الثلاثاء، 29 يوليو 2014

موسم العودة إلي الجنوب (1-3)

العودة إلي الجنوب الجغرافي وإلي كسمايو الباذخة بعد رحلة إستمرت عقدا من الزمن كنتُ تائها في سديم الغربة ورحلة المنافي السرمدية، وعبر تاج الصومال الجميل مقديشو كانت عودة تاريخية بإمتياز وحلما أيقونيا جميلا طالما داعبني في هدأة السحر وحينما أتذكر الأيام المتألقات والزمن الخوالي وذكريات الطفولة الآسرة، والمدارس والخلان وشواطئ كسمايو النظيفة، والسمرعلي أعتاب البيوت الطينية والطرقات الترابية، وأهداب القمر والبساطة التي كنا نعيشها في زمن الصبا، وحنين الماضي الذي يثير تغاريد الشجن في وجداننا الغارق بدموع المآضي وصدى الآهات والشوق الذي يقرب المسافات الفراسخ ويختصر الأزمان في ثواني.

كان خيول الشوق الجامحة تأخذني إلي الجنوب الناعس في حضن الجمال والطبيعة العذراء وهي تصهل وترنوا إلي ملاقات الأحبة الذين بسببهم أحمل رياحين الود وزهور اللهفة، والأرض الطيبة التي منحتنا حبا وحنانا يفوق الخيال ورياح الزمن السريعة ونغمة موسيقاها الندية والرحلة المترعة بالبهجة والجمال، ترسلني إلي ضفاف الأنهار الشامخة والحدائق الغنية بالورود والحقول الزراعية المصطفة علي جنبات الشارع كغابة إستوائة في عز الربيع أو كحقول السنابل التي تبتسم علي مشارف ألق الربيع علي ضفاف نهر جوبا التليد، وكانت لسعات الشجن من منبع الجمال إلي موئل العظمة تؤلم أحشائي وأنا أحمل عصى الترحال من جكجكا عاصمة الثقافة الصومالية العريقة إلي كسمايو عروس المحيط عبر هرجيسا درة الشمال وأيقونة حواضرنا الحبيبة مرورا بمقديشو سرة المدن الصومالية وزهرة مدائنها.

العودة إلي الجنوب الحنون وإلي ضفاف الأنهار والسواحل الحريرية للمحيط الهندي، وإلي كسمايو مهوى الأفئدة وقلب الصومال النابض، يعني رحيقا فواحا يعطر حياتنا الملئية بالنكد والحزن وأملا جميلا كانت شمسه لا تغيب عن بالنا وقفنا علي أعتاب تحقيقه، وقنديلا من الصفاء والمحبة يتهاوى أمامه جبروت الأسى ولوعة الغربة وجروح الليالي، وتعني أيضا أن نقف علي الخط الإستواء وفي وسط  السهول وتحت أشجار المانجو والباباي، وأن تبتسم وتضحك من عروق القلب وأنت تنفض غبار السنين ورمادية المنافي عن جسمك الشاحب ونظراتك الزائغة، وأن تنظر إلي ألبوم الصور ووجوه الأصحاب والجيران وحكايات الماضي من خلال الذكريات العابرة كزرائب الطيور، وأن ترقص طربا وأنت تراقب عبر الفضاء الإسفيري مرسال الشوق الذي يرسو علي شواطئ  الذكريات ومرفأ الذاكرة، وأن تستحضر لحظات البهاء في الميادين المفتوحة وساعات الطفولة الآسرة في حضن الأمهات.

