الثلاثاء، 20 سبتمبر 2016

الصومال..بين مشهدين


في ليلة ربيعية مقمرة وفي فناء منزل مطل على المحيط كنت أستمتع صدى الأمواج وأنغام الطبيعة بعد منتصف الليل، هاجني الجمال الناعس في أهداب المكان فعزفت أوتار الحنين وأعادني الشريط الساحلي لـ"كسمايو" إلى القرون القديمة وحثني على تشريح جثَّة التاريخ مما جعلني أعيش بين مشهدين متناقضين مشهد بعراقة الصومال وآخر ببؤسها الذي طال حتى كاد أن يطغى على ماضيها وتاريخها.
الواقع المرير يعذبني بوخز الكلمات وتأنيب الضمير فأغتال الألم بمزيد من جرعات الثقافة التليدة لأمتي، وأهرول نحو مرافئ النسيان أتأمل بشرود لذيذ صفحة التاريخ وشفق المغيب وأشرعة السفن المتَّجهة إلى صحراء الشمال وأدغال إفريقيا ومجاهيل آسياء في زمن الرحلات التاريخية عندما كانت الطرقات القديمة ـــ وخاصة طرق الحرير والتوابل والبهارات ـــ ترسم السياسة التجارية ومفهوم العلاقات الدولية والتحالفات المبنية على المصالح والتداخل الثقافي والإجتماعي والحضاري والديني عبر هذه الطرق الممتدة من إفريقيا إلى الهند وآسيا الوسطى ومن الصين إلى الجزر الأيبيرية عبر مصر  والدول القديمة.
المشهد الأول
عبر المشهد الأول أطالع الأيام المتألقات والحضارات القديمة لبلدي والأسماء العتيقة لبعض المدن وإن تدثرت بمرور الأيام وضعف الأحفاد، حيث كانت المدن الصومالية القديمة المطلة على الساحل الغربي للمحيط الهندي والبحر الأحمر مثل مقديشو (Mosylon) وزيلع (Avilietes) وكسمايو  (Gondal)وبربرة (Malao) وغيرهم من المدن الصومالية الموضحة في الخرآئط القديمة للعالم تنبض بالقوة والحضارة وتساهم في التكامل التجاري العالمي عبر موانئهم.
طال بي المشهد فعزفت طبول الدهشة وأنا أغترف نهرًا من الإبتسامات العذبة تنساب من ثغر سمراء ذات عينين كحلاويتين تسقى الحي وضفائرها تتدلى على ظهرها المكتنز، الحورية تجود نظرات صومالية باذخة وترسل مشاعرها الحالمة إلى قلوب تتكسع على أرصفة الحب وتردد لأبيات بالغة التأثير للفيلسوف الشاعر محمد الهَدْراوِي الذي مزج الأدب بالفلسفة وعجن الحكمة بالتجارب حتى أصبح أيقونة الفن في الصومال وممن ساهم في إثراء المحتوى الأدبي للفن الصومالي، الأبيات زاهية كورود بُرعُو، وعميقة كقصائد جِكْجِكَا، وعريقة كمنارات عَدن وقلاع صنعاء وحوريات مأرب التي تذكر الشاعر فرحة طفولية منقوشة على جدران الموهبة وطلاء الحياة في اليمن السعيد.
أتوغل في عمق المشهد فأتربع على عرش ذاكرة المدن أو المسارح التي تشكل نبض الثقافة الحية، هنا تصدح أغاني أحمد الناجي وهو يشدو ويقرع طبول الألحان وشذا حباله الصوتية تبث شجن مصبوغ بمشاعر مثالية كفجر الربيع، الفنان الموهوب صاحب اللَّمسات الفنية الساحرة والرقم الصعب في المسرح الغنائي الصومالي يتغزل للسمراء المطلة على المحيط الهندي "مقديشو" ويتفنن في مدح ووصف العاصمة الصابرة الصامدة التي أبت الإستسلام والخنوع، بل بعد كل دمار وعنف ومجازر ترفع ذؤابتيها من جديد وتبث في نفسها عبر المباني العتيقة والمزارات الموغلة في سحيق الحضارة والمساجد روح التجلد.
