الخميس، 24 ديسمبر 2015

حلم على أعتاب "الصومال الكبير" (3-3)


مآسي الغربة في داخل الوطن التأريخي لأجدادي لا تنتهي أبدا، وكلما أتذكر ساعات النهار الذابلة في تلك الأمسية من الصيف قبل الماضي تزداد مقتي للمحتل البغيض الذي جعل حياتنا صعبة وشاقة، وحوَّل رقعة أرضنا المترامية إلى كانتونات صغيرة متناحرة، ودويلات ضعيفة متصارعة تستقوي بالخارج، لقد حول الإستعمار نعمة الأرض إلى نقمة مرسومة على جبين كل صومالي يتنفس وتجري في عروقه دم ينبض بالعزة والكرامة وعدم نسيان الماضي.

كنت في مطار مدية عشقت إسمها منذ أن كنت في زمن الصبا وأيام المدرسة، حبها كان طيفا يسرى في داخلي وصدى ذكرها كان يتردد في قلبي منذ أن سمعت إسمها عن جدتي التي عاشت في ريعان شبابها في أحياء تلك المدينة الآسرة بجمالها الطبيعي وكاريزميتها الخاص ومكانتها المرموقة عند كل صومالي، بمرور الزمان وبروز إسمها في الساحة الصومالية أصبح إسمها اللامع يجذب الوجدان ويتداول بين الشعراء والأدباء والمناضلين وأعمدة التجارة في القطر الصومالي.

وصلت مطار المدينة وأنا أعزف أوتار المحبة وألحان الشوق، ولكن صُدمتُ عندما طلب مني موظف الجوازات، الجواز والتأشيرة كأني أجنبي جئت من أوراسيا أو قارة بعيدة كأقيانوسيا مثلاً في رحلة إستغرقت 20ساعة كاملة، قلت لمدير مكتب الجوازات في المطار: أنا جئت من مدينتي إلى مدينتي، وحسب علمي الرحلات الداخلية لا تتطلب جوازا ولا تأشيرة، وأنا أعتقد أنني مواطن وليست المدينة غريبة عني.

غضب المدير واكفهر وجهه وأحمرت وجنتاه وأخذ كلامي إلى الإحتمالات الخاطئة كعادة من يحملون عقولا فارغة ويصنعون من الحبة قبة، فقال وقد إنتفخت أوداجه بطريقة فيها كثير من الإستعلاء والسخافة: كلامك مستفز وأنت أجنبي جاء من دولة أجنبية، وإن كانت دولة مجاورة جغرافيا ووجدانيا عند بعض البشر فهي بعيدة عنا سياسيا،! قلت: أي دولة تتحدث؟ فقال أنت جئيت من الصومال؟ والصومال هي أبعد دولة مجاورة من حيث التعامل والتبادل التجاري؟ فقلت مستغربا: أعتقد أنك تتحدث عن شخص آخر ولا تقصد شخصيتي الجالسة أمامك بسمرتها وشحمها ولحمها.!  ماذا تتحدث ومن أين تأتي الغربة وأنا أول ما أصل إلى المدينة سأكون من بين سكانها وأختلط في أهلها ولا أشعر أي تمييز سواء كان دينيا أو لغويا أو روابط الدم والنسب، إذاً على أي أساس أكون أجنبيا؟.

كانت قصة مؤلمة جدا أن أشعر الغربة في أقرب مدينة إلى قلبي، أما عاصمة أخذتْ شكلا فرنكفونيا تقع في أقصى الشمال لوطني الكبير ورغم أني مكثت فيها عدة ساعات إلا أنها هي الأخرى كانت طاردة لكل الروابط التي نتحدث عنها كصوماليين في المناسبات، كان المواطنون الأروبيون وحتى الأجانب من الإفريقيين  يتمعتعون بمعاملة أحسن وأفضل مما كنت أجده أنا الصومالي الذي أتواصل مع الجميع لغتنا المشتركة، ورغم أنني أتفهم المخاوف التي ذكرها عمال المطار إلا أن التمييز أو النظرة الغير جيدة لكل ما هو صومالي كانت مؤلمة للغاية.