كما تعني أن تبكي بحرقة بسبب أولئك الذين غادرونا بصمت إلي مراقدهم وبرزخهم، وتركوا بصماتهم الواضحة وحبهم الجارف الذي وضعناه في حدقات عيوننا وشغاف قلوبنا في حياتنا، أو من أجل الأماكن التي تغيرت والأزمان التي تنكرت والمعالم التي هرمت وشاخت، ومن أجل الأحباب الذين قد لا نلتقي بهم ولا نضحك معهم برحيلهم إلي أعماق النوى وسحيق الغربة القاتلة، وتعني أن تهمس بمحراب الحب الدافئ وجماله السرمدي، وأن يسرى في داخلك قشعريرة الهيام وأشواق العشق في الهزيع الأخير من الليل حين كان نسمات الصباح العليلة تأخذ إلي القلوب المجدبة ترياق الهوى، وأن تستلذ الذكريات العابرة لأول لقاء حمل تباريح الصبا في حياتك.

الأحد، 20 يوليو 2014

لهيب الشوق

لهيب الشوق أضناني، وألم الحنين آلمني، وطيف الشجن هاجمني، وأنا متقلب فوق الفراش، فهجرت عن الكرى وعزفت الخلود في أحضان الدعة والراحة ونعومة الفراش ولذة النوم كملدوغ لم يجد الدواء ويتأوه ألما وأسى في القرى النائية الوادعة علي روابي النسيان والإهمال، أو كمريض علي سرير المشافي تنتابه نوبة من السعال القوى وحمى تطرد النوم عن أجفانه بعد منتصف الليل بدقائق.

تباريح العشق تسرى في داخلي كموجات طولية أو ذبذات داخلية، وأبث أنين الوحدة في ساعات الدجي وحيدا، وأذرف الدموع الغالية نحو التربة الحانية التي تستر رطوبتها قطرات الدموع المنهمرة من مآقي الجفون ومن عيون القلب، ومن ترعات التعلق والإعجاب المنتشرة في داخلي كإنتشار الجداول في المزارع المطلة علي ضفاف نهر شبيللي قرب بلدوين أو أفغوي العريقة.

أحلق فوق سماء السهر كنورس شقي في بحر الشمال أو جبال بلقان، أو كفينيق رومي مترع ببذخ الربيع وبسمة الخريف وجود الطبيعة، وألاعب أوهامي الهلامية وآمالي التي تموت غالبا في رحم الغيب دون أن ترى النور، وأضحك بهستيريا عجيبة كمجنون تائه في ظلمات الليل ويعاني من رطوبة الزنزانة في داخل المسحات العقلية، وأغفو علي أهداب الزمن السريع كعمرنا القصير الذي يجري كسرعة الضوء لا كمشية السلحفاة التي نريدها نحن المحبين للحياة وللخلود السرمدي!، وأستريح في الكراسي الخشبية المتناثرة علي رصيف المحطات وحافات المنافي وكانها منتجع سياحي أوحديقة عامة في وسط المدن الجميلة.

في هدأت السحر وعلي وقع الفراق وصدى تهاليل البعاد أعزف أنغام الدموع علي أطلال الذكريات الرقيقة كفراشات السواقي أو كهمسات المحبين في الهزيع الأخير من الليل، وأستأنس قصص العابرين في دروب المعاناة الطويلة، وممن ينشدون الأمل في واحات الحياة المترعة بالغدر والضنا، وفي كهوف المناجاة الندية وقعر الآجام المزركشة بالماضي الفخيم، وأتمعن ضروب الحكاوي الحزينة والنسائم الهامسة في طبلة أذني، والأصوات التي تأتي من سحيق الأسى ومن جبين البسطاء، ومن  سحيف الرحى الذي يطحن أحلام البسطاء وانصاف العراة ويرسل رزقهم إلي بطون اثرياء الحرب وأغنياء الصراعات والتشريد والإحتراب بطريقة دراماتيكية غريبة.

