الجمعة، 10 فبراير 2017

من سكون الغربة إلى راحة الوطن 



عشت في الغربة أطيافا متعددة، أتعلم أقرأ وأكتب، وأحتضن زاوية المقاهي والقصص الجميلة، أشتاق لشذا الأهل وحناجر السمراوات وهنَّ يغنين على وقع الرقصات الشعبية والألعاب الفلكورية، وكنت أراقب وضع الوطن وهيستريا الشعب وتقلبات السياسة عن كثب، أسير على درب التعليم أتعثر فأنهض ولا أجد من يساعدني أو يواسيني أو يشارك معي إيقاعات الحياة والمتاهات الكثيرة للغربة والضياع سوى الأصدقاء.
وفي كل مغيب على أعتاب الغربة وعلى امتداد السنين والمعاناة، كنت أتذكر الأمسيات الوادعة على أكتاف الوطن برسمه السماوي وتشابكه الجميل ووصفه البديع، أتذكر ضفائر الشمس الخجولة التي تتستر وتختفي وراء الظلام، وخلف الجبال الملصقة بشفق المغيب كعذارى يسقين الحيّ أويسرحن شعرهن بليل صومالي مترع بالشعر والميثولوجيا والأمثال الشعبية وأحاديث الغزوات والفروسية.
كنت أغني كما يغني الشعراء الحالمون بمجد بلدي الذي اشتهر بينابيع الحب والجمال قبل أن تحل عليه نكبات الحروب وعبثية الصراعات ولعنة الكانتونات والتقسيمات الجائرة، وأردد وأنا أعزف ألحان التوجع "غنّي بذكري يابلادي" وكـأني زهرة حمراء في حقول الوطن تدركها العيون بلا عناء، وفي قمة النوستالجيا كنت أخاطب ملعب طفولتي ومسرح حداثتي والشبح ذات الجسد الممشوق والبشرة السمراء الجميلة الذي كان يعتريني في جنح الظلام.
كان قطار الزمن المعكوس يأخذني إلى الرمال الحريرية، والزوارق التي تتمايل على عباب الأمواج، وكنت أحسّ بفرجة الفرحة كلما استحضرت الأيام الخوالي والحكايات المثيرة، وفضول الأعراب، وعيون الشيوخ الغائرة في وسط التجاعيد، والنظرات الشاحبة للوطن. وكانت الرائحة الزكية للتاريخ تفوح كروضة محاطة بسياج الجمال على ضفاف نهر شبيللي التليد.
جمالية الماضي وسريالية الليالي المتألقات كانت ترخي حبال الرحمة للنفس التي تعيش منطقة رمادية، وتدخل السرور في القلوب التي أنهكها التعب، وفي وسط سكون الغربة كانت مخيلتي المخدرة بحب الوطن والتآئهة بعشق أمتي، وملامح أمي التي تذكرني بطيبة أهلي في الوطن الكبير ووُد أمهاتنا اللاتي يحرقن أجسادهن ونفوسهن ليضئن الشموع وينرن الدروب تتعلق بالماضي بكل تفاصيله الدقيقة وألوانه الصارخة وتناقضاته الكبيرة.
معزوفة المشاعر العتيقة كانت تجعل أيامي ساعات طاؤوسية نثر الحب فيها أنغامه الشرقية الهادئة على أحاسيسي البلورية، ونسيم الصّبا المنعش يبلل عطر الشوق في جسدي، وتمر أمامي كلوحة زجاجية شفافة هوس الطفولة للساحرة المستديرة، وشجارنا الصبياني القاتل عند كل هدف يمزق عذرية الشباك، أو كل تمريرة بينية متقنة تفك شفرات المدافعين المتكتلة في المنطقة المحظورة، وكل ركلة طائشة ترسل الكرة إلى المدرجات كسبا للوقت، أوكل مراوغة مبهرة لفنان داخل المستطيل الأخضر يعزف الإبداع الكروي على الضفة الغربية للمحيط الهندي.
لم أنفصم عن تراثي وتقاليدي العريقة، ولم يترك الزمن طابع الحداثة في نفسي، لأني عشت في صغري في بئية محافظة ذات أثر روحي كانت الدين نبضها الأكبر، فكانت نفسي تندمج مع المسجد العتيق في حيّنا والصوت الشجي للمؤذن الموقر الذي تراجيع صوته تشبه صوت مؤذن الحي في مدينتنا، جدران المسجد، والأوراد بعد الصلوات المكتوبة بطريقة جماعية تفيض جمالا، والسبحة في أيدي المسنين، وحتى دورات المياه للمسجد كانت ترسلني إلي سحيق الذكريات في مسجد سوق ويني(Suuq weyne) الشامخ في كسمايو، ولم يكن صوت المؤذن هو الشيء الوحيد الذي تشترك مدينتنا العريقة مع العاصمة العملاقة، بل طريقة الأعراس، وزغردة الحرائر،واللوراي القادمة من أدغال خط الاستواء محملة البضائع والخضروات، وعشوائية المدن، وزحمة الطرقات، تحركت في وجداني ذكريات أبت أن تتصالح مع نفسي الكلاسيكية أو أن يمحوها دجى النسيان في عالم الغربة.
وبين الخيال الفانتازي والليالي الصامتة من حولي والغربة التي تقيدك على رصيفها، كنت أقطع الزمن مع أصدقائي في الدراسة وزملائي في رحلات الحياة، وممن عاشو معي على بساط التعليم وفي صروح المعرفة، وكنت أنفث الأحلام في كنف الحكايات والأساطير الموغلة في التراث الشعبي، والليالي الملاح والأحاديث الشبابية الساذجة وعلى وقع النبرات الصوتية التي تعاني من المنطق المعاكس للحياة والألحان الحزينة للترحال والنوى.
كنا شبابا يحتضن ذكريات الحب المليئة بالتراجيديا، لأن الحب لا يتماسك أمام عاصفة الفراق والجفاف العاطفي الذي غالبا ما يكون الإبن الشرعي للفراق، بل يتساقط الحب في أغلب الأحوال كأوراق الأشجار التي عصفت بها زوابع الخريف.
وللأصدقاء والأحبة