرية التي تزيد حماسة اللعبة
وتزيد شجن الحب وجوي العشق في أوساط الفرفة .
وبعد إستقلال الصومال وبسبب الإفرازات الجديدة للحياة وتطويع الجغرافيا
لصالح إثيوبيا التي إحتلت مسقط رأسه، إنتقل إلى الصومال وفي تلك الدولة الفتية التي
كانت الحماسة الصومالية تلهب جسدها وتقود في كل أركانها إنتسب إلي الفرق الموسيقية
الشعبية، وساهم بشكل ملحوظ في تأسيس المجالس الأدبية والنوادي الثقافية واللجان الشعرية
وصناعة الفنون الرائجة في تلك الفترة، وتوطيد أركان القافية ورفعها إلي عنان
السماء، ولم يلبث زمن طويل حتي بات من أكبر الشعراء والممثليين والمسرحيين في الجمهورية
الفتية.
تصدر المجالس ونظم الرويات والمسارح الأدبية التي تجسد معاناة
المواطنين سواء كانت في الجمهورية الصومالية أوهناك وفي مسقط رأسه، وصقلت موهبته الشعرية
والغنائية بعدما زامل الفرق الموسيقية الصومالية، ورافق قامات أدبية وشعرية من جيله
الملئي بالشعراء والأدباء والفنانين وسلاطين القوافي المبدعين.
أتاحت له العيش في العاصمة القومية الصومالية وفي أوج عصر الأدب
الصومالي الحديث الإنخراط في وسط فني وأدبي لم يكن من الممكن أن يجدها أو يخالطها في
منطقته هناك في أوغادينيا، رغم أنها تشكل الوعاء التاريخي للأدب والفن والتاريخ والتراث
الصومالي.
في هذا الجو المفعم بالحماسة الأدبية والقافية كان الشاعر من رواد الفن
في الجمهورية الوليدة، وفاق أترابه في طرح الشعر وتنظيمه، وكان شعره ذات رائحة ثورية
ونكهة نضالية في كل فتراته، بل اشعاره شكلت الخلفيات التراثية لمسيرة الحرية وايقونة
الكفاح وأدبيات النضال، كما كان معينا لا ينضب للثوار والأحرار الذين ناضلو ضد القوات
الدخيلة في أوغادين، فكان ينادي علي التحرر من المحتل، والإستقلالية من الجمهورية الصومالية
التي كانت صاحبة القرارفي معظم الجبهات التي قاتلت في الصومال الغربي، وسعت إلي الحرية
والإنعتاق من المحتل، فكان حقا بركانا يتناثر منه لهب الحرية وشظى الأدب الذي
يصطلي لهبه كل شخص في جانبه.
شئ ما يجعل أشعاره لحنا شاديا وزخرفة شعرية بديعة، وكلماته ألحانا ذات
طبل وإيقاع خاص تحبه الشبان ويتأثره الكبار، كما كان شعره يمتاز بالعمق والأصالة،
ولم يطوع أحد عنان الشعر في تلك الفترة كما طوعها طودان، ولم يمتلك شاعر في زمانه الملكيات
الشعرية والإمكانيات الأدبية التي امتلكها الشاعر، سواء كانت من الناحية الحسية،
أوالقالب الأدبي الساخر، أو المسحة الفكاهية المعروفة في شعره، وأدبيات النضال التي
امتاز بها شعره في السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن المنصرم.
أوتعدد أغراض النظم وجزالة الكلمات مع سلاسة المعاني ومفرداته القوية مع
البساطة، وأسلوبه الشيق مع المراعاة القوية للشعر ونكهته، أوالموضوعات التي تناولها
في شعره، وحتي الإبتكارات الشعرية التي ابتدعها في الأوساط الأدبية والمسرح والتمثيل،
وجميع الفنون التي اجادها حتي بات معجزة الشعر الصومالي ومفخرة لسانه.
