السماء تعزف لحن المطر، وتضوعَ
الأريجُ عن أحراش خط الإستواء والقرى الناعسة على أحضان المحيط، وتنتشر الإبتسامة
الموغلة في التجلد وازدراء الآلام على ربوع الوطن في ظل الحركات الإجرامية
والأوضاع المأساوية، وفي عمق الجمال الشاعري تبدوا أحراش الغابات وجوز الهند والحقول
الزراعية على خارطة جنوب الجنوب لوحة طبيعية باذخة المعالم.
هنا وجوه صومالية خالية من
الكآبة، وشيوخ يتمتعون بروح الدعابة والضحكة الصافية، السعال في الهزيع الأخير من
الليل وبريق عيونهم تخبرك حكايات الحروب والتاريخ، المساجد منتشرة في كل ركن وزاية
من تلك القرى المرصعة بجو صومالي بديع حيث
ثرثرة النسوان ومرح الأصدقاء على ضفاف الأدب والأمثال تنساب في أزقة التاريخ
وشواطيء المعاناة اليومية للبسطاء، الكل يراعي النجوم ويستظل القمر ودولة القوافي،
وينام على وقع أنين المظلومين ويصحوا على أصوات الرصاص.
نهر شبيللي وما ورائه من المدن
والقرى تعتبر مروج ممتدة نحو الأفق ونهر عابر للأوطان تختلط فيه الأعراق والسياسة
والمصالح والتضاريس، وبصمات الدمار بادية على جبين الأنهار والبحار والمدن الغارقة
بالشحوب وعلى أرصفة البيوت التي هاجر سكانها بعد أن طردهم الوطن وأستقبلتهم المنافي،
قصص الرحيل في المدن والأحياء مؤلمة ومأساوية، وفي عمق الدمار تأتي الأجيال
المكافحة من أجل الحرية والمعرفة وانتهاء الصراعات وفواجع الحروب عبر العلم
والقراءة والبحث عن الذات وتتبع خيوط الحقيقة رغم ندرتها في وطن تتقاذفه أمواج
الصراعات والإنتماءات.
ما أجمل السفر في ربوع وطنك
يرافقك كتاب يذكرك بالماضي الجميل، كنت أقرأ وأنا أسير على دروب يطول فيها العبور
كتاب (سالي فو حمر وحكايات أخرى من أفريقيا) للدبلوماسي السوداني جمال محمد أحمد،
الكتاب يثير كوامن النوستالجيا في أعماق نفوسنا الحزينة، حيث يتناول بطريقة أدبية ماتعة
الصومال وحكاياتها وسمرة أهلها وعراقة تاريخها. الفترة التي لحقت الاستقلال كان
الوطن مرتعا للكتّاب والأدباء والسياسيين والآن دمر الحرب كل شيء، لقد اختفت معالم
الدولة ومظاهر الثقافة ومعهما الكتاب والإبداع. ولكن مع الاستقرار النسبي للأوضاع
تحسن وضع الثقافة في الصومال عبر الأندية والملتقيات الأدبية ومعارض الكتب في معظم
المدن، وبدأت بوادر المعرفة تلوح في وسط الركام مما ساهم في نشر الوعي بين الشباب
الصومالي.
كنت أحثّ الخطى نحو قاعة
في قلب مدينة كسمايو الساحلية يحدوني الشوق إلى ندوة مصغرة لمثقفين يحملون هم الوطن،
كانت "الهويات القاتلة" عنوان جلستنا التي تفرعت وتوغلت في جميع
الميادين حتى لامست الماضي والحاضر وأضاءت المستقبل، وكان أصل الصومال كعادته لغزا
حير الجميع، ومن الغريب أن الصوماليين لم يحسموا أصلهم لحد الآن ومقسمون بين عربي
لا يتقن لغة العرب وأفريقي لا يحمل جميع ملامح الأفارقة يرافقهم الحيف في المنظمات
حيث يعتبر الصومالي مواطن من الدرجة الثانية عربيا وأفريقيا، وتعتبر موضوع الأرومة
من أشرس المواضيع في الساحة الصومالية.
لم يكن بحث الجذور الموضوع الوحيد
في تلك الندوة، بل كان مبدأ "الصومال الكبير" الذي هاجمه البعض من
الداخل حاضرا في أروقتها، فبعد عقود من التمسك بالنظريات الجامعة يبدوا أن التشظي
نال هذه القومية المتجانسة التي كانت موزعة في عدة دول أفريقية يجمعهم حلم
"الصومال الكبير" الذي كان يجري في عروقهم قبل تجزأة المجزأ إلى
كانتونات قبلية ودويلات متصارعة على أنقاض وطن.
