في هذه
الأجواء المخنوقة والحالة السيئة للوطن قامت القوات المسلحة الصومالية مساء الثلاثاء 21 أكتوبر عام 1969م إنقلابا عسكريا وصف
بأنه "أبيض "، ولم يرق فيه دما صوماليا بسبب تواطؤ أو توافق معظم القادة
العسكريين على الإنقلاب، إضافة إلى الشعب الذي سئم من السياسة الهمجية للقادة
المدنيين، والفساد والرشوة والجهوية التي وصلت إلى أوج عزها إبان حكمهم، ولا ننسى
أن مقتل الرئيس في شمال الوطن وعلى يد شرطي صومالي أحدث إرباكا سياسيا كبيرا وفراغا دستوريا وأطماع شخصيات غير وطنية
برزت إلى السطح مما منح للخارطة السياسية حالة من التعقيد والتأزم وعدم التوازن ربما
تؤدي ــــ إن لم يتم تداركها ـــ إلى عواقب وخيمة تقود البلاد والعبادة إلى متاهات كان الجميع في غنى عنها.
ورغم
الإنتكاسات العسكرية والهزائم النفسية والمحسوبية التي أصبحت عنوانا لافتا في آخر
ايام المرحلة العسكرية، ورغم التحولات
الكثيرة التي طرأت على الحياة السياسية والمعيشية، والتوجهات الفكرية والسلوكية الجديدة التي
أجبر النظام على الشعب الصومالي التبني عليه في فترة الزهو والغطرسة، إلا أن الشعب
الصومالي عمته موجة من الإرتياح النفسي وتنفس الجميع الصعداء عندما استلم الجيش
حكم البلاد ومقاليد الوطن، ولأن الجيش كان مؤسسة نزيهة في نظر الجميع ونالت إعجاب
الشعب الصومالي تضاعفت الفرحة والإستبشار وأيقن الشعب في غمرة سرحانه أن ليل البؤس
والشقاء والفساد والقبلية ولّى وانتهى، وسيبدأ فجر جديد يحمل إلى الشعب المنكوب
تباريح التقدم وضياء الحق ونور العدالة ونضارة الدولة وألق المعيشة.
وفي ظل
نشوة التفاؤل بدأ ترمومتر الأمل يرتفع ومنسوب الأحلام تتصاعد إلى الأعلى، وبدأ الشعب
يهلل وينظم الأشعار ويطلق دولة القوافي من أجل القيادة الجديدة التي عزفت منذ
الوهلة الأولى على وتر الوطنية وألحان الحماسة وشعارات التقدم وإعادة
اللحمة الوطنية وتوحيد أجزاء الصومال الكبير وتعزيز مكانةالقومية الصومالية لدى الشعوب المجاورة وغير المجاورة، وهذه
العوامل كانت أشواقا إنتظرها الشعب على مضض بعدما عاني من ويلات الفساد والتقسيم ووأد الأحلام
والنكبات المتلاحقة منذ إحتلال الأحباش العاصمة التأريخية للقومية الصومالية
"هرر" عام 1887م، ووجود قادة مدنيين نخرهم الفساد وكبلتهم القبلية على رأس الهرم السياسي الصومالي.
في بداية
حكم العسكر الذي إمتد 21 عاما كان كل شئ يسير بطريقة إيجابية ممزوجة بروح وطنية عالية ولمسات
صومالية واضحة، وحماسة منقطعة النظير لشعب يحمل في جيناته أطنانا من الحماسة وألوانا
من المشاعر الجياشة، وإرتفعت ثقة الشعب للدولة الصومالية الحديثة التي بدأت
إصلاحات جذرية في هياكل الدولة و المؤسسات الحكومية، أممت المنشآت العامة وصوملة
المصانع الكبيرة التي كانت باقية في أيدي المحتل وبثت روح الوطنية على النفوس
وأحدثت مشاريعا عملاقة بنيت بمبادرات وطنية وجهد صومالي خالص تحت شعار "إعتمد
على نفسك" الذي كان شعار الجميع في بداية الثورة العسكرية، وغيرت الثورة
وقادتها الإصطلاحات الوطنية والمفاهيم الفضفاضة للقضايا الساخنة والمصيرية من
مصطلحات مبهمة دبلوماسية إلى كلمات مفهومة ذات دلالات واضحة ونكهة وطنية وواقعا ملموسا، وأصبح
الشعب يرى من خلال ثورة الجنود أحلاما تحققت وأمنيات أصبحت واقعا معاشا رغم أنها
كانت في أمس القريب طويلة وبعيدة في نظرهم.
وأسس
الثوار حكومة قوية وبنية تحتية لم تعرف الأمة قبلها ولا بعدها، وعمّروا الأرض وبنو
المصانع وعبدوا الطرقات، ووفروا التعليم والصحة، ببناء المستشفيات والمدارس
والجامعات والكليات، ورفعوا جاهزية الجيش وإمكانياته حتي بات من أقوى الجيوش محليا
وإفريقيا، وقامو بنهضة عظيمة في جميع أنحاء الصومال، وكتبوا اللغة الصومالية وإن
كان إختيارهم للحرف اللاتيني إختيارا غير موفق لأنه يبعد الشعب الصومالي العربي
المسلم عن جذوره التأريخية وإنتمائه الإسلامي والعربي.