أسرني الفنان بحبل صوته ونغمه الشذي وقادتني وصف الثقافة الأصيلة إلى الموطن الأصلي لكل الصوماليين "الريف" وأحاديث الرعاة وزغاريد الأعراس والأمسيات الصومالية الخانقة بالبخور واللُّبان والشاي وتحكيم الناس وفق الوثيقة الصومالية القديمة "حِير" التي بعد أن دخل الإسلام الصومال أصبحت تقنينا للشريعة في معظمها، والمجالس البدائية التي تتحول إلى مؤتمرات حقيقية تحلل الخيارات وتضع القرارات وترسم السياسات ويجتمع فيها أهل الحل والعقد وهم يفكرون ألف طريقة وطريقة من أجل الحروب أو المصالحة أو الشعر أو نقل أخبار السيول والجفاف.
على كتف الجمال ولونه القرمزي تعزف الشمس لحن الغروب وترتفع ثرثرة النسوان ومرح الأصدقاء على ضفاف الأدب والأمثال، الكل يراعي النجوم ويستظل السماء ودولة القوافي. السماء تعزف لحن المطر وتضوعَ الأريجُ عن أحراش خط الإستواء والقرى الناعسة على حضن نهر جُوبا السخي بثروته الطبيعة وهديره في زمن الفياضانات، وفي عمق الجمال الشاعري تبدو الغابة الإستوائية والحقول الممتدة بامتداد الموز على خارطة الوطن والقرود التي تتقاذف على وقع موسيقى الطبيعة لوحة صومالية إستوائية بارزة المعالم.
في وسط السرحان الجمالي يأفل القمر ويبدأ يراقب الكون عبر نافذة منزله، القمر يسامر  وحيدًا ولا يحب الصخب الترحال عكس الصوماليين هواة التنقل والسمر على أهداب الشعر والقصص والميثولوجيا والحضارة الصومالية التي عمرها يزيد آلاف السنين حيث دلت الأحافير والأثريات قدم الحضارة في بلاد بونت (الصومال) التي كوَّنت علاقة إستراتيجية وتبادل تجاري مع الحضارات القديمة كالصينية والهندية، وإن وثقت الشواهد والخرائط القديمة وكتب الرحلات العلاقة الضاربة في جذور التاريخ بين مملكة بونت والمصريين القدامى، وخاصة عهد ملكة حتسبشوت الفرعون الخامس من الأسرة الثامنة عشرة حيث كانت الصومال تصدر  إلى مصر القديمة الأبنوس والعاج والبخور والأحجار الكريمة المستخدمة للتحنيط والزينة.
ومنذ أن استوطن الأجداد في القرن الإفريقي مازال الصومالي الحامل جينات الشجاعة والحماسة والحس الفكاهي يتنقل عبر الجغرافيا الصعبة ويقهر التضاريس وهو ينشد الماء والكلأ، ويخوض المعارك الساخنة حفاظا على الشرف وذودا للدين وصونا للعرض أو قل إن شئت من أجل الدين، القبيلة، الموارد، المرأة، الخيول، الجمال، وكان الأجداد يواصلون الكفاح ويقارعون أبواب الشعوب القاطنة في المشرق الإفريقي بالإسلام وثقافة البداوة وتمجيد النسل الشريف على أساس تحقير ثقافة التمدُّن، وجوههم كانت غارقة بالسمرة والعبادة وكانوا يبيتون وهم اتخذوا من السيوف مأوى والتجلد مطعما.