يطول التفكير ومعه يطول الليل والمأساة التي جعلت أمتي الصومالية أمة نصفها يعاني من التشريد والهجرات القسرية والموت في الغربة، والنصف الآخر يعاني من الموت الجماعي، والمجاعة، وهدر الكرامة، ومصادرة الحقوق والحريات في ظل دولة ضعيفة يقودها السراق ومافيا الحروب، ونظام فاسد لم يتركنا سوى الوعود الكاذبة والفقر المدقع والفساد المستشري في كافة أجهزة الدولة ومؤسسات الوطن.

في خبايا الماضي الفحيم تؤلمني الخلجات التي تنساب من نهر الضمير الملتهب فأتهرب إلى المسكنات الآنية، ومن وجع الحنين أسامر مع ملامح وأحلام طواها النسيان، وأصغوا عبر تليفوني المحمول إذاعة محلية تذيع أغاني وطنية للفرقة الموسيقة الصومالية وابَرِي (الشروق) كلمات تحمل بصمات الشعراء الكبار وأيقونة الشعر التحرري وأدبيات النضال في الصومال الكبير...

Waxay boqonta goysaa bahda wada jirkeedaa
Alla colaadi ba,anaa, ba,naa, alla colaadi ba,anaa
Badbaadiyo nabad ummadii kubaydaa
Bilic iyo ayaan lee bilic iyo ayaan lee

كلمات تحرك المشاعر وألحان راسخة في الوجدان الصومالي وصوت متفرد رسخ الجمال في الذاكرة الحية للأمة الصومالية عبر العصور من زمن القوة والزعامة إلى عصر الإنحطاط والإنهيار الأخلاقي، كم كانت الأغاني الصومالية الكلاسيكية لذيذة ومترعة بالمشاعر الوطنية الخالدة، وكم كان شعبي كبيرا في الأدب وفي الطرب وفي الرقصات الشعبية والألعاب الفلكورية ودولة القوافي، كما كان كبيرا في الفنون والحروب وحمل لواء الزعامة في منطقته التي تفور وتثور بالصراعات والحروب منذ القدم.

الاثنين، 14 ديسمبر 2015

حلم على أعتاب "الصومال الكبير" (2-3)

ذهب المجد وتوالت الأيام السوداء المتشابهة، و في عز مأساتنا وفي حقبة الزمن الظآمئ إلى الكرامة المفقودة، وإعادة المياه إلى مجاريها، وإستعادة الماضي لم نجد ما نتحدث عنه سوى التراجيديا والحنين إلى الماضي الفخيم " النوستالجيا"، وعندما إلتحم الأمل المنشود بالألم الذي نعاني منه حاولنا أن نحلم من جديد، أن نحلم  ونحن نغرد خارج السرب العالمي، أن نحلم ونحن لم نتمرس بعد أساليب القوة والدفاع وبناء القواعد الصلبة للنجاحات العسكرية والإستعدادات اللازمة للمعارك العنيفة التي ترسم مستقبل الأمم وتمهد لصعود أو هبوط القوى، أردنا أن نحلم ونحن في طور البناء والتشييد ففجرنا عصرا جديدا من النضال والكفاح المسلح، وكتبنا صفحة جديدة من المقاومة الشريفة والصراع مع أخطار الواقع الجديد الذي فرض علينا، ولكن ـ ومع الأسف ـ لم تتجاوز أحلامنا على عتبات لساننا وفوهة بندقيتنا البدآئية، وفي صدى أصواتنا المبحوحة، وفي طيات قصائدنا الملتهبة، وأشعارنا الثورية المؤلمة التي ترددها الحناجر الثائرة والمشاعر الجياشة في الميادين الصومالية المشبعة بالوطنية والتضحية.

