بعد يوم غائم أعقب أسابيع من
الحرارة والرطوبة الشديدتين؛ كان الليل الكسماوي صافيا وجميلا. الرذاذ الذي بدأ بالتساقط
بعد التاسعة مساء ومجالسة الأصدقاء القدامى في مرابع الصبا والطرق التي كنا نلعب
بها ونحن صغاراً؛ عدّلا مزاجي وأعطاني طاقة سردية كانت ترتفع كلما ذاب الغسق في
العتمة. تحت سدول الدجى كنت أنا وأصدقائي نتحدث عن كدح القلم والهواجس الفكرية،
وعن المثقف في زمن الحرب، واتفقنا على أن المثقف كغيره يتأثر على البيئة والواقع المأزوم، وأن في زمن الفوضى تختفي الحقيقة وتضيع
البوصلة وتنقلب المعايير والأسس الأخلاقية. وضربنا مثلا كيف دافعت عقول مثقفة وأدمغة
نابغة ومتدينون ذوو لحى، عن الحكومة الصومالية التي تخطت كل الحدود، بعد أن سلمت
مناضلا صوماليا إلى العدو اللدودّ، وأدرجت جبهة وطنية كافحت من أجل تحرير ملايين
الصوماليين في القوائم الإرهابية. لقد حاولوا حجب شمس الخيانة بغربال التطبيل،
ولكنهم أخفقوا!
في بحر الليل البهيج وعلى ضفاف نهر الذكريات كان الحديث عن
كل شيء ممكنا، فانتقلنا من النقاشات الفكرية والسياسية إلى الموسيقى التي
كعادتها" أخذتنا إلى أماكن لا تستطيع الكلمات الوصول إليها" والنص مقتبس
من الملحن وصانع موسيقى الأفلام فانجيليس أوديسياس (1943-2022م). بدأنا السهرة
بالحديث عن الأبطال المفضلين في الفن الصومالي، ومختارات من الأغاني الكلاسيكية
لعمالقة الطرب وملوك الصوت الشجي، وخاصة أغاني الموسيقار الراحل أحمد ياسين دغفير
الذي كان يحمل في حباله الصوتية تفردا عجيبا ولمسة شجن ظلت ترافقه في جميع
ألبوماته الغنائية، حتى قال محبوه: "إنّ ياسين لا يجيد سوى الشجا والشكوى".
بعد أمسية مليئة بالأنس والحكاوي، غادرت مجلس الأصدقاء
وعدتُ إلى البيت وفي بالي أغنية «الشمس والقمر» التي أعادتني إلى بهجة الفن في
صومال الستينات والسبعينات. في زاويتي الهادئة كالمعابد وقبل أن أبدأ الكتابة رنّ
في أذني ألحان موسيقار الأجيال أحمد إسماعيل حديدي (1928-2020م) الذي غنت له جلّ
الأصوات الصومالية أمثال: محمد سليمان تبيع، زينب عجي، هبو نورة، محمود علي برعو،
وحسن نور (آر مانتا) وغيرهم من فطاحل الفنانين.
بعيدا عن الفنان الذي اشتهر بعبقرية ألحانه، فالأغاني
الصومالية القديمة تصيب مني وترا ملتهبا تثير العواطف وتبعدني ولو لبرهة عن عصر
موحل بالخوف والإحباط إلى الحقبة العسكرية (1969-1991م) التي شهدت فيها الساحة
الصومالية نهضة فنية حقيقية بعد دعم الدولة للفن والمسرحيات الغنائية، وأسست فرقا
موسيقية ساهمت وبشكل واضح انتشار الفن وتغلغله في أوساط المجتمع الصومالي الذي لم
يكن يعرف غير الأغاني الدينية والمدائح الإسلامية والفنون الشعبية. ورغم أنها كانت
خطوة لا تخلو من تغييب الوعي وإلهاء الشعب المطحون بأغاني رومانسية، وأخرى تمجد
الحاكم الذي سخر الفن لمصالحه السياسية، وتغيير البنية الثقافية والاجتماعية
للمجتمع، إلا أنها كانت حقبة أفرزت أغاني هادفة ومسارح قدمت مواهب حقيقية، أما
اليوم فجلّه هابط لا يحمل سوي ترنيمة الكراهية وسذاجة التكرار والتعري، والفنان
الحالي عنوان للتدهور الأخلاقي والمرحلة الصعبة التي يمر بها الشعب. وهنا لا أدعي
بأن الفن القديم كان خال من السلوك غير اللائق، بل كان موجودا، ولكن كانت هوية
المجتمع محددة ومحصنا ضد الانحلال، وسليما متماسكا يحفظ منظومة الأخلاق والقيم،
بينما المجتمع الحالي أصبح في عصر «القرية الكونية» منبهرا للعادات العابرة
للقارات، وخاضعا -لا يقاوم ولا يرفض- للنظم الغربية ونمط تفكيره.
دعم الجنرال الاشتراكي محمد سياد بري للفن لم يأتي من فراغ، بل كان -كغيره من زعماء الأفارقة اليساريين الذين وصلوا إلى سدة الحكم بعد الاستقلال الشكلي للقارة-، يعتقد أن اعتناق الاشتراكية وبث روح الحماسة في نفوس المجتمع عبر الفنّ الغنائي وتوحيد الأهداف والطموحات؛ تخلد اسمه وتبني أمته وتحفظ حكمه، بدل الرأسمالية التي تعمق الانقسامات وتغذي الفوارق الطبقية والفردية وتشجع على الانتخابات وحريّة الأفراد، إضافة إلى أن الاشتراكية تصنع الزعيم الأوحد والرئيس المهاب والقائد الفذ الذي تعشقه الجماهير الظامئة للانتصارات والبطولات، وتلتف حوله الجموع الرامية لرد الاعتبار، وتساهم في تسويقه وكأنه المنقذ الموعود والحبيب المنتظر، وهذا كان ما يصبو إليه جنرال وصل إلى سدة الحكم عن طريق الانقلاب، ويفتقد أسس الشرعية الديمقراطية، ومن هنا ارتأى الجنرال أن إيجاد "الأغنية الملتزمة" -على مذهب سارتر- التي تدعو إلى مساندة الثورة ودعم اليسار، تساهم في ترسيخ حكمه وتعميق رؤيته وتلميع صورته، وهذا ما حقق في السنوات العشر الأولى من الحكم العسكري، إذ انتشرت شعبيته بين الجماهير واختفت النزاعات القبلية، وظهرت مصطلحات جديدة -أو أخذت حيزا كبيرا من الانتشار- كالوطنية والقومية الصومالية وعدم التبعية، وأصبح التغني بأمجاد الماضي وتكريم الرموز الوطنية المناضلة عبر بناء النصب التذكارية والمجسمات، وتوجيه الشعب وتحريضه على تحرير الأقاليم المسلوبة سياسة متبعة.
ومن باب الإنصاف، لم تكن الدولة وحدها من توددت للفن والفنانين، وأغدقت عليهم الأموال والهدايا بسخاء، بل كان تحالفا ثنائيا قائما على أساس المصلحة ومواجهة التحديات الماثلة، فالفن كان يواجه صعوبات عدة ورفضا من مجتمع محافظ يرى المظاهر المصاحبة له انحلالا أخلاقيا وتميعا، فيما كان النظام يمر بمرحلة حرجة من الناحية الشرعية، ورفضا شعبيا بعد اعتناقه للمبادئ الاشتراكية، فتحالفت الألحان بالنياشين، ونتج عن هذا التحالف؛ أشعاراً حماسية وأغاني ثورية وتأليف مسرحيات خالدة.