أما النّدوة التي نظمتها أتيليه العرب للثقافة والفنون في القاهرة (جاليري ضي) وأدارها الشاعر محمد حربي الذي قابلني بوجه احتفالي لمناقشة كتاب «الصومال.. زوايا غير محكية»، إضافة إلى العلاقة التاريخية بين مصر والصومال، وقضايا ثقافية وأدبية أخرى كانت ماتعة بكل المقاييس. كان اليساريّ العتيد وصاحب اللمسة الإنسانية -الذي يعتبر موسوعة في فهمه وعمقه للكفر الشيوعي- يعرف الكثير عن الصومال، وقرأ الكتاب من الجلد إلى الجلد. وفي خضم قراته وقف على دولة الدراويش وقائدها الفذّ والبعد الأدبي لنضالهم. أمّا أنا فقدّمت الكتاب بكثير من الحماسة والامتنان، وذكرتُ أن الاحتلال الأوروبي هزم الدراويش في ميدان المعارك بعد أن استخدم الطيران الحربي، ولكن لم يكسر ارادتهم ولم تخمد ثورتهم، بل انتصرت مبادئها وتحققت بعض أهدافها عندما نالت الصومال استقلالها. وبعد انتهاء الجلسة تجولت في أنحاء معرض الصور فأسعدتني لوحة للفنان التشكيلي الصومالي عبد العزيز بوبي الذي مثّل الصومال في مناسبات عالمية. اللقاءات الثقافية والفضاءات الفكرية كانت تجربة ثرية لصوت يعاني من وجع العزلة الثقافية، وأتاحت لي التعرف على كتاب ومثقفين وأدباء ورسامين وفنّانين من بلاد شتى. ورغم انسجامنا الفكري والحفاوة في الوسط الثقافي إلا إنني كنت أتعرض لإحراج شديد في المجالس والملتقيات بعد رفضي للسيجارة أو الشيشة في حضرة أصدقاء وزملاء لا تفارق السيجارة فمهم بل ويتباهون بها: كانوا يستغربون بأنني لا أدخن ولا أشرب الشيشة؛ ويسألون: "ما بتدخنش خالص يا حسن!؟" كيف تكتب أو تهرب من ملل الكتابة وضغطها وهواجسها والحالة النفسية التي تعتري معظم الكتاب وأنت لا تمارس طقوسها؟ سألني أحدهم باستغراب!
لم يقتصر الإحراج على الدخان فقط بل امتد إلى المجالس الثقافية ذلك أنني كنت ذات يوم في باحة «جاليري ضي» أتحدث مع مسؤولي المعرض عندما أقحمت امرأة تحمل شهادة الدكتوراه في الرسم والفنون الجميلة نفسها في الحوار: "الصومال تقع جغرافيا في الشمال الأفريقي وقريبة لموريتانيا صحيح؟" فانبرى لها المثقف الجسور محمد حربي الذي يخفي وراء ابتسامته الدافئة فكر تنويري وأبوية شديدة: "الصومال تقع في شرق أفريقيا وتتمتع بعضوية جامعة الدول العربية يا دكتورة". وبعد انتهاء الحوار القصير بين حربي وبينها ذكرتْ بفخر زيارتها بدولتين من أفريقيا جنوب الصحراء؛ إثيوبيا وناميبيا! وكيف عادت إلى بيتها سليمة من أمراض وسطو إفريقيا! وكأنها تعيش في جنّة حيث لا فقر ولا سطو ولا سجون؟ تدخلتُ وقلت لها وقد أسائني الموقف: "نحن نعرف مصر عن كل شيء؛ من التاريخ إلى الأدب.. ومن السياسية إلى الفن.. فلماذا لا تعرفين حتى موقع الصومال الجغرافي وأنتِ تحملين لقبا علميا مرموقا؟" فقالت وهي تلتهم سندويتشها: "نحن دولة عظمى، والصومال دولة صغيرة أنهكتها المجاعة ونهشها الحرب، وأنتم مجبرون على التعرف على أم الدنيا!" كان رداً صادما لم أتوقعه من مثقفة تحمل أعلى الشهادات الجامعية! ورغم أنني ابتلعت غصة الحرج إلا أن كلماتها أيقظت جرحا قديما، وذكرتني ببرنامج تلفزيوني تابعته قبل أسبوعين عندما استضاف الأستاذ حسن راتب في برنامجه «شخصيات في حياتي» السياسي المصري ومدير مكتبة الإسكندرية، وسكرتير الرئيس حسني مبارك للمعلومات والمتابعة، د. مصطفى الفقي الذي قال في خضم حديثه عن الرئيس التركي أردوغان الذي زار الصومال في عزّ الجفاف والمجاعة عام 2011م: "ذهب مع امرأته إلى الصومال التي لا يوجد فيها مطعم واحد!" غريب كيف تقهقر المصريون معرفيا وأفلسوا ثقافيا وأصبحوا منغلقين لا يعرفون شيئا عن محيطهم؟