لم نكترث تحذيرات القوى الخارجية، ومناشدات التكتلات السياسية، وصيحات الأحلاف القديمة للدول المجاورة التي نريد أن نشن عليها حربا ضروسا، والدول المجاورة  ( دول مسيحية تحارب من أجل إنتشار مبادئ النصرانية وتسعى للسيطرة على المنطقة وتحويلها إلى منطقة مسيحية بإمتياز، أو جعل المسيحية دين الغالبية العظمي من سكان القرن الإفريقي.)، ولم نعر إهتماما الضعف الواضح وقلة التجربة والمعين، ولم نجد من يقف إلى جانبنا بإعتبارات نعرفها جميعا، وبعد أن دخلنا غمار الحروب وأنتصرت إرادة الشعب الصومالي المناضل على غرور المحتل وكسرنا أرنبة أنفه في سابقة كانت الأولى من نوعها في إفريقيا، التي كان الجيش الإثيوبي يصول ويجول في ربوعها بعدما أطلق على نفسه بــ "أسد إفريقيا"، إستنجد العدوّ كالعادة أشقاءه في الدين والفكر أمثال كوبا والإتحاد السوفيتي وبعض الدول العربية كليبيا واليمن الجنوبي، ولا غرو فالتدخل المسيحي على المنطقة ليس جديدا، بل في زمن المجاهد الكبير أحمد جري إستنجد أباطرة الأحباش بقيادة ملكة هيلين مملكة بالبرتغال المسيحية بقيادة ملك مانويل.
وبسبب القوى الخارجية التي أثرت مجريات الحروب وحولت النصر إلى هزائم والنجاحات العسكرية إلى إخفاقات تغيرت مجريات الواقع، ووجدت إثيوبيا المحبطة إنتعاشا عسكريا وروحا جديدة تدب في أوصالها، فحدث مالم يكن في الحسبان الصومالي حكومة وشعبا، دول التحالف تمنح مهلة قصيرة للجيش الصومالي وتجبره على الإنسحاب، قصف مروع بقيادة الإتحاد السوفيتي للشعب وللجيش في الخطوط الأمامية، وهزيمة مدوية اتبعها إنسحاب عسكري غير منظم، وصرخات غير هادئة تصدح من هنا وهناك، وفلول الجيش المهزوم تسابق الريح، والأجساد المنهكة تنهشها الذئاب في الطرقات، وأمواجا من النازحين يهربون نحو الصومال، وخيرا إنهيار الدولة الصومالية وتلاشي النور القميئ الذي كان يبعث من نهاية النفق المظلم.

وبعد بداية الحروب الأهلية و إنهيار المظلة الكبيرة التي كان الشعب الصومالي يستظلها، وبعد تلاشي بصيص الأمال الذي كان يلوح في الأفق وإطفاء آخر جمرة من جمرات الندية والجدية في إعادة الأقاليم الغائية بدأت تتهاوى الأمنيات في قلب كل من يحمل هم الصومال الكبير نحو سحيق التلاشي، وأغتالت الأيادي القوية والأطماع الخارجية والضعف الداخلي  مطالب الشعب قبل أن تكتمل أركانها، وتحطمت الرغبات الحقيقة على جدار الواقع المكبل.

دخل الوطن متاهة سياسية وأخلاقية، وتخبط الجميع في عقر التيه، وطرأ على الحياة الصومالية أفعالا جديدة، وتفكيرا سلبيا تجاه الدين والدولة والحياة والوجود، وسيطر العنف والعنف المضاد و القبلية والجهل مفاصل الحياة وربوع الوطن، وجعلت الأفعال القبيحة والتصرفات العنجهية حياة الشعب جحيما لا يطاق. عصر من الفوضى والقسوة والإهمال، حياة قاتمة داكنة بلا بريق، ومستقبلا يركب في كف عفريت، ووطنا ينزف دما ودمارا، ومشاعرا تنتحر على أعتاب المعاناة والحرمان، وقصص المشردين واللآجئين والكادحين، وحكايات المنافي والمهجر ،وأحاديث الغرباء تنساب عن كل شبر وزاية، بل في كل ذرة من تراب العمورة، إضافة إلى كون أمتي أصبحت مثالا لكل ماهو قبيح، "الحروب والكوارث الطبيعة والصراعات العبثية والمجاعة والتزييف والهجرات كلها تعني  الصومال، وكلنا نعرف معنى ودلالات كلمة "الصوملة" .

