العودة
إلي الجنوب الجغرافي وإلي كسمايو الباذخة بعد رحلة إستمرت عقدا من الزمن كنتُ
تائها في سديم الغربة ورحلة المنافي السرمدية، وعبر
تاج الصومال الجميل مقديشو كانت عودة تاريخية بإمتياز وحلما أيقونيا جميلا طالما
داعبني في هدأة السحر وحينما أتذكر الأيام المتألقات والزمن الخوالي وذكريات
الطفولة الآسرة، والمدارس والخلان وشواطئ كسمايو النظيفة، والسمرعلي أعتاب البيوت
الطينية والطرقات الترابية، وأهداب القمر والبساطة التي كنا نعيشها في زمن الصبا،
وحنين الماضي الذي يثير تغاريد الشجن في وجداننا الغارق بدموع المآضي وصدى الآهات
والشوق الذي يقرب المسافات الفراسخ ويختصر
الأزمان في ثواني.
كان
خيول الشوق الجامحة تأخذني إلي الجنوب الناعس في حضن الجمال والطبيعة العذراء وهي
تصهل وترنوا إلي ملاقات الأحبة الذين بسببهم أحمل رياحين الود وزهور اللهفة،
والأرض الطيبة التي منحتنا حبا وحنانا يفوق الخيال ورياح الزمن السريعة ونغمة
موسيقاها الندية والرحلة المترعة بالبهجة والجمال، ترسلني إلي ضفاف الأنهار
الشامخة والحدائق الغنية بالورود والحقول الزراعية المصطفة علي جنبات الشارع كغابة
إستوائة في عز الربيع أو كحقول السنابل التي تبتسم علي مشارف ألق الربيع علي ضفاف
نهر جوبا التليد، وكانت لسعات الشجن من منبع الجمال إلي موئل العظمة تؤلم أحشائي
وأنا أحمل عصى الترحال من جكجكا عاصمة الثقافة الصومالية العريقة إلي كسمايو عروس
المحيط عبر هرجيسا درة الشمال وأيقونة حواضرنا الحبيبة مرورا بمقديشو سرة المدن
الصومالية وزهرة مدائنها.
العودة
إلي الجنوب الحنون وإلي ضفاف الأنهار والسواحل الحريرية للمحيط الهندي، وإلي
كسمايو مهوى الأفئدة وقلب الصومال النابض، يعني رحيقا فواحا يعطر حياتنا الملئية
بالنكد والحزن وأملا جميلا كانت شمسه لا تغيب عن بالنا وقفنا علي أعتاب تحقيقه،
وقنديلا من الصفاء والمحبة يتهاوى أمامه جبروت الأسى ولوعة الغربة وجروح الليالي، وتعني
أيضا أن نقف علي الخط الإستواء وفي وسط
السهول وتحت أشجار المانجو والباباي، وأن تبتسم وتضحك من عروق القلب وأنت
تنفض غبار السنين ورمادية المنافي عن جسمك الشاحب ونظراتك الزائغة، وأن تنظر إلي ألبوم
الصور ووجوه الأصحاب والجيران وحكايات الماضي من خلال الذكريات العابرة كزرائب الطيور،
وأن ترقص طربا وأنت تراقب عبر الفضاء الإسفيري مرسال الشوق الذي يرسو علي شواطئ الذكريات ومرفأ الذاكرة، وأن تستحضر لحظات
البهاء في الميادين المفتوحة وساعات الطفولة الآسرة في حضن الأمهات.
كما
تعني أن تبكي بحرقة بسبب أولئك الذين غادرونا بصمت إلي مراقدهم وبرزخهم، وتركوا
بصماتهم الواضحة وحبهم الجارف الذي وضعناه في حدقات عيوننا وشغاف قلوبنا في حياتنا،
أو من أجل الأماكن التي تغيرت والأزمان التي تنكرت والمعالم التي هرمت وشاخت، ومن
أجل الأحباب الذين قد لا نلتقي بهم ولا نضحك معهم برحيلهم إلي أعماق النوى وسحيق
الغربة القاتلة، وتعني أن تهمس بمحراب الحب الدافئ وجماله السرمدي، وأن يسرى في
داخلك قشعريرة الهيام وأشواق العشق في الهزيع الأخير من الليل حين كان نسمات
الصباح العليلة تأخذ إلي القلوب المجدبة ترياق الهوى، وأن تستلذ الذكريات العابرة
لأول لقاء حمل تباريح الصبا في حياتك.