ورغم تغير الأحوال وصعوبة الحياة في ظل التضخم وتدهور قيمة الجنيه أمام الدولار إلا أن الوضع لم يكن قاتما تماماً، بل في شوارع ومكتبات مدينة الألف مئذنة، وصالات معرض القاهرة الدولي، وصفحات المجلّات الرائدة كدت أن أعانق نفسي لفرط البهجة. لقد نُشر في جريدة «أخبار الأدب» المصرية فصلا كاملا من كتابي، وشاركتُ في العدد السنوي لمجلة الأهرام العربي «وصفُ العرب مع 25 كاتباً عربياً رسموا صورة كاملة الأبعاد» وكتبت عن الصومال والصوماليين الذين لم يستسلموا للأمر الواقع، بل صمدوا أمام الصعاب وأنياب الحرب، ولم أنس القرارات الخاطئة والإخفاقات التي أهدرت طاقات وإمكانات كانت تقودنا نحو مستقبل مشرق لو وظف بطريقة صحيحة. إلى جانب المجلّات حفاوة دور النشر (النخبة والنسيم) وترحيب الجمهور، والإقبال الكبير على كتبي في الجناح الصومالي حتى نفدت الكمية المعروضة في النصف الأول من اليوم، كان حدثا حفر في قلبي أخاديد من السعادة. كنت سعيدا بأن الطفل الذي ولد في أعماق البادية وعاش يتيما، واستخدم قوة الكلمة لمواجهة الواقع، وحارب الإحباط بالقلم والحرب بالكتابة، تجاوز حدود اللغة وجغرافية المكان، ووصل صوته إلى أهم مدينة في الشرق الأوسط وربما العالم الثالث برمته.
وعلى ذكر الكتب والمكتبات وبترشيح من أحد الأصدقاء ذهبت ذات مساء إلى مكتبة «تنمية» التي نسيت فيها العالم من حولي. كانت الرفوف مكتظة بكتب العقاد، ونجيب محفوظ، ورجاء النقاش، وطه حسين، والشيخ محمد الغزالي، وجمال الغيطاني، وعبد الرحمن منيف، وباولو كويلو، وآندي ميلر، وألبير كامو، وفيلسوف الحزن والتشاؤم وكاره النساء شوبنهاور، وأخرى كان لهم دور بارز في تحديد وتشكيل ملامحي الفكرية وذائقتي الأدبية، وبعد عدّة ساعات خرجت منها إلى دار الشروق يحركني مزيج من الرغبة والحماسة وحب الكتب. في جناح «وصل حديثاً» كانت رائحة الكتب ممتازة جداً، وكان كتاب الصحفي الراحل محمد أبو الغيط رحمه الله «أنا قادم.. إيها الضوء» الذي صدر قبل أيام من رحيله – بعد معاناة مع السرطان- شامخا تتلقفه أيادي القرّاء. كان الكتاب نشيجا مكتوما لصحفي متألق أيقن الرحيل فواجه الموت بثبات، ورثى نفسه بكتاب مترع بجمال الأسلوب ورشاقة التعبير، وغارق بالحزن وألم مزق أحشاؤه. في المكتبة المعمورة بالكتب وصور عمالقة الفن والأدب؛ كان أمامي مباشرة يوسف إدريس بطلته البهية، وتوفيق الحكيم بعصاه، وملامح تبوح بأسرار عصره، وخيال متعب بأشياء لم يقلها رائد الكتابة المسرحية في الأدب العربي. وبعد أن بددت في الشروق كلما لديّ من مال وأفرغت جيبي من الجنيه ذهبت إلى مدبولي التي أجبرتني باقتراض المال من صديقي طاهر لشراء كتب رائدة في السياسية الأفريقية والاقتصاد اليساري.