توغلنا في الحروب ومص الدم ولعقه، وفي الممرات المعتمة من بلدنا تتصارع الميول، وتتصادم الإرادات، وتتقاطع المصالح في السياسة والإقتصاد والرغبات، وحول السلطة والثروة وسيطرة مفاصل الحياة ، وفي مثل هذه الأجواء القاتمة الحزن يستوطن القلوب ويترك بصماته المحبطة على النفوس، والآهات ترتفع بشكل دراماتيكي مخيف، والهروب إلى الحاضر الأكثر إيلاما من المستقبل يكون تنويما مغناطيسيا لا أكثر.

والتأملات الكثيرة للإيقاعات التأريخية والطبيعة والجغرافيا ومسيرة الماضي للحياة الصومالية لا تضفي للمشهد أية نكهة أو تفسيرا مقنعا للأحداث المتلاحقة والتطورات المتسارعة، والشخص الذي يحاول أن يحلل مالذي جعل الأمة الصومالية منكوبة وتآئهة؟ ومالذي سلك الأمة طريقا يدمي القلب وينهك العقل ويضعف القوة والإرادة؟ لا يصل إلى إجابة مقنعة،  بل يصل إلى طريق مسدود، وكل أسئلة تتفرع عنها عشرات الإستفهامات التي لا نملك لها إجابات.

سئمت الإستفهامات المتشعبة وعن الرحيل وكثرة التنقلات التي أتعبت جسدي وأرهقت نفسي التواقة إلى الإستراحة ولو لحظات عابرة على حياة عنوانها الترحال والمبيت في أدغال العالم وأحراشه، ولكن هاجمتني زرآئب من الذكريات القادمة صوب الأرياف والمدن والقرى والمستنقعات،  وبعض الذكريات تبقى عالقة على الأذهان وتبعث فينا الأتراح فتحول سكون الليالي إلى صخب، وعندما أتذكر تفاصيل ذاك اليوم الحار الذي توجهت إلى مدينة عريقة من مدن وطني الضائعة على الضفة الأخرى للحدود التي نسميه نحن خطا ًوهمياً لا أكثر ويسمونه خطا فاصلا بين دولتين وحدودا حقيقية، تعانقني سحابة من الكآبة وأشعر هزة قوية تصل إلى ملايين الدرجات بمقياس المشاعر والأحاسيس.

كنت غريبا في عقر بلدي أتذوق مرارة الحرمان والكآبة التي تكاد تقتلني في عز الليل وأنا أمشي هائما في الأزقات الحجرية المنقوشة بأسماء التراث والثقافة الصومالية التليدة، هنا يفوح عبير صومالي السمات قمحيّ الملامح، وهنا منابر تبكي ومآذن تحن، وزوايا تشتاق إلى أذكار الصوفية وترانيم العاشقين، وقلاع تذرف الدموع من أجل الأيام المتألقات، وهنا وضع مزري للماضي، وكيان قديم متصدع  تنطبق عليه كل صفات السخرية والإزدراء.