الخميس، 8 سبتمبر 2016

الحنين... إلى زمن الديكتاتورية


عاش الشعب الصومالي تحت جزمة العسكر وسوطهم ما يربو على 21 عاما كانت المصادرة والرأي الواحد يسيطران على الحياة العامة والخاصة، ورغم أن الصومال في تلك الحقبة كانت تعيش في أزهى عصورها قوة واقتصادا وكرامة، إلا أنها كانت قوى هشة ولاتعتمد على أسس متينة، والشعب كان في معظمه يعاني أزمة من نوع آخر وهي أزمة الحرية وعدم المشاركة الفعالة لرسم مسار الوطن والتعبير عن الرأي والتعددية السياسية، حيث كان المجتمع يعيش تحت رهبة الخوف والمشانق، ولا يستطيع أن يمارس أبسط أنواع الحقوق والحريات إلا في ظل الهامش الضئيل المسموح له من قبل أجهزة الدولة، بل كان ـ كعادة الجيش ـ مزاج الجنود وتصورات القادة هو الذي يقود الجميع عبر إثارة ثورية ملئية بالخطب الحماسية والتصريحات النارية والعزف المقصود على وتر المشاعر لشعب مرهف الإحساس مما جعل الشعب قنبلة موقوتة شديدة الإنفجار قد تنفجر في كل لحظة.

ورغم رهيبة الدولة والحكم البوليسي والقبضة الحديدية والسياسة العنيفة المتبعة لديها لم تستطع دولة العسكر أن تصمد أمام الواقع المأزوم وضربات الحركات المسلحة والقبائل التي كانت مدعومة من قبل الدول المجاورة التي كانت تخاف من دولة صومالية قوية تعيد الأراضي الصومالية المفقودة إلى حضن الوطن. وبعد عقدين من الإستبداد العسكري الذي قاد الجموع المسلمة نحو النظريات الغربية ومبادئ الشيوعية والتبني الساذج لآراء الإشتراكية زادت المعاناة ووصل الكبت وكتم الأنفاس وحرمان الرأي الآخر والإعتقال السياسي والسجن التعسفي إلى أعلى مستوياته مما أثار الرأي العام المحلي وعجل في انهيار الحكومة المركزية العسكرية على وقع المدافع المصحوبة بزغاريد القبائل أو على الأقل وسط حالة من الإرتياح والمباركة على إسقاط النظام العسكري.

ولكن عندما ذهبت السكرة وبقيت الحسرة والحقيقة المؤلمة أيقن الشعب الصومالي بشتى قبائله وكياناته الجهوية وأحزابه المناطقية وحركاته التي كانت تديرها دول معادية للقومية الصومالية أن الواقع المؤلم والتبعثر الجغرافي أعنف من الإضطهاد الذي كان العسكر يمارسونه ضدهم، وبدأ الشعب يسكب دموع الندم ويقرع أجراس الحنين إلى زمن الديكتاتورية العسكرية التي وإن كانت متسلطة إلا أنها كانت تراعي المصلحة العامة وتحفظ الحدود وتصون الكرامة الصومالية أمام القوى الخارجية والعدو التقليدي الذي كان ومايزال يريد إبتلاع الصومال.

الجبهات الذين سيطروا على مقاليد الحكم بعد أن هرب قائد ثورة أكتوبر ورئيس الصومال محمد سياد بري إلى منفاه الإجباري (نيجيريا) لم تكن بديلا مناسبا أبدا، ولم تكن تهدف إلى حكم الصومال وقيادة دولة ـ ورغم ترنحها أم ضربات المتمردين ـ كانت مؤثرة في محيطها الافريقي والعربي، بل كانت الجبهات المسلحة والقبائل المعارضه تحركهم دوافع الإنتقام وشهوة السلطة وشبق المال العام والسيطرة المطلقة على مقاليد الأمور دون أن تؤدي هذه العوامل إلى ملء فمهم أو إلى فكر سياسي ناضج وقيادة سفينة الصومال نحو الدولة الآمنة والرفاهية الإقتصادية والإستقرار السياسي ونحو التطلع إلى التقدم والإزدهار.

كان همّ سماسرة الدماء وقادة العنف والكراهية نهب الثروات وطمس معالم الوطن وتمزيق الجغرافيا وبصق وجه التاريخ والهروب الجماعي من المسؤولية والتسول على أعتاب الذل والمهانة واغتيال الآمال في رحم الغيب وتخدير العقول باسم القبيلة تارة والمال الفاسد تارة أخرى.