بعيدا عن الكتب وقريبا للقاهرة، يممت وجهي ليلة ذات قرس إلى حديقة الأهرام للقاء مع صديقي الروائي أحمد مجدي فرأيت من بعيد وعلى يساري الاهرامات. كانت مبهرة وشامخة في وسط الليل وكأنها جبال راسيات. وبعد ثلاثة أسابيع من تلك الزيارة المليئة بالأنس والحديث عن الفنّ وأنماط الكتابة وطريقة اختيار عناوين الكتب وتصميم الغلاف، ذهبتُ مع إثنين من أعزّ الأصدقاء -عبد الرحمن مصطفى ومهد محمد- إلى الأهرامات التي ظلت لغزاَ يثير العقول، وعبقرية حيرت العلماء وهندسة أدهشت الزوار. لقد شعرت أمام خوفو، وخفرع، ومنقرع؛ الذين صمدوا أمام اختبار الزمن وكأنني سافرتُ عبر التاريخ.
من الأهرامات ذهبتُ رأسا إلى مقهى أم كلثوم في وسط البلد، وجلستُ في زاويتها المفضلة وتحت صورتها وهي ترتدي النظارة السوداء وتحمل في يدها «المنديل الأخضر» الذي كان يجفف العرق من يدها ويخفي رهبتها من الجمهور كما روت التاريخ. كان في بالي كيف تخاف «كوكب الشرق» من الجمهور وهي التي أحيت الحفلات والسهرات وهزّت المسارح بأعمالها الفنيّة، وتربعت على قمّة الغناء العربي بصوتها المتفرد وحنجرتها الذهبية؟ لقد أطربت فاطمة السيّد الجمهور العربي ونثرت السعادة في قلوبهم، وقدمت الأنغام الساحرة والطرب الأصيل في أنحاء العالم.. «أنت عمري».. «الحب كلّه».. «طاب النسيم العليل».. «أراك عصيّ الدمع».. «سهران لوحدي» وغيرهم من الأغاني والتواشيح الدينية التي وحدت العرب من المحيط إلى الخليج.
إلى جانب ذكريات «سيّدة الغناء» العربي ولمسات الحضارة ما زالت القاهرة تحتفظ بمكانتها؛ الأم الرؤوم التي جمعت بين أحضانها العرب بمختلف أقطارهم وانتماءاتهم، ذلك أنني أجلس حاليا وأنا أكتب هذه السطور مع سودانيين حملوا طيبتهم إلى مدينة المعز، إضافة إلى يمنيين ولبنانيين وسوريين تجمعهم المعاناة والهرب من شعارات رنّانة «الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل... النصر للقدس» بينما في الواقع الموت للشعوب التواقة للحريّة والحياة الكريمة، والنصر للمستبدّين. تحدثنا كثيراً عن العالم العربي المليء بالدمار ومآسي السياسة، ومن المفارقات أننا هربنا منها، وفي مجالسنا نستأنس بها ونتحدث عنها!