على متن طآئرة تخترق السحب وتطوي الأرض طويا كنت أتجه صوب مدينة تتعالي أبنيتها الترابية بين التلال والجبال، وتقع الطرف الجنوبي لشبه صحراء وطني التأريخي، إنتابتني قشعريرة تأتي من عمق التأريخ والتفكك الأرضي الذي أصاب أمتي إبان الفترة الكولونيالية التي قطعت وصال الوطن ومزقت شمل الشعب، تنهال علىّ التساؤلات وتهاجمني الهموم والإستفهامات التي لا أجد لها إجابة واضحة رغم مرور أكثر من نصف قرن منذ أن منح الإستعمار أجزاء بلدي إلى دول لم تجمعنا يوما أية روابط سواء كانت تأريخية، أو تراثية، أو دينية، أو لغوية، أو عرقية، أو حتى وجدانية !.

هبطت الطآئرة على مدرج المطار أو بالأحرى على مدرج فؤادي السارح بالأعشاب الصغيرة والأصوات الموسيقية للأغصان المتدلية عن الأشجار، نزلت من الطآئرة ونزلت معي الأحاسيس المدفونة في داخلي والذكريات القديمة والخواطر الملهبة، عَلَم مزركش بألوان متنوعة يرفرف فوق الجميع، ولغة إفريقية يتكلمها الجميع لم تكن تشبه لغتي ولم تكن مفهومة بالنسبة إلى بدوي صومالي لا يتقن لغة غير لغته الصومالية، إستنشقت هواء طلقا وعانقت الفضاء المفتوح إلى الجروح الزمنية العميقة، في هذه المدينة كل ما تبقى من إرث الماضي وتأريخ الأجداد هو اللغة الصومالية الجميلة، والهواء العذب، والفضاء الرحب، والسحنات المتشابهة بين  الموظفة الحكومية في هذا المطار وبين بائعات الشاي في سوق بَكاْرو، وسمرة قمحية تزينها الحجاب لصاحبة دكان كانت تجلس بهدوء عند الطرف الجنوبي لمدخل صالة الإنتظار.

الاثنين، 7 ديسمبر 2015

حلم على أعتاب "الصومال الكبير" (1-3)

في الماضي كان الحنين الدآئم إلى الأوطان والتغني بأمجاده ومآثره من سمات المغتربين الذين طوحهم الزمن إلى بلاد بعيدة يتكاثر فيها أوجاع الغربة، وألم المهجر، وزرآئب الذكريات الصاعدة في الأمسيات المبللة بالشوق والحنين، والسعادة الكامنة في الخيال المجسد في صورة وطن أحببناه رغم صعوبة الحياة وشظفها، أما اليوم فنحن نمارس الحنين ونتجرع كوؤس الشجن ونحن في عقر دارنا ومرابع أهلنا،  ويذيبنا الشوق ويقطع التحسر أكبادنا وتدب المعاناة في أجساد أحلامنا ونحن في عقر أوطان كانت بالأمس القريب ملكا لنا نترنم بحبها، وننظم القصائد لجمالها، ونضحي من أجلها المهج والأرواح، وقد آلت اليوم سياسيا إلى غير سكانها الأصليين، وأصبحتْ في أيدي الغريب رغم أننا مازلنا نعيش فوق تربتها نرعي الإبل، ونسرح الأبقار، وننظم الأشعار، ونمارس الحياة، ونطلق قهقهات مسائية موغلة في وجنات الصومالي الأصيل رغم القهر والمحن التي تثير في النفس كوامن التأوّه والحسرة الأبدية.

كنت أعتقد في صغري وأنا أختلس السمع وأصغى مساء إلى أحاديث الجدّات الطاعنات، وهمسات الشيوخ، وثرثرة النسوان، وسرديات الخالات في فناء بيتنا المتكيء على أهداب نهر شبيللي الخالد أن بلدي يمتد من تخوم مدينة مِينْجي في بلاد مُكامبا (Mukamba)وتحديدا يبدأ جنوبا من مدينة أُوكَاسِي الواقعة بين الجبال الإلتوايئة والغابات الشبه الصحرواية والمستنقعات المجاورة لنهر تانا، ليمتد شمالا حتي يصل إلى صحراء أبُخ، ومن رمال المحيط شرقا إلى هضاب الحبشة غربا مرورا بالمدن التأريخية التي سجلنا على جدرانها وأزقاتها وشوارعها أجمل القصص وأروع البطولات وأعذب الألحان.