زرائب الطيور المهاجرة، وزقزقة العصافير الشجية، وشدو القمرية في الصباح الباكر، والأعشاب المرتعشة بلطف ولين كأنها خصلات شعرك العابثة علي جبينك المصقول في تلك الأمسية التي كنا نترنح طربا وعشقا، والندي الخفيف فوق المروج، وأريج الزهور الفواح في الحقول والبساتين الواقعة علي عين الجمال قرب مرابعنا، وعبق الورود الحمراء كشفق المغيب وأنت فوق هامة جبل مخروطي الشكل يطل علي خط الإستواء  من الناحية الشمالية في بلد أفريقي جميل بقدر ماهو متناقض ومكبّل بمآسي القتال وحبال الفقر وصراع الأديان ومشاكل العرق والإثنيات التي تريد كل واحد منها أن تسلب بقوة حقوق الآخرين وان تستأثر دون الغير السلطة والحكم والإقتصاد، أوكغانية غجرية شقراء تخدم في بلاط  الأمراء بأجر زهيد وعمل شاق تحت وطأة الفقر ولدغة العوز وتكشف أسرار وجهها الذي يفوق البدر ألقا وإشراقا للغريب العابر.

والضباب اللطيف الذي يغشى ملامح المدينة بعد يوم ماطر، وأثير الصباح المنعش الذي يبدد شحنات الغضب والنكد بعد الليالي الموحشة، ورقصات الأمواج علي شاطئ البحر الذي يرفع ذوئبتيه الباسم كقدك المليح، يذكرني بجمالكِ الأنثوي الطافح، وبشرتكِ السمراء الناعمة وتغنجكِ القاتل وعنادك الأنثوي التقليدي، ويثير كوامن الصبا في أوصالي، مما يفتح نوافذ الحزن وأبواب الشجن والجنون البرئ في داخل نفسي المولعة بضوئك الذي يأتي من وراء المرئيات ومن بين رماد الأزمنة وسديم الحب الهائم..!

الجمعة، 18 يوليو 2014

من وحي الطبيعة


في صباح يوم سريالي ذات مشاعر نورانية كطيف حورية يأتي من عالم الخلود، أوكفراشات السواقي حين تسير في منعطفات جداول الوادي ووسط الحقول الزراعية والازهار الفواحة، كان ينسرب إلي قلبي بهاء الحاضر، وذكريات أيقونية يسايرني ويسوقني إلي عمق الماضي الفخيم أو النوستالجيا كما يسمونها علماء النفس والإجتماع، وكانت الزهور التي تتمايل مع النسيم العليل يلبسني لباس الحبور الجارف والفرحة العارمة، آنست صفاء نادرا، وهدؤا عجيبا يسرى في داخلي ويورثني نشوة طافحة وخفة زائدة تقودني إلي المحيط الهندي وجمالة والسير علي رماله والخلجان الهادرة التي تتكلم عن صخب الطبيعة، مع شلة من أعز اصدقائي الذين إجتمعنا الزمن بعد سنوات من الفرقة والنوى.

الإتصال التليفوني لصديق الطفولة وزميل المراحل الدراسية المتقدمة من حياتي عبد الكريم عبدالله أحمد (باخا)، الذي كان في صغرنا آية في الخط والرسم والكتابة الجميلة، كما كان مهاجما من الطراز الأول، وصاحب لمسات فنية تعزف الكرة في أقدامه سيمفونية المتعة والإبداع في داخل المستطيل الأخضر، وينتهي الكرة في الشباك وبوضعيات مختلفة، إضافة إلي السكوت الكبير للرشاشات وصخب البارود، حيث زخات الرصاص المتقطعة وأصوات البنادق وطلاقات الكلاشنيكوف التي أصبحت عادية في مسمعي منذ أن وطأت قدمي في جنوب الصومال هدأت وبنسبة كبيرة في هذا الصباح، هذه العوامل وأخرى غيرها كانت كفيلة أن تقنعني جدوى السياحة للمرافق الطبيعية للمدينة، وأذكت في نفسي الحب العميق الذي أكنه للمحيط.

كما كانت إبتسامة الكون التي تحتفي بالضياء وشروق شمس ذهبي ليوم جديد، والأجواء البانورامية البديعة تدغدغ مشاعري، والخلجات الآسرة كانت ترسلني إلي الساحل الخلاب الذي يعانق الجبال المكسوة بالأعشاب والطبيعة العذاراء للسواحل الصومالية منبع الجمال وموئل العظمة الإلهية.