الأشواق الصومالية ومطالبتهم
بالوحدة إبان التحرر الأفريقي إصطدمت بسياسة الاستعمار ومصالح الإمبريالية
العالمية فقطع أوصال بلادهم وقام بتصفية عقولهم، وحارب ضد الحركات التحررية وفي
مقدمتهم حركة الدراويش، ونصر الله، ووحدة الشباب الصومالي، والصومال الغربي، وثورة
شيخ حسن برسني، ومقاومة قبيلة بيومال في الجنوب وغيرهم، وقاموا باغتيال أيقونة
الوحدة أمثال المناضل محمود حربي الذي أسقطت طائرته في عرض البحر، حَربي رفَع شعار
عودة جيبوتي إلى حضن الأم، وكان صوتا للحلم الصومالي القابع وراء الحدود التي
صنعها الاستعمار.
بعد هذه النكسات لم يستسلم
الصوماليون بل قاومو على المحتل فشنوا الحملات وجردوا الجيوش وهم يحملون لواء
الإسلام وأحلام مشروعة تقودهم نحو إعادة مجدهم ومدنهم. ومنذ أن اعتنق الصوماليون
الإسلام ظل يشكل النبض الأكبر لحروبهم فتوغلوا جنوبا وغربا عبر رحلة برية تستحق
عناء البحث والكتابة بعد أن تدثرت بغبار النسيان وأصبحت حكايات ملئية بالشجن
والملاحم يرويها الأجداد للأحفاد.
كان الصوماليون يتمددون على
المشرق الأفريقي من أجل نشر الإسلام، أو الهرب عن صراع القبائل والأفخاذ
الصومالية، أو البحث عن الثراء ومناطق لم يصلها الرعاة الرحل، وقد أفل نجم الممالك
والدول التي حكمت أجزاء واسعة من شرق أفريقيا بعد مجيء الاستعمار دون أن يتركوا
كتبا تؤرخ لمسيرتهم، لذا ربما لاندرك جل الطرق التي سلكوها والأحداث التي رافق
زحفهم، ولكن نستطيع أن ندرك عبر الشعر الذي ظل المتحف الخازن لسجلات الماضي أن
الشعوب الساكنة في تلك المناطق لم تستقبل الصوماليين بالورود والزغاريد بل بالحرب
والدماء، ولكن بفعل الشجاعة والتفوق التدريبي والرشاقة إضافة إلى التجلد والرغبة
الحقيقية لنشر الإسلام على ربوع الوثنيين كانوا ينتصرون في معظم المعارك ويواصلون
زحفهم حتى وصلوا إلى تخوم نيروبي جنوباً وأواسط البحر الأحمر شمالاً، فيما تممددوا
غربا على أديس أبابا وما ورائها من البحيرات، وكان الصوماليون من الأوائل الذين
وصلوا إلى عمق الأمهرا في بداية القرن السادس عشر وتحديدا عهد الجهاد المسلح ضد
أباطرة الحبشة التي قادها الغازي أحمد جري ورفاقه الأشاوس.
لقد تعمق الصوماليون في الأدغال
الأفريقية وعبروا نهر تانا إلى الجنوب وهم يحملون عقيدتهم وأفكارهم وإبلهم ونمط
حياتهم، ورغم التنوع الثقافي والعقدي بين الصوماليين وسكان تلك الأراضي فإن
الروايات الشحيحة والميثولوجيا الصومالية تدلنا كيف كان التداخل بين المجموعتين
بعد أن وضعت الحرب أوزاره، حيث روى لنا المسنون أن المحاربين بعد أن وصلوا تلك
الأراضي واستوطنوا فيها آلت إليهم الأموال والممتلكات وتزوجوا من القبائل الأصلية،
وبذلك أصبحت تلك البلاد موطنهم البديل إلى أن جاء الإحتلال الغربي والدول القطرية
فانحسروا نحو المحيط بعد أن خسروا آلاف الأميال بسبب قلة عددهم وشساعة أرضهم
واختلاف البيئات الماطرة عن تلك التي عاشوها في مرابعهم في القرن الأفريقي، إضافة
إلى السياسة الكولونيالية التي نصت على تحجيم دور الصوماليين وتلجيم مطامعهم.
كانت القبائل الوثنية التي تسكن
على المستنقعات الجنوبية وما بين نهر جوبا وتانا في الإقليم الصومالي في كينيا
شديدي البأس واتسموا بالشجاعة والعدد والتكتيك القتالي، وكان لهم ثقافة مازالت بعض
آثارها بادية للعيان، ورغم ذلك مازال أنماط حياتهم وطقوساتهم المعيشية والدينية
شحيحة جدا إلا ماكتبه المحتل البريطاني وهي رغم قلتها لاتنصف في كثير من الأحيان،
وقد امتدت مسيرة الصوماليين نحو البحيرات العظمى وخاصة تشاد التي يعش فيها اليوم
قبائل صومالية كما يعتقدها طيف واسع من الصوماليين رغم أنها إندمجت تماما في
المكون الثقافي والعرقي لجمهورية تشاد والبلاد المجاورة.