وعندما كبرت وواجهت الحقيقة وأنتهت البرآءة والبهجة الطفولية على أعتاب الأحلام الأرجوانية، والتنقل هربا من لدغات الموت في مدن الحروب والأطلال والدمار، وأصوات الرصاص، وزخات المدافع، والهجرات الداخلية التي لا تنتهي، كانت الصدمة أن بلادي لا تتجاوز ثلث ما كنت أحلم به، وأن الثلث نفسه في طريقه إلى التلاشي والإبتعاد والإنفصال!، أحلامي تلاشت على وقع العنف والكيد السياسي والنفاق الإداري والتحلل الأخلاقي، وأصبح وطني الكبير ما بين أقاليم ترزح تحت الإحتلال الأسود ومنحها الإستعمار إلى دول لا تستحق، وأقاليم مستقلة شكلا ومستعمرة مضمونا، وتحولت بفعل الساسية الهمجية للأشقاء المتناحرين على جثة وطن حلبة صراع مكشوفة تتصارع فيها جميع القوى المحلية والخارجية.

تكثر الجروح المعنوية في جسدي الذي أنهكه إجهاض الأحلام قبل أن ترى النور، والغباء المختفي خلف أسوار البلاهة والممرات العابرة بين تحقيق الأماني وتبديد المطالب، والحقد الدفين في قلوب تجار الكوارث، وضمير أثرياء الحروب، ورغبات المهوسين بإراقة الدماء وإزهاق الأرواح وتمزيق الأجسام، وأتعبتني أغتيال الأمل في رحم الغيب، ورسَمتْ الليالي الطويلة التي مكثنا في أحضان المرارة والدمار كآبة موحشة على ملامح الجميع، وجعلت الوضع مؤسفا ومأساويا، أجيال مفصولة عن ماضيها ولا تعرف فصول تأريخها،أمة تهدم كيانها بعنجهيتها المقصودة، وتشوه تراثها بصراعاتها العبثية، وتساهم في تجزأة وطنها وتتباهي بطرب وخيلاء سذاجتها وجهلها.

وفي وسط أحلام معلقة بحبال الهواء تتحول همسات الخيال إلى صوت مسوع،  فأتجاوز على غير المعهود حدود الواقع إلى سحيق الزمن عبر آلة الزمن السريعة، ويجلدني الضمير، وتعذبني صفحات التأريخ الضائعة والتعبثر الجغرافي لأمة كانت تصول على ذرى التلال الخضراء وهامات الهضاب المترامية، وتتنسم بعظمة وإباء شذا الهواء الممزوج بأريج الكرامة وعبير الزهور التي تهب عن الحقول والغابات المتكاتفة، والفرق الكبير بين الماضي والحاضر يسبب لي وخزا في الضمير وحرقة في المشاعر، أمة كانت تجول وتسيطر على الشواطئ الخلابة لشرق إفريقيا تمرح إبلها وعصب حياتها في الفضاء الرحب دون خوف أو رهبة، وكانت تحمل لواء الفكر والأدب والحضارة ، وتملك تأريخا مرصعا بالملاحم والبطولات جعلت نفسها أضحوكة العالم وكتبت إسمها في أحلك صفحات التأريخ!.


ألم الذكريات شكّل صدى يتموج في خاطري، فبدأت أردد وأنا أجمع حروفي لأكتب كلماتي التي لا تليق بحزني شعر نزار قباني العظيم "هوامش على دفتر النكسة" لقد تبحّر الشاعر أمواجا لا ضفاف لها من الحزن وتأنيب الضمير وجلد الذات، وتعذّب  وهو يرى كيف سقطت العزة العربية والكرامة الإنسانية، وكيف إنهارت المروؤة والشهامة، وكيف إختفت النشوة والوطنية في الملفات العربية المنسية في الرفوف البالية.

