إستيقظت في الصباح الباكر وحينما يصدح الديك مؤذنا لتباشير الفجر
وضياء يوم جديد يبدد الظلام وينشر التفاؤل في المساحات المجدبة في قلوبنا بفعل
الحروب وقسوة الأيام وتنكر الليالي والأزمان، وأجسادنا المتعبة بطول الطريق ووحشة
السفر وغربة المدن المتشابهة كأزقات
يطول فيها العبور، كانت نسمات الصباح الزكية تهب من صوب النهر الكبير الذي يقسم
المدينة إلي شطرين، والعصافير تشدو وتترنم فوق الأغصان الرطبة نشوى كأنها تناجي
الشروق وتحتفي بالضياء الباسم، وتودّع سواد الليل وسكونه المطبق، في حين كان
الآذان يصدح من المساجد والمنآئر وما أكثرها في مدينة تتنافس المساجد طول المنارة
وبهرجتها وزخرفتها الداخلية والخارجية.
علي وقع الهموم المتراكمة
والخوف من الغد المجهول وقفت أمام المحرب لمسجد الفندق الصغير متوجها إلي الله وأسكب
الدموع وأبتهل، وصليت الصبح علي أمل أن يفتح الله عليّ طريقا مستقيما لأخرج من عنق
الزجاجة ومن الغربة التي تخنقني في داخل الوطن وفوق تربتي التي شربت كأس حبها
أصنافا في منذ الصبا، ومنذ أن كنت يافعا يمرح في الحقول الزراعية ويسرح إبله في مراتع
أهله وميادين طفولته، والغربة في الوطن يا سادة هي أشد ألما وأنكى جرحا من الهجرة
الخارجية التي يشعر فيها المرأ أنه بعيد عن أهله ووطنه ويتشجم الصعاب والمشكلات ويتجلد
ويحتمل سواد المنافي ومتاعب الترحال في سبيل تحقيق هدفه سواء كان تجارة أو تعليما
أو إستشفاء أو هربا من بطش الإستبداد الذي يكمم الأفواه ويعد الأنفاس ويصادر
الحقوق والحريات ويتصرف وكأن البشر عبيد له بعدما أضفى صفات الألوهية في شخصيته
التافهة.
بعد الصلاة والأوراد الصباحية رجعت إلي النوم التي لم أشبع عنها بسبب
الأشباح التي كانت تطاردني في النوم والتفكير المضني للمآلات التي تنتظرني في
مدينة لا أعرفها ولا تعرفني سوى أنها تقع في
منتصف الوطن تقريبا، وتغفوا علي حضن أهم الأنهار التي ترفد وطننا بالجمال
والخضرة وإعتدال الأجواء، كما تمنح بالفواكهة والخضروات وبذخ الطبيعة، ولم أستيقظ من
النوم إلا وأشعة الشمس تدخل في شرفة الفندق كخطوط رقيقة ممتزجة بذرات الغبار وضوء
قمئ لا أدري من أين ينبعث في هذا الوقت.
كانت الجوع تلهب أحشائي وعصافير البطن تزقزق داخل أمعائي فذهبت إلي
كافتيريا المطعم التي تقع
شرق الفندق وخلف الأشجار الباسقات كدوحة ينتصفها خط الإستواء في أدغال إقليم جوبا
السفلي، كانت المقهى متوسطة الجمال والنظافة ورتيبة الوجبات والأداء، وتعاني
روتينا مخلا في عدد الأطعمة وتنوعها، إذ لا يوجد فيها سوى الفطائر والأطعمة
الشعبية والقهوة التي كانت
أجود ما يوجد في المطعم، في هذا الصباح لم تكن شهيتي مفتوحة للأكل، ولم أجد رغبة
في تناول بعض الطعام لذا طلبت قهوة محلية
رائحتها غزت خياشيم الأنف منذ أن جلست فوق هذا المقعد الوثير.
وقعت علي حبائل الحيرة والسرحان الفكري وأنا أرتشف قهوة الصباح علي
مهل، ولا أدري من أين ابدأ وماذا أفعل؟، ولا أستطيع أن أمكث في الفندق أكثر من
يومين لقلة زادي والمبلغ المتواضع الذي بحوزتي، إضافة إلي طبيعة المدينة التي
لاتعرف التكافل الإجتماعي الذي عشناه في قريتنا المتواضعة التي لا يجد فيها
الإنسان أي حرج في أن يأكل ويشرب ويأوى إلي بيوت القرابة والأسرة وحتي القبيلة، بل
يعتبر هذا نوعا من صلة الرحم والتواصل الشريف ونباهة في عرفنا القروى الموغل في
البدائية، أما المدينة فالكل يأكل علي عرق جبينه، يعمل ويشتغل ويكدح ويصارع
المصاعب لتأمين قوت يومه ولقمته.
وكما قيل قديما أحلك ساعات الليل هي التي تلي الصبح كان الفرج قريبا
وأنا أقلب صفحات الفكر وأسطر حروف الحزن علي ورقة الهموم، وأغني علي وقع الألحان
الحزينة ورنات الأسى الوترية،!جاء الفرج ولم تدم حيرتي كثيرا حيث تعرفت في الفندق
شابا وسيما في مقتبل العمر تربطني به قرابة النسب وأواصر الدم التي تجري في
عروقنا، القدر وحده قادني إلي كرسيه لأتصفح معه الصحيفة الوحيدة التي تصدر عن
المدينة، كانت مواضيع الصحيفة مكررة مملة، والفقرات غير مترابطة والخط باهت وغير
واضح، إضافة إلي ردائة الطباعة والفقر المعلوماتي للصحيفة، سألته عن الشركة التي
تطبع الجريدة وبعض الأسئلة الإعتيادية لغريب مثلي، كان مثقفا لأبعد الحدود وواعيا لما
يجرى حوله وما يدور في العالم، تجاذبنا أطراف الحديث وأنسجمنا سريعا وتشعبنا
الكلام حتي طرقنا باب التعارف وكانت الصدفة الجميلة أنه أصبح من أقاربي!.