في السادس من كانون الأول ديسمبر2022م استيقظت من النوم وحلكة الليل ما زالت في الأفق. كانت هواجس اللقاءات المرتقبة تتسابق في خيالي وأتساءل: ما جدوى المؤتمر؟ هل سيختلف عن المؤتمرات العبثية السابقة؟ هل كلمتنا ستجد صدى مناسبا؟ وكيف سيبدو مبنى جامعة الدول العربية الذي ضمّ يوما ما بين دفتيه زعماء العرب التاريخيين باختلاف مشاربهم ومبادئهم وفلسفة حكمهم؟ على وقع هذه التصورات ذهبنا إلى مقرّ جامعة الدول العربية التي سئمتْ من الأزمة الصومالية، ومن تسوّل وزراء تخرجوا من أكاديمية التفاهة ولا يحملون ذرة من الكرامة، وسفراء لا يعرفون البروتوكول الدبلوماسي، ومندوبين ليسوا محنكين ولا مؤهلين لتمثيل وطن يمر بمنعرج خطير. وبسببهم اقترنت "الصومال" في المحافل الدولية بالمهانة وعدم الجديّة، وكلها إفرازات طبيعية للقهر وخواء الذات، وسلوك يعكس عمق أزمتنا!
في قاعة متوسطة الجمال وفي وسط حضور عربي وأممي تقرأ على تعابير وجوههم عدم الاكتراث كنت أعاني من حرج شديد لدرجة أنني لم أتجرأ على النظر إلى عيون الحاضرين أو جذب أطراف الحديث معهم! إلى متى نقرع الأبواب ونمد أيدينا للغير نطلب منهم المساعدة؟ كنت أشعر بحمرة الخجل ونحن نعرض مأساتنا على دول أقل منا إمكانية من حيث الموارد الطبيعية والموقع الجغرافي وحيوية الشعب، وأمام هيئات تستفيد من مأساتنا. باستثناء الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط وبعض رؤساء البعثات لم تكن الوفود والممثلون معنيين لوقائع المؤتمر، بل كان الكسل واللامبالاة والاشتغال بالهواتف الذكية والمحادثات الجانبية سيد الموقف، وكأن لسان حالهم يقول: "يتكرر الجفاف ومعه تتكرر المجاعة ومناشدة المجتمع الدولي ولا أمل في الوصول إلى حل جذري لشعب غاص في وحول الحرب ومستنقعات الانقسامات، لذا من الأحسن ألا نصدع رؤوسنا بمعضلتهم". ورغم برودة الجوّ العام إلا أن النقاش اتسم ببعض الجدية ولم يخل مسحة من الامتنان وتضخيم المساعدات التي قُدمت للصومال في العقود الأخيرة، واجتهدت المنظمات الدولية التي تأخذ باسم الصومال ملايين الدولارات وتبذره بأجنحة الفنادق الفاخرة والرحلات السياحية في حلب العرب بعد أن جف ضرع الغرب. أما المبعوث الصومالي فقد أشار الكثير في كلمته ودعا الجميع إلى التحرك السريع وإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان.
انتهى المؤتمر بتوصيات لن تنفذ وكلمات لن تصل إلى أذن واعية، وانتهت أيامي في فندق انتركونتيننتال سميراميس وعدتُ إلى الحياة الطبيعية. وقبل أن أنتقل إلى مدينة نصر حيث الطعام الصومالي وصخب الحياة وصديقي زكريا الذي ما زال نديّ الروح صومالي الطابع ذهبت إلى ماسبيرو (الإذاعة والتلفزيون المصري) لمشاركة برنامج «طقوس الإبداع». كانت مقابلتي مع الأستاذ الصحفي خالد منصور تاريخية ذلك أنها كانت الأولى من نوعها في مسيرتي الكتابية بعد سنوات كنت أتحاشى من المقابلة التلفزيونية خشية التلعثم أو التعثر الكلامي. في غيهب الغسق وقفت أمام مبنى ضخم متعدد الأقسام بني في أوج عزّ ثورة ضباط الأحرار (انقلاب 23 يوليو) ولقب باسم العالم الفرنسي جاستون ماسبيرو. كان حديثي مع الصحفي - الذي فاجأني بعد المقابلة بأنه كان يعتقد أنني لا أجيد التحدث باللغة العربية بسبب قلّة كلامي وتحفظي في الحوار والدردشة على الماسنجر- يدور حول كتاب «الصومال.. زوايا غير محكية» الذي أبهر كل من قرأه من المصريين والعرب حتى قالوا عنه: «يحمل مراثي الصومال وملامح كسمايو". وأعتقد أن السبب ليس في قوة محتواه أو أناقة أسلوبه رغم أني بذلت قصارى جهدي بقدر ما هو أن القارئ العربي لا يعرف شيئا يذكر عن الصومال التي ابتعدت عن المسار العربي في العقود الأخيرة، وبالتالي كل ما يتعلق بهذا البلد المنسي يعتبر ثروة لا يمكن التفريط فيها. في البداية كنت متوتراً وكنت أخاف أن أقع ضحية للهلع الذي يعتري الإنسان في مثل هذه المواقف، ولكن مرّ الموقف بسلام، وخرجت الكلمات من فمي بسلاسة وأريحية غير متوقعة. لقد تحدثت عن صومال الأمل والتحدي.. صومال الشعر والأدب والقوافي والنضال والرقصات الجميلة.. الصومال التي ترفض أن تحل الظلامية واللصوصية محل الجمال والإبداع.
في القاهرة لم أكن حبيس العزلة ولا بعيداً عن نبض الشارع وندوات المثقفين وزحمة الأسواق ودهشة التاريخ، بل وطدت علاقتي بكتاب ومثقفين من شتي الأقطار الأفريقية والعربية وانخرطت في الحياة الثقافية. في الندوة الأولى في الصالون الأفريفي بالتعاون مع الاتحاد العام للطبلة الأفارقة بمصر تحدثنا عن حقيقة الهوية الإفريقية والانتماء، ومن هو الأفريقي في زمن السيولة؟ وهل البشرة السوداء مقياسا للأفريقانية؟ إذا كانت الإجابة بنعم فكيف يمكن للبرازيلي الأسمر والجامايكي أو الزنجي الأمريكي أن يكون أفريقيا رغم بعد المسافات واختلاف الثقافات؟ بينما المصري والجزائري والمغربي ليسوا أفارقة وهم يعيشون في أفريقيا؟ هل المعيار هو الجغرافيا والمكان؟ إذا كانت الإجابة بنعم فكيف لمارغوس غارفي ألا يكون أفريقيا؟ وهل التمسك بالهوية الأفريقية تعني عدم مواكبة العالم والتقوقع في محارات الذات؟ وكيف نوازن الهويات المتعددة؟ كان نقاشا مستفيضاً خاصة وأن الحضور كانوا نخبة مثقفة تحمل الهمّ والانتماء، وتدرك أن قارة المستقبل أمام مفترق الطرق، وأنها تفتقر إلى قيادة ذات كاريزما بعد جيل الاستقلال الذي حاول بناء هوية افريقية جامعة وعاش مع حلم التحرير وتوحيد أفريقيا. في القاعة التاريخية التي مرّ عليها عمالقة القارة التقيت بجيل شاب اعتنق البان آفريكانيزم حتى النخاع، ويسعى بعزم وإصرار نحو أفريقيا الموحدة والمحررة من التبعية.