أما أنا أتألم وأتقلب أحيانا على فراشي، وأحيانا على صفحة وطن مزقته الحروب، وأنهكته الصراعات، وقسمته الدول الإستعمارية إلى كيانات وأقاليم تابعة إلى دول لا تجمعه روابط الدم، ولا علاقة النسب، ولا أفق التأريخ والوجدان المشترك، أقف ناصية الليل الحالك وعبثا أحاول التعايش مع ألوان النكسة وأنواع النكبة دون أن أنظم القصائد، ولا أطلق عنان التفكير، أو أبوح ما يجول في خاطري لأحد، سواء عاش في ذهني أو عاش معي في تلك البقعة السابحة في داخل الظلام وسيول الذكريات الجارف.

كيف أستطيع أن أعيش هانئا وأنا  طريد  تحطمت أحلام عمره بين الخوف من المجهول  والترقب لمآلات وطن عاش حبه في دمي ولحمي وحروف لغتي وتعابير وجهي وسمرة ملامحي، لا أملك حق الدخول إلى وطني والعودة إلى مسقط رأسي دون تأشيرة العبور أو التسلل إلى المدن المعتمة، والقرى الصحراوية، والمستنقعات المتناثرة على ضفاف الأنهار وشواطئ المحيطات، وإن أردت ان أدخل بسلام إلى داخل مدن أجدادي ومرابع أهلي ومسارح آبايئ دون المرور إلى السلطات الحاكمة أو المحتلة عليّ أن أتحاشى عيون الشرطة، وأتهرب من الإعتقالات أو الإغتيالات، وسطوة حماة الحدود، أوأن أقفز فوق الأسلاك الشائكة والسياج المكهرب، إنها ماساة بكل المقاييس أن أكابد المشقة والخطر لأدخل إلى وطني التأريخي .

في ظلمة الفجر وفي خبايا الأمنيات القديمة يذكرني التمزق الجغرافي الذي أصاب وطني "الصومال الكبير" المقولة الشهيرة "التاريخ جغرافية متحركة". الأحداث التاريخية تتحرك في داخل أحاسيسي، والأطلال الساكنة في الذاكرة والأمجاد الغابرة تسبب غصة وحرقة لشخصيتي النضالية التي تحمل في جيناتها عظمة الآباء، وأنفة الأجداد، والإنتماء لخريطة تشمل جل المدن العامرة والقرى الوادعة في القرن الإفريقي.

الأجداد والأجيال السابقة الذين غيبهم الموت قبل المأساة التي حلت بالصوماليين بعد الحرب العالمية الثانية  نائمون تحت الأرض بهناء ويتوسدون ترابها وقد تكون في مخيلتهم البرزخية أن بلاد الصومال تعني القرن الإفريقي كله!، وبإستطاعة راعي الإبل أن يبيت في جَوهرْ صافي المزاج يتمايل على وقع أغاني الرعاة وأناشيد الحرية وشذرات المحبة، وفي باله قطيع من الإبل تركها عند خاله في مدينة وَجِيرْ قبل شهرين، وأن يطالع الأفق المدهش على مشارف جالكعيو في نهاية الإسبوع، ليشرب شاي العتمة في نهاية الشهر  عند بئر دُولّو التاريخي، ولا يستطيع من تجمد في المراقد قبل عدة قرون أن يدرك أن السهول التي كانت مسرحا للألعابهم الفلكورية، ورقصاتهم التقليدية، والأفنية الدافئة لأمسيات السمر  والأدب لم تعد تنتمي إلى أحفادهم، وأن الجبال والروابي الذين كانو يقفون على هاماتها في الأصيل تغيرت ملامحها وأسماؤها وتبدلت أوضاعها، وأن الأحفاد لم يستطيعوا أن يكونو من طينة الأباء العظام الذين صنعوا مجد الصومال بسنان رماحهم ،وصليل سيوفهم، وصهيل فرسانهم تارة، وتعاملهم الكريم وأخلاقهم الحسنة تارة أخرى.

