بعد اغتيال الرئيس
الصومالي الأسبق عبد الرشيد علي شرماركي، في مدينة لاسعانود الواقعة شمال البلد
علي يد أحد حراسه، دخل الوطن فراغا دستوريا مفاجئاً كاد أن يعصف ويهدم مؤسسات
الدولة الفتية، ويدخل الشعب الصومالي البدوي في متاهات العنف والحروب، وغياب
الدولة التي كانوا ينتظرونها بأحرّ من الجمر، منذ أن احتل المستعمر وطنهم وقسمه
إلى خمسة أجزاء دون مراعاة الخصوصية الثقافة والعرقية والدينية، والتطلعات
المشروعة للأمة التي كانت تنتظر التئام الجرح ولمّ الشمل تحت دولة صومالية حرة
مكتملة الأجزاء والطموحات.
رحيل رأس الهرم في دولة
ما زالت في طور البناء والتكوين، كانت فاجعة بكل المقاييس، فدعي إلى جلسة برلمانية
طارئة لبحث تداعيات اغتيال الرئيس. عقدت الجلسة واحتدم النقاش في داخل قبّة مجلس
الشعب الذي اختار رئيسه مختار محمد حسين رئيسا مؤقتا للبلاد، حاول البرلمان الوصول
إلى صيغة تفاهمية ورؤية مشتركة حول الرئيس الجديد الذي يخلف شرماركي، ولكن وبفعل
تباين الآراء وتقاطع المصالح، أصبح الحل صعب المنال في ظل انقسام حاد، وعدم إيجاد
مرشح توافقي للجهات المتصارعة سياسيا. توالت اللقاءات وطالت الجلسات
الفاشلة، وارتفع الصخب واللغط السياسي، ووصلت العملية السياسية إلى طريق
مسدود، وبعد انسداد الأفق وفشل السياسيين الانتهازيين في معظمهم، والأحزاب القبلية
الوصول إلى حل ناجع يقود الوطن إلى برّ الأمان، قامت مجموعة من الضباط بقيادة
الجنرال محمد سياد بري انقلابا عسكريا وصف بأنه كان أبيضا، لم يرق فيه قطرة من
الدم الصومالي.
في الصباح الباكر، وقبل
أن يبزغ فجر يوم الثلاثاء 21 أكتوبر عام 1969م، خرجت القوات المسلحة الصومالية من
الثكنات العسكرية والمقار الرسمية لها، وانتشرت في أنحاء مقديشو وسيطرت على
الأماكن الحيوية للدولة، مثل البرلمان، وراديو مقديشو، إضافة إلى المفاصل الرئيسة
للمدينة، وأعلنت ولادة الثورة الصومالية المجيدة حسب أدبيات العسكر، الذي جعل هذا
اليوم من أكثر الأيام احتفالا وتكريما، حيث فاقت وخطفت الأضواء عن المناسبات
الوطنية مثل 26 يونيو يوم استقلال شمال الصومال، والأول من يوليو حيث نال الجنوب
استقلاله، وفي نفس هذا اليوم أعلن توحيد الشطرين الجنوبي والشمالي تحت اسم جمهورية
الصومال.
لم يكن انقلابا عسكريا
صعبا ولم يواجه الجيش أية مقاومة تذكر، بل كانت الأمور أسهل بكثير مما في مخيلة
الجنود ومهندسي الانقلاب، حيث الخصم السياسي كان غارقا في الخلافات العبثية وأوحال
الفساد والإقصاء السياسي، مما جعلهم في أضعف حالاتهم، إضافة إلى سمعة الجيش
الصومالي التي مهدت له الطريق وجعلته بديلا مناسبا في عين الشعب، وبعد أن تم
الانقلاب وانقاد الجميع إلى الثورة الجديدة التي لامس خطابها الأول شغاف قلوب
المجتمع الظاميء إلى دولة حقيقية، عقد الضباط جلسة لاختيار الرئيس وقائد الثورة،
ورغم الانقلاب والديكتاتورية العسكرية، إلا أن قادة الانقلاب قاموا بعملية
ديمقراطية نزيهة، واختاروا اللواء محمد سياد بري ـ قائد القوات المسلحة الصومالية
ـ رئيسا للدولة ورئيسا للمجلس الأعلى للثورة.
وبعد الانتخابات الداخلية
فيما بينهم، أصدر المجلس الأعلى للثورة قرارات صارمة من بينها حل المحكمة العليا
والبرلمان وتعليق الدستور، وحظر التجمعات الحزبية والتكتلات السياسية، واعتقل كثير
من أعضاء الحكومة الديمقراطية، ووجهتِ الثورة الشعب نحو مشروعها القومي، وما أغرى
الشعب وضاعف تعلقه على الكيان الجديد هو العزف المقصود على الأوتار الحساسة، وبث
روح الحماسة عبر الأغاني الوطنية والأشعار التي تلهب الأحشاء وتثير في عمق النفس
شحنات من الوطنية، وتصورا لملامح الدولة الصومالية القادمة، خاصة وأن المجتمع كان
يعاني من ضياع الهوية وفقدان البوصلة، وضبابية في المستقبل، مما حول حياتهم إلى
مشاحنات حزبية ومهاترات سياسية، أو هرطقات قبلية بدل التنمية ورسم سياسة رشيدة.
لم تنتظر قادة الثورة
المساعدات الخارجية وكسب ودّ المجتمع الدولي، بل باشر المجلس الأعلى للثورة كل
الأعمال بجهود ذاتية، وقام بتوجيه الشعب نحو توحيد الوجدان، والاكتفاء والبناء
والتطور العمراني، والتعافي الاقتصادي، ومحو الأمية ومحاربة التمييز العنصري
والقبلي، فغرزت الثورة في قلوب المواطنين حب الوطن والتفاني من أجله، فبنى الشعب
عبر المشروع الشهير "اعتمد على نفسك" المشافي والشوارع والمصانع، وجعلت
التعليم مجانية من الأساس إلى المرحلة الجامعية، وأسست الثورة جيشا صوماليا قويا
يهابه الجميع، وارتفعت التطلعات ووصل منحنى الأحلام إلى أوج عزه، واعتمدت السياسة
الخارجية الجريئة، والاستقلالية والمشاركة الفعالة في الهئيات الأممية والمنظمات
القطرية، فبدلا من السياسة الإنطوائية والمشاحنات الداخلية التي كبلت قدرات
الحكومات المدنية السابقة، رفعت الثورة في بدايتها شعارات براقة مثل الإصلاح
الاقتصادي وصوملة المنشآت وتأميمها، والاستقلال الفعلي وحرية القرارات، والخطوات
الجادة نحو صومال جديد.