وفي عز الحب الذي بات وخزه المؤلم مألوفا لدينامنذ أن أصبحنا أسيرين للتبعثر الجغرافي المصاحب للصوماليين منذ بداية آخر عقد من القرن المنصرم أهرب إلى لحظات الصفاء وليالي الملاح في سجلات حياتنا، فلا أجدها سوى تلك الأيام الحاضنات دفأ وحبا فأردد سقى الله تلك الأيام ما أروعها.
كنتِ أجمل فتاة رأيتها في
حياتي ومنذ أن التقينا مازال طيفك يسري في داخلي، وصورتك تهمس في مخيلتي وتبث في
نفسي رحيق الحياة، ومازلت أرفل بهناء الماضي والثياب التي كنت ألبسها في مواعيدنا
قبل عتمة العشاء في السابعة مساء، وأنا قادم من جنوب الحيّ بعد أمسية كروية أتعبني
طول الملعب وأرهقتني الساحرة المستديرة مع الخلّان وأصدقاء المدرسة، في حين كنتِ
قادمة من المعهد، أو من صديقة حميمة كنت تثرثرين معها حكايات النسوان التقليدية،
وتتحدثان بإتقان يحسد عليكما عن الأعراس، والأفراح، وحفلات المسرات، وعن الموضة أو
الأزياء وآخر ما اشترت فلانة من الذهب والثياب، أو عن المدرسة وقصص الحب المتناثرة
في فصولها.
أتذكر تفاصيل جلساتنا
الملئية بالمرح وهذيان الشباب، والإنسجام التام ، والهدؤ النفسي، وتبادل النظرات
التي لا تخطؤها العين، ، كنا نجلس معا نتقاسم أطراف الحب والأحاديث فيمر الوقت
وكأنه يلاحق أشياء ليس يدركها،! وعقارب الساعة تطوى الأوقات طيا حينما ننغمس في
لذة العشق وأحاديث الهوى!، أما الأوقات العادية فالزمن يزحف وكأنه راكب ظهر سلحفاة
مثقلة بأعباء السنين وتراكمات الواقع.
كنا نضحك معا ونحلّ لغز
الحب ومتاهات العشق بمزيد من التعلق والإعجاب، كنتِ حياتي وخلاصة عمرى وزهرة فواحة
شذاها يعطر أركان جسدي، وكنتِ عشقي الوحيد وأمنيتي، معا قضينا أمتع أيام عمري
وشربنا كوؤس الحب أصنافا ونحن في بداية الشباب أو في زمن المراهقة، في ذاك الزمن
لم نكن نتوقع أن تنتهي تلك السنة دون أن ندخل في القفص الذهبي معا، ودون أن تتحد
الأجساد نشوى مثل ماتحدت الأرواح في العالم اللامرئي، ولكن كانت أرادة الله عكس
إرادتنانا.
كانت نبرات صوتك أجمل
الألحان وأعذب من عيدان القيان، وأشجى موسيقى سمعته في حياتي، وكانت حبالك الصوتية
وأنت تترنمين كلمات الصبا وجمل الغرام رنات وترية ترسلني إلى بهاء النفس والصفاء
النادر، وكانت قامتك السمهرية تسحرني، وتغنج الواضح يبهرني، وعيونك الدعج وحواجبك
الزج تذكرني بالأبيات القديمة: إن العيون التي بالوصل تضحكني *** هي العيون التي بالهجر تبكيني.
وبعدها تفرقت بنا سبل
الحياة، ورمتنا الظروف بعيدا عن أحلامنا، وعلقت تطلعاتنا نحو تأسيس بيت ملؤه
الهناء والمحبة والإحترام المتبادل، بيت مثالي أركانه الودّ، وعنوانه الرفق،
وشعاره الرحمة، إلى إشعار آخر، وبدّد الواقع المخزى دوما للمحبين الثملين بسكرة
الحب ما كنا نرسمه في أروقة الحب ودواوينه الخازنة لأشعار الهجر والوصال،
وتحولت أحاديثنا إلى أشجان، ولقآتنا إلى ذكريات أيقونية نعزف على وقعها سيمفونية
الشوق.
ويدهشني الفراق المرسوم
بدقة قدر الله المتناهي!، لم نكن نتوقع أن السفر القريب إلى العاصمة مقديشو في صيف
ذاك العام الصاخب بمشاعر الحب وشعار السياسات المصحوب باللافتات والمظاهر
الإسلامية يتولد عنه كل هذا البعد وهذه المسافة والفراسخ الزمنية التي أحالت حبنا
إلى أحلام، وأحلامنا إلى أمنيات، وأمنياتنا إلى كوابيس لا يطاق، ولم أكن أتوقع أن
رحيلك إلى الجنوب الجغرافي سيتولد عنه هذا الألم.
إنطلقتِ جنوبا وانطلقتُ
شمالا وتمادينا في البعد والنوى حتى شارفتُ حدود قارتنا الشمالي، وعشت سنوات ملئية
بحكايات المنافي في الخرطوم وعلى رحاب جامعة افريقيا العالمية، كما قضيتُ
وقتا ماتعا على ضفاف النيل وحدائق المقرن وساحات السودان عامة وأنا أرفع شعار
العودة والترقب الذي هو نوع من العبودية، وصاحبت الأماجد وزاملت الأكارم في
الأحياء والأزقات، ودرست الجيولوجيا وأكلت الفول صدقين الكادحين وشربت الشاى
بالكركدي والنعناع، وغردت وحيدا في جزيرة الفراق والحنين، واكتويت نار الغربة
والموجات المؤلمة للمشاعر والأحاسيس الوجدانية وأنا أتوغل في الدروب التي
يطول فيها العبور، وأتجول أدغال قارتنا الجميلة بشعبها وبطبيعتها الخلابة.
في حين كنتِ تتوغلين في
أحراش افريقيا وتعيشين في أقصى الجنوب وبلاد مانديلا في الكيب الغربية،
وتستجممين جبال تيبول وقرص الشمس الدافئ فوق الشواطئ الذهبية وعيون المناجم
الذهبية، وتقضى أحلى الأيام قرب المعالم الأثرية والقلاع التاريخية لكيب تاون زهرة
المدآئن وموطن العشاق وقبلة السياح، وبعدها طالت الغربة فرجعتُ أنا إلى حيث بدأنا
الحب وغرسنا معا شجرته الوارفة، أما أنتِ فمازلت تركبين سفينة الغربة ومازال زورقك
السريع يتقلب في عباب أمواج المنافي في داخل بلاد عم سام أمريكا أو بلاد الفرص
والأحلام كما يقولون.
دار الزمن وتوالت
الأيام وعز المزار وصعب اللقاء، ولكن كان حبك نبض يردده شراييني، وخيط الحب المقدس
لم ينقطع يوما، بل كان حبله قويا يربط نبضات قلبي بأنفاس روحك، ولم يتحمل القلب أن
يؤسس للحب منارة غير منارته الأولى، ونسمات الصبا لم تزل تهب من مشارف قلوبنا إلى
باقي الجسم الخازنة للذكريات وربما الألم المصاحب للفراق.