كانت النجوم سقفهم والتربة الغبراء فراشهم عندما سكن الأجداد قبل آلاف السنين ما بين السهوب المحاذية للهضاب العالية والروابي المطلة على المحيط الهندي، وقد ملأت الألبان المحالب، والألحان على طبلة أذنهم بعد أن ترسب حب الجمال والطبيعة الرعوية على وجدانهم، وشكلت عدة مِهن عصب حياتهم كتربية المواشئ، والزراعة، والفروسية، والصيد، وركوب القوارب الراقصة على المياه، إنها شعار وطن إمتزجت فيه الأعراق وتلاقحت الحضارات على كهوفه الخازنة أخبار الماضي وأحداث التاريخ، واتحد الجمال مع الطبيعة العذراء فرسم لوحة فنية باذخة المعالم.

ذهب الماضي بلا رجعة وأصبح الحاضر ذابلا داهمه الهوان والأطلال الساكنة في الذاكرة، وتتحدث التاريخ العصري لأمتي إنكماشا رهيبا حدث على رقعتهم الجغرافية، وإنشطار أرضهم، وتفرق شملهم، وتمزق وحدتهم، وتجزأة مصيرهم، ومصادرة حرياتهم، وإنتهاك حقوقهم الإنسانية بإنتهاك مقدراتهم ونهب خيراتهم، وقتل أولادهم، و وأد أحلامهم، وتكريس التضعيف وزرع الهوان في نفوسهم مقابل مساعدات جبارة وبناء القدرات الدفاعية والتفوق العسكري والمالي لخصومهم.

في قبضة كل منا خلايا دافقة الحنين إلى المدن الوادعة بين أحزان السنين والحدود الرسمية عند المحتل والوهمية عند السكان الأصليين. كم باعدت هذه الحدود مُسنّة كبيرة ومراتع أهلها ومسارح حبها الأول، وبين كهل وذكرياته الصبيانة ونزواته الشبابية، وبين شيخ وماضيه المفعم بالذكريات الجميلة والأحداث المؤسفة والأيام التي عاشها في كنف أمة صومالية تتحدث عن الملاحم والبطولات والغارات التي تتجه نحو القبائل، وأخبار السيول والجفاف، وطبول النصر، وأنغام الحرية، وزغاريد العرآئس،  ومجالس الشعر، وتكايا الأدب، والعتمة قبل العشاء، وقرمزية الأصيل، وسحر الشروق.

الحدود التي تفصل بين الدول الأربعة الواقعة في القرن الإفريقي (كينيا، إثيوبيا، جييوتي، والصومال) تفصل أحلام أجيال وتأريخ أمة، وتعني تزييفا للحقائق، وإنفصالا تأريخيا، وتبشعا حدوديا، وتباينا ديمغرافيا بين الماضي والحاضر، لأنها باعدت بين أمة وأمنياتها المشروعة، وطمست هويتها، وقطعت آمالها، وزوّرت تأريخها، وقامت الحدود المصطنعة بليّ عنق الحقائق، وتجاهل تام للإرادة الصومالية، وتفريط في الحقوق، وتنازل عن ميادين الأحداث، وساحات التأريخ، وإهدائها إلى أمم وشعوب لم تحلم يوما أن تستطيع مصارعة الصوماليين ومقاومتهم ناهيك عن إحتلال أوطانهم وهيمنة مقدراتهم.


Buugga "Geylame"

Maalin dhoweyd ayuu macallin Hassan Mohamud iisoo hadiyeeyay buuggiisa ugu danbeeyay ee Geylame, aniguna xil baan iska saaray inaan ugu mah...