وإلي المحيط الهندي الملئ بالأسرار والعجائب الذي أحبه ويحبني، وأتذكره في عز الغربة ويشتاقني، وأترنم بإسمه عندما كنت ضيفا للمنافي وحفيفها، وحقيقة لا يوجد في كسمايو بقعة أجمل وأنقي من هذا الساحل الطبيعي الذي لم تصل إليه العناية البشرية لتحولة من منطقة بدائية وساحل طبيعي سياجه الرمال والجبال، إلي منتجع سياحي ذات مرافق متعدده يؤمه السياح والشعب بكل أطيافة وجميع شرائحه.

السبت، 5 يوليو 2014

الرحيل نحو المجهول (3)


وصلت المدينة حين رسم الأصيل لونه القرمزي علي جبين السماء، وشفق المغيب نثر علي الأفق جمالا وبهاء كغانية رومية تتبختر علي البلاط البيزنطي الوادع في وسط الإمبراطورية القيصرية، كنت منهكا للغاية بطول الطريق ومشقته، والتفكير المضني الذي صاحبني منذ بداية الرحلة في أعتاب مدينتنا العريقة، وكانت تتسابق إلي وجداني أفكارا جنونية، وخلجات متناقضة، وتصورات غريبة للمدينة ونمط حياتها، والواقع المغاير، والبئية الجديدة التي تنتظرني وأتسائل: تُرى ماذا يمكن أن تكون المدينة؟ وكيف تستقبل المدينة شخصية غامضة ومبهة مثلي، لا تحمل سوى الذكريات الأيقونية وأملا كبيرا تداعب حدقاته، ويقينا قويا بأن الأفضل قادم لا محالة، وأن فجرا مشرقا قد دقّ الباب هذه المرة وبطريقة غير تقليدية.

حقيقية كانت أسئلتي في محلها وتخميني في مكانه، حيث كانت المدينة تحتضن الأوكار الإجرامية الأشهر في البلد، ومجتمعا متحضّرا يختلف عن بيئتي الريفية ومدينتي الصغيرة التي كان جميع سكانها يعرف بعضه البعض، كما كانت المدينة تعج بمتناقضات فكرية وأنثربولوجية ومعيشية، ومجتمع مجهول لا أعرفه ولا يعرفني.

وعندما توقف القطار في محطته الأخيرة كان التعب قد أغرز أنياب ماكينته المؤلمة علي جسدي، وبدأ يحطن كل خيط وعصب من جسمي، ورغم ذالك لم ينل شئيا من عزيمتي، حيث الرغبة المتوحشة ورابطا غير مرئيا من الشوق والمغامرة الجرئية وحب الفضول والإستطلاع، كان يربطني إلي المدينة التي لاتنام، بل تنتصب شامخة وسط الكثبان الرملية المتاخمة لعنفوان الطبيعة وصخبها الهادر.

نزلت عن القطار وفي سككه المتقاطعة جلست مقعدا علي يمين الشارع مصنوعا من العيدان العجفاء المربوطة مع بعضها، إنتظرت ربع ساعة من الزمن رشفت فيها القهوة علي عجل وتحت وقع أنغام الزحمة وهدير المسافرين الغادين والرائحين، ولكن لم أجد التاكسي التي تقلني إلي الفندق،! فمشيت إلي الجهة الغربية التي كانت تقع محطة للسيارات حسب ما قال لي شخص سألته عن المحطة، وصلت المحطة بعد عشرين دقيقة قطعت فيها متأملا ومفكرا.

Buugga "Geylame"

Maalin dhoweyd ayuu macallin Hassan Mohamud iisoo hadiyeeyay buuggiisa ugu danbeeyay ee Geylame, aniguna xil baan iska saaray inaan ugu mah...