كان شاعرا مزج الجد بالهزل وجمع التناقضات الشعرية والحياتية، وبزغ نجمه
الأدبي في عصر كانت اللغة الصومالية تمر بأزهي عصورها إنتاجا وجودة، وأشعاره كانت ألغازا تختصر السنين في ثواني، وأشجانا تتصرم بين فروج
الوطن لتحرك كوامن الروح، كما كان نهرا عذبا تحمل تتابع أمواجه حسا وطنيا يعبر
أحلام المجتمع وتطلعات الشعب في زمن كانت حرية الرأي والفكر في أدني مستوياتها،
وبات الإستبداد الفكري والكبت هو السمة البارزة، لذا سمته الجماهر بالعملاق والأديب الكبير ومحبوه بالشاعر
المناضل ورجل المواقف وأمير الشعراء بلا منازع، وإمبراطور الشعر والفن في عصره،
واتهم مبغضوه بالتناقضات العجيبة والإبتذال في بعض الكلمات والضيافة علي بلاط
الأمراء بمختلف أفكارهم وتوجهاتهم، والتقلبات الفكرية وإجادة العزف على كل الأوتار
والتغني حسب التيار السائد، ورجل المصالح وليس المواقف.
ولكن لم نجد من يتهم في شعره الوهاج
كحبات الحرير، أو يطعن في أدبه أو يشكك معرفته الغزيرة للعادات والتقاليد
الصومالية العتيدة، ولم نجد حسب علمنا من تطاول عليه إنتاجاً وجودة وتبحرا في
اللغة وأدبها وفنونها وصياغة معانيها وسكبها في قالب الأدب والشعر والغناء وبلمسات
سحرية.
وقعت الجمهور أسير بيانه ونوعية
أشعاره الخفيفة التي توزع الإبتسامة مع كل بيت، والفكاه الأدبية مع كل شطر
والومضات البديعة مع كل حرف من حروف شعره المشع، ويتميز الشاعر الكبير DHOODAAN أنه مخترع الأسلوب الساخر
والجميل (jacbur) في الشعر الصومالي، ذاك الضرب من الشعر الذي قدم فيه الشاعر عبره خيوط الحب وضروب
الحنين إلي مسقظ رأسه، وجبروت الحكام، وخلجاته الإنسانية وهموم الشعب وهمس الوطن
قبل المواطنين، مما جعله قامة أدبية سامقة في أوساط الشعب ومجالس الشعر الأدب
واللغة.
ويحمل هذا النوع من الشعر أنواع
التهكم المعبأة بالود والسخرية المزدانة بالضحك المجلجل والتودد على شكل كلمات
مبهمة تحمل في طياتها نقدا عجيبا للغوغائية الصومالية، كما يحمل ضبابية كبيرة للمغزى
رغم وضوح كلماتها ونبراتها الصوتية وسلامتها اللغوية،كما كان ملئيا بالحب والغزل
اللاذع الملتحف بثوب الحشمة والوقار، والكلمات الغريبة والطريف في آن، ولكن
بطريقته الطودانية الجميلة وبكلماته الموغلة في اللغة الصومالية وترثها العريق
وبطريقة ادائه المتوازنة بين الجمود اللغوي والطيش المعنوي.
إنتقد الأوضاع السياسية في الصومال
بسبب رعونة القيادة وجهلها، وهاجم النظام العسكري الذي كان يحضن الثورة العارمة
للصومال الغربي، لأن الشاعر كان يرى حسب إجتهاده الشخصي وحسه الأدبي أن الإدارة
الصومالية تحرف الثوار عن مسارهم التحرري، وتحول المسألة من كفاح مشروع لشعب مضطهد
إلي مجرد توتر حدودي بين دولتين، مما يعني تبخر الأحلام إلي الأبد، وهاجم أيضا عبر
أشعاره ومساجلاته الفكرية ولقاءته الكثيرة النظام الإثيوبي الأمهري مما ولد له
عداء كبيرا في المعسكرين الإثيوبي والصومالي علي السواء.
وأخيرا رجع الشاعر إلي مسقظ رأسه إبان
حكم منغستو بعد تحولات فكرية جدزية ومراجعة تامة للواقع والحياة، وبعد سقوط نظام
منغستو ألقى عصي الترحال وسكن في دردوا، ولكن لم يزل ملهما للأجيال التي عشقت
أشعاره وبحت كلماته حلقومها، ورافدا أدبيا مهما للثقافة الصومالية العريقة.