في ليلة ربيعية مقمرة وفي فناء
منزل مطل على المحيط كنت أستمتع صدى الأمواج وأنغام الطبيعة بعد منتصف الليل،
هاجني الجمال الناعس في أهداب المكان فعزفت أوتار الحنين وأعادني الشريط الساحلي لـ"كسمايو"
إلى القرون القديمة وحثني على تشريح جثَّة التاريخ مما جعلني أعيش بين مشهدين
متناقضين مشهد بعراقة الصومال وآخر ببؤسها الذي طال حتى كاد أن يطغى على ماضيها
وتاريخها.
الواقع المرير يعذبني بوخز
الكلمات وتأنيب الضمير فأغتال الألم بمزيد من جرعات الثقافة التليدة لأمتي، وأهرول
نحو مرافئ النسيان أتأمل بشرود لذيذ صفحة التاريخ وشفق المغيب وأشرعة السفن المتَّجهة
إلى صحراء الشمال وأدغال إفريقيا ومجاهيل آسياء في زمن الرحلات التاريخية عندما
كانت الطرقات القديمة ـــ وخاصة طرق الحرير والتوابل والبهارات ـــ ترسم السياسة
التجارية ومفهوم العلاقات الدولية والتحالفات المبنية على المصالح والتداخل الثقافي والإجتماعي والحضاري
والديني عبر هذه الطرق الممتدة من إفريقيا إلى الهند وآسيا الوسطى ومن الصين إلى
الجزر الأيبيرية عبر مصر والدول القديمة.
المشهد الأول
عبر المشهد الأول أطالع الأيام
المتألقات والحضارات القديمة لبلدي والأسماء العتيقة لبعض المدن وإن تدثرت بمرور
الأيام وضعف الأحفاد، حيث كانت المدن الصومالية القديمة المطلة على الساحل الغربي
للمحيط الهندي والبحر الأحمر مثل مقديشو (Mosylon) وزيلع (Avilietes) وكسمايو (Gondal)وبربرة
(Malao) وغيرهم من المدن الصومالية
الموضحة في الخرآئط القديمة للعالم تنبض بالقوة والحضارة وتساهم في التكامل
التجاري العالمي عبر موانئهم.
طال بي المشهد فعزفت طبول الدهشة
وأنا أغترف نهرًا من الإبتسامات العذبة تنساب من ثغر سمراء ذات عينين كحلاويتين
تسقى الحي وضفائرها تتدلى على ظهرها المكتنز، الحورية تجود نظرات صومالية باذخة
وترسل مشاعرها الحالمة إلى قلوب تتكسع على أرصفة الحب وتردد لأبيات بالغة التأثير
للفيلسوف الشاعر محمد الهَدْراوِي الذي مزج الأدب بالفلسفة وعجن الحكمة بالتجارب
حتى أصبح أيقونة الفن في الصومال وممن ساهم في إثراء المحتوى الأدبي للفن
الصومالي، الأبيات زاهية كورود بُرعُو، وعميقة كقصائد جِكْجِكَا، وعريقة كمنارات عَدن
وقلاع صنعاء وحوريات مأرب التي تذكر الشاعر فرحة طفولية منقوشة على جدران الموهبة
وطلاء الحياة في اليمن السعيد.
أتوغل في عمق المشهد فأتربع على
عرش ذاكرة المدن أو المسارح التي تشكل نبض الثقافة الحية، هنا تصدح أغاني أحمد
الناجي وهو يشدو ويقرع طبول الألحان وشذا حباله الصوتية تبث شجن مصبوغ بمشاعر
مثالية كفجر الربيع، الفنان الموهوب صاحب اللَّمسات الفنية الساحرة والرقم الصعب
في المسرح الغنائي الصومالي يتغزل للسمراء المطلة على المحيط الهندي
"مقديشو" ويتفنن في مدح ووصف العاصمة الصابرة الصامدة التي أبت
الإستسلام والخنوع، بل بعد كل دمار وعنف ومجازر ترفع ذؤابتيها من جديد وتبث في
نفسها عبر المباني العتيقة والمزارات الموغلة في سحيق الحضارة والمساجد روح التجلد.
أسرني الفنان بحبل صوته ونغمه
الشذي وقادتني وصف الثقافة الأصيلة إلى الموطن الأصلي لكل الصوماليين
"الريف" وأحاديث الرعاة وزغاريد الأعراس والأمسيات الصومالية الخانقة
بالبخور واللُّبان والشاي وتحكيم الناس وفق الوثيقة الصومالية القديمة "حِير"
التي بعد أن دخل الإسلام الصومال أصبحت تقنينا للشريعة في معظمها، والمجالس
البدائية التي تتحول إلى مؤتمرات حقيقية تحلل الخيارات وتضع القرارات وترسم
السياسات ويجتمع فيها أهل الحل والعقد وهم يفكرون ألف طريقة وطريقة من أجل الحروب
أو المصالحة أو الشعر أو نقل أخبار السيول والجفاف.
على كتف الجمال ولونه القرمزي
تعزف الشمس لحن الغروب وترتفع ثرثرة النسوان ومرح الأصدقاء على ضفاف الأدب
والأمثال، الكل يراعي النجوم ويستظل السماء ودولة القوافي. السماء تعزف لحن المطر
وتضوعَ الأريجُ عن أحراش خط الإستواء والقرى الناعسة على حضن نهر جُوبا السخي
بثروته الطبيعة وهديره في زمن الفياضانات، وفي عمق الجمال الشاعري تبدو الغابة
الإستوائية والحقول الممتدة بامتداد الموز على خارطة الوطن والقرود التي تتقاذف
على وقع موسيقى الطبيعة لوحة صومالية إستوائية بارزة المعالم.
في وسط السرحان الجمالي يأفل
القمر ويبدأ يراقب الكون عبر نافذة منزله، القمر يسامر وحيدًا ولا يحب الصخب الترحال عكس الصوماليين
هواة التنقل والسمر على أهداب الشعر والقصص والميثولوجيا والحضارة الصومالية التي
عمرها يزيد آلاف السنين حيث دلت الأحافير والأثريات قدم الحضارة في بلاد بونت
(الصومال) التي كوَّنت علاقة إستراتيجية وتبادل تجاري مع الحضارات القديمة
كالصينية والهندية، وإن وثقت الشواهد والخرائط القديمة وكتب الرحلات العلاقة
الضاربة في جذور التاريخ بين مملكة بونت والمصريين القدامى، وخاصة عهد ملكة
حتسبشوت الفرعون الخامس من الأسرة الثامنة عشرة حيث كانت الصومال تصدر إلى مصر القديمة الأبنوس والعاج والبخور
والأحجار الكريمة المستخدمة للتحنيط والزينة.
ومنذ أن استوطن الأجداد في القرن
الإفريقي مازال الصومالي الحامل جينات الشجاعة والحماسة والحس الفكاهي يتنقل عبر
الجغرافيا الصعبة ويقهر التضاريس وهو ينشد الماء والكلأ، ويخوض المعارك الساخنة
حفاظا على الشرف وذودا للدين وصونا للعرض أو قل إن شئت من أجل الدين، القبيلة، الموارد،
المرأة، الخيول، الجمال، وكان الأجداد يواصلون الكفاح ويقارعون أبواب الشعوب
القاطنة في المشرق الإفريقي بالإسلام وثقافة البداوة وتمجيد النسل الشريف على أساس
تحقير ثقافة التمدُّن، وجوههم كانت غارقة بالسمرة والعبادة وكانوا يبيتون وهم اتخذوا
من السيوف مأوى والتجلد مطعما.