وفي فترة وجيزة بعد سقوط الحكومة العسكرية تقاتلت الجبهات على أنقاض الوطن وبدأت موجة عارمة من الإنتقام والتصفية وعمت الحروب الصومال وغرقت الموجات التشريدية دول الجوار، بل وصلت إلى أبعد القارات وأقصى الحدود وأصبح الإنسان الصومالي ذليلا خائفا فقيرا لايجد دولة تحميه ولانظام يذود عن عرضه وأصبحت البلاد مستباحة، الحدود مفتوحة لقوى الشر وما هب ودب، ونشطت المخابرات الدولية في المسرح الصومالي الذي تحوّل إلى حلبة صراع مشكوفة ومسكت الدول المجاورة التي كان الصوماليون خاضوا معهم حروبا وموجات من الكفاح زمام المبادرة.

ودخلت الأمة الصومالية منحدرا خطيرا نحو الهاوية ومستنقعات الحروب الأهلية الطاحنة، وتفرق الناس وتقاتلت الجموع وسالت الدماء على الطرقات وفي البيوت وعلى صفحة الوطن، وهاج الناس وماجوا ودخلوا في سراديب القتل وهربوا عن تربة البلد إلى صقيع الغرب وصحراء الشرق ومتاهات الغربة القاتلة.

هرج ومرج وجنون نحو لعق الدم ومصه،! القاتل لا يدري لماذا يقتل أخاه، والقتيل لا يعرف بم قتل،! إستبحيت الحرمات واختفى الوازع ولوثت المليشيات المسلحة شرف الأمة وعزة القومية الصومالية التي كانت بالأمس القريب من أقوى الشعوب التي تقطن في القارة السمراء ودولة يحسب لها ألف حساب.

وقعت مآسي ومحن يشيب لهولها مفارق الولدان، أسَر بكاملها التهمتها المدافع ونهشتها الصواريخ، ومدارس هدمت على روؤس الطلاب، ومساجد أصبحت ضحية للخراب، وأسواقا أحرقت ونهبت، ومات في جوف اللهب والألسنة المتصاعدة مئآت من المواطنين الذين لا ذنب لهم سوى أن القدر حشرهم إلى هذا النقطة والسوق المنكوب الذي لم ينج من رواده إلا النزر القليل.

وفي خضم عنفوان السباق نحو الدمار والدموع بدأ مسلسل نقض غزل الكرامة وواصل الصوماليون الدوران في المربع العبثي وبحماسة منقطعة النظير، طال الزمن وتخطينا كل الحواجز نحو إراقة الدماء والتغريد خارج السرب الدولي والخنوع نحو المجاعة والقرصنة وأصبحت "صوملة" تعني الفقر والإرهاب والفساد وأمراء الحرب وتجار المعاناة وحفاري القبور.

تباعد الشعب كالجزر ونتج عن القتال والمعارك الداخلية التي لا يهدأ أوارها ملايين القتلى والمشردين، وآلاف الحكاوي المؤلمة والقصص الرهيبة التي تؤرخ وحشية وإنسلاخ تام من الآدمية، وطوابير طويلة أمام هئيات الإغاثة والمنظمات العالمية لعلها يجد المرأ ما يسد رمقه وما يقتات به ولو كانت ممزوجة بالذل والهوان تارة وبتغيير المعتقدات ودس سم التنصير وعلقم التبشير تارة أخرى.

بلغ السيل الزبى ولم يحتمل الشعب الذي أصبح واعيا لما يدور حوله ما يجري في الوطن فكوّن ـ في لحظة من الإفاقة النادرة ـ أفرادا مسلحة تحولت فيما بعد إلى حركات إسلامية يجمعها التوجه الإسلامي والتصورات الأيديولوجية، ولأول مرة خاض الشعب الصومالي وبقيادة إسلامية أصبحت في الصدارة ـ في سابقة أولى من نوعها ـ حربا مريرا ضد اثرياء الحرب ومافيا الصراعات، في بداية المعارك الفاصلة في شوارع وأحياء مقديشو لم يكن في بال العالم وحتى في خاطر الشعب الثائر أن ينهزم أمراء الحرب بهذه السرعة القياسية أمام شعب كبلته الحروب وقسمته القبلية والسياسية، ولكن:

Buugga "Geylame"

Maalin dhoweyd ayuu macallin Hassan Mohamud iisoo hadiyeeyay buuggiisa ugu danbeeyay ee Geylame, aniguna xil baan iska saaray inaan ugu mah...