في منتصف سبتمبر وفي أجواء يسودها الترقب واللايقين عاشها الصوماليون بعد سيطرة المحاكم الإسلامية على العاصمة سافرت برّاً نحو الشرق البعيد. كانت الطرق التي يعتبر «أساس الحضارة» منهارة ومليئة بحفر ومطبات ومليشيات مسلّحة وقطاع الطرق. في هدوء الصباح توغلنا في قرى محاذية لنهر شبيللي حتى وصلنا في قرّ الظهيرة إلى مدينة بولو بوردي الوادعة على ضفاف نهر يعتبر الشريان الرئيس للصوماليين زراعياً.
على مشارف غراتسياني وفي أحضان جبال هيران كانت شمس أيلول تحرق الأرض وتجعل السيارة اليابانية قطعة من حديد ساخن. ورغم الخوف ووعورة الطريق إلا أن الأيام الثلاثة التي قضيتها في السفر بين مقديشو وبوصاصو تنعمت بلحظات هانئة وأصابني فرح طفولي وأنا أجوب وهاد الأغاني وآفاق الشعر مع شاب يقرأ الأدب الصومالي بحماسة مفرطة ويهيم في أودية القصائد الكلاسيكية والسلاسل الشعرية الهجائية مثل غُوبا وهَامِي ورَيَّدْ وديلّي (القصيدة الدالية) وغيرهم من عيون الشعر الصومالي.
وصلنا إلى مدينة غالكعيو التي كانت مقسّمة – على أساس القبيلة - إلى شمال وجنوب - كان الجنوب عالقاً على هامش المدينة في حين كان الشمال نابضا بالحياة والعمران وإن كانت بقايا الحروب وندبات الصراعات بادية على ملامحه! استغربت، كيف يمكن لمدينة واحدة أن تكون مختلفة إلى هذا الحدّ؟ كنت أتضور جوعاً فذهبت مع الشاعر العبقري إلى مطعم لا يبعد كثيراً عن سوق الخضار والفواكه. بخلاف التوقعات كان المطعم الذي أكلنا فيه أرزا سيئا بالمقاييس الصومالية مليئا بالزبائن ويعج بأطعمة محلية مختلفة، وفي زاوية بعيدة منه كان الجميع يصغي باهتمام حكاية مسنّ كان يحمل وجها فيما مضى وقبل أن تعبث عليه عاديات الزمن جميلاً ويتحدث عن وصول طلائع قوات المحاكم الإسلامية إلى كسمايو. كان يقول بصوت مرتفع: " لقد سيطر جناح رأس كامبوني على مدينة كسمايو وهرب زعيم الحرب برّي هيرالي إلى الأدغال ومن ثمّ إلى إقليم غدو ومنها إلى أوغادين المحتلّة". لم يتأخر الخبر كثيراً بل سرعان ما انتشر في وسائل الإعلام المحليّة والعالمية، وبعد دقائق قرأته في الشريط الإخباري (السبتايتل) لقناة الجزيرة التي كانت مصدرا مهما من مصادر الخبر في عموم الصومال قبل أن تظهر القنوات المحلية والمواقع الإلكترونية، والشبكات الاجتماعية. كنت سعيداً بسيطرة المحاكم على إقليم جوبا السفلى وانتهاء ليالي زعماء الحرب وحزينا بالرحلة الطويلة التي كانت تنتظرني.
أخيرا وبعد رحلة طويلة قطعت خلالها مئات الأميال وصلت إلى بوصاصو في يوم قائظ أجبرني الحرّ على احتماء كش صغير لا يقي لهيب الشمس. كان الجوّ يفيض ظمأ وجسدي يحتاج إلى تبريد.. ترى هل سأصمد أم سأسقط مغشيا عليّ من شدة الحرّ؟ ومن العجائب أنني كنت في العشرين من عمري وقارئاً جيداً ملمّا بالجغرافيا ورغم ذلك لم أكن أعرف مناخ وطني وطقس مدنه المطلّة على بحر العرب وخليج عدن والبحر الأحمر! فور وصولي بدأت بجمع الأخبار والاستعداد إلى اليمن، وقبل شروع الرحلة، اتصلت بأمي للوداع ولكنها رفضت فكرة الذهاب إلى اليمن ولابد أن موجات الهاربين من الصومال إلى الجزيرة العربية والسفن الغارقة في عرض البحار وقصص الذين ابتلعتهم المحيطات ترك في نفسها كثيراً من المخاوف.
لم أكن أملك حق الرفض ولا إبداء رأي مغاير لأم عصامية تعبت من أجل تربية ستة أيتام لا يملكون المال ولا الجاه فتنازلت عن حلمي مؤقتاً ولم أجد بدّاً من أن أعيش في بندر قاسم وأن أبحث عن فرصة عمل. لم تطل فترة الانتظار بل وجدت وظيفة أجني منها دخلا شهريا مغريا بمقاييس ذاك الزمن وفي بلد مثل الصومال إضافة إلى عمري والظروف المحيطة بي، وأصبحت معلماً لأطفال مشاغبين وثرثارين مقارنة بأطفال الجنوب ومراهقين جريئين.
في بندر قاسم كنت سعيدا في اكتشاف الحياة والاستقلال المادي، وعشت فيها أياماً لا أنساها أبداً ذلك أنها كانت المدينة الأولى التي أتاحت لي أن أعيل نفسي دون أن أعتمد على أحد. ورغم ذلك كنت بعيداً عن ذكرياتي ومللت من روتينية الحياة وعانقت ألواناً من الوحدة وأصبحت المدينة صعبة الاحتمال على مرّ الأيام وعدت إلى كسمايو بعد أن فاض بي الحنين. لقد خرجت من بندر قاسم بروح صلبة وشخصية مختلفة واختفت - وربما إلى الأبد - الجدّية في التعليم ونظر الحياة بمنظور واحد؛ منظور التميز العلمي والتفوق الأكاديمي والاستمتاع باحتلال اسمي في صدارة الجدول، إلى حياة أرحب ونظرة أشمل، ثم ذهبت إلى السودان وإلى جامعة افريقيا العالمية وخضتُ غمار المنافي وأمواج المعرفة. وتلك قصة أخرى.