منذ بداية نكبتهم ورحيلهم
من أفريقيا عبر قوارب الميت والسفن التجارية العابرة للقارات إلى أدغال أمريكا وهم
مقيدون بالسلاسل والإزدراء كان السود يحاربون ضد الغبن والدونية وعدم المساواة
والتنميط المؤسساتي، واستنكروا القمع والعبودية وبحثوا الحرية والعدالة الاجتماعية
ــ رغم ضيق الفرص واستحالة المطالب ــ بطرق متعددة كالتمرد والثورات والفن والأدب
الذيْن جسّدا ذكريات الجراحة والألم، فكانت مطالبهم رغم بساطتها بعيدة المنال بسبب
العنصريين الذين كانوا يرون أن السود نصف إنسان ونصف حيوان لايملك أدوات التفكير
والقدرات التي تؤهله إلى الإنسانية الكاملة
!
وفي ظل الرق والسادية كان
السود يعانون من الأعمال الشاقة وألم السوط والإذلال، ولم يستطيعوا أن يطلبوا
حقوقهم ويعبروا عن مأساتهم بالفن والموسيقى بعد حظر الطبول وأدوات الفن من المزارع
والتجمعات الأفريقية، أو أن يكتبوا تاريخهم وتراثهم، لأن الكتابة في نظر البيض
أسمى درجات النضج والرقي الإنساني ولم يدرك العبيد إلى هذه المرحلة السامية بعد!،
حيث يصور الأدب الأمريكي الإمبريالي الإنسان الأسود بالشهواني الغارق بالجنس
والمخدرات والمخالفات القانونية والعيش في الأحياء المتخلفة والضواحي الكرتونية
الأكثر بؤسا، ويلصقون كل التهم والمساوئ كتدنّي المستوى التعليمي والتسرب المدرسي
وارتفاع الأمية والبطالة
.
ومن أجل التصدى لهذه الهرطقة
بدأت حركات السود الثقافية تدشن آراها الفكرية ونظرتها حول الحياة والحرية والذات،
فكتبوا القصص والمسارح والروايات والأغاني، ومع تحسن الوضع وارتفاع الأصوات التي
تطالب بإلغاء الرق إنخرط السود شئيا فشئيا في القالب الثقافي الأمريكي فحاربوا عبر
كتاباتهم وسردياتهم وفنهم الموسيقي الأفكار العنصرية المأفونة، وقد حمل لواء هذا
الفترة الحاسمة في تاريخ الزنوج في أمريكا كتاب وأدباء وموسيقيون مهرة كرسوا جهدهم
لطي صفحة العبودية وبداية عصر المواطنة والمساواة، ومن هؤلاء فليس ويتلي،
وغوستافوس فاسا، وأولودة اكويانو، وهاري بيرلاي، وغيرهم الذين قادوا نضال إعادة
قراءة التاريخ وتصحيح الأفكار وتلميع المسيرة
.
إن المعاناة والتضيق الذي
لقيته الكاتبة الشابة فيلس ويتلي وما رافق كتاباتها من ألوان العذاب والسخرية
يذكرنا طغيان الطغمة الحاكمة التي كانت تسخر من الزنوج سواء كانوا في أمريكا التي
ألهبت ظهرهم بالسياط وأرعبتهم بالمشانق، أو في أفريقيا التي تعاتي من التدفق
الأمبريالي من أجل نهب الثروة وشراء الرقيق وإرسالهم إلى أورروبا وأمريكا ليبدأوا
فصلا آخر من فصول العبودية والتسلط، ومازالت موانئ الشحن في أفريقيا شاهدة على
آثار المأساة الإنسانية
.
وفي طيلة القرن التاسع عشر
الميلادي كان السود يواصلون محاولاتهم الخجولة التي كانت في معظمها فردية الطابع
وبعيدة عن التأثير من أجل رد الإعتبار واختراق جدار العزلة الثقافية والإنعتاق من
الآثار السلبية لسنوات من العبودية والإنطوائية إلى رحاب الحرية وتأثير الشارع
الأمريكي وثقافته الاستعمارية وتحويلها إلى ثقاة مشتركة تتسم بالشمولية والعدل
والوطنية، وهكذا استمر النضال ومحاربة العنصرية والتمييز إلى أن بزغت نهضة هارلم
وماصاحبها من حركات ثقافية وفكرية واسعة النطاق وعميقة الأثر، وكان جيمس ويلدون
وآلان لوك وزملائهم من الكتاب يتصدرون التيارات المنفتحة على الأفكار والنقاشات
والخيال الجامح نحو نفي الدونية وإثبات الذات واحترام الهوية الثقافية، كما كان
المطربون اليوبيل (jubilee singers) وسكوت جوبلين
وغيرهم ممن أسسوا مدرسة أفروأمريكية في الغناء والألحان لها روادها وملامحها
ولغتها الغنائية يواصلون بحثهم عن الذات وقفزاتهم الثقافية المبهرة عبر ألحانهم
وإيقاعاتهم الكلاسيكية الممزوجة بالعراقة الأفريقية التي أبهرت المجتمع الأمريكي المختلف
عنهم والمعبأ بالنظرة السلبية للسود عرقاَ وثقافة
.
وبعد الحرب العالمية الثانية
وجد المجتمع الأفرو أمريكي منصات يستطيع من خلالها تعبير ثقافته ومشاعرة ومشاكلة وماضيه
الملئ بالعبودية والأضطهاد النفسي والجسدي وتطلعاته نحو الحرية والمستقبل، فأنشأوا
الفرق الموسيقية والأندية الثقافية، وبرعوا في الروايات والكتابة الأدبية، وفي هذه
الفترة تَشكّل معالم الفن الأسود الأمريكي المستقل الذي يحمل بصمات أفريقية عميقة
سواء كان الجاز أو الهيب هوب أو الفلكور والسينماء، ونال أول أفريو أمريكي جائزة
أوسكار، وتصدرت لمساتهم الثقافية والفنية على المشهد الثقافي المحلي
.
ومع مرور الوقت إختفت العبودية
رسميا رغم ترسبها في الإرث الثقافي والسلوكي الأمريكي، وتحسن وضع السود السياسي
والاجتماعي والاقتصادي عبر ثائرين قادوا الجموع وتمردوا عن الوضع المأزوم وبحثوا
عن ذواتهم في وسط الظلام وتركوا بصماتهم في أروقة الفن والسياسة والسينما، ومن
هؤلاء الفتي الراحل توباك شاكور الذي وقف ضد التمييز وناصر الضعفاء بألحانه وحبال
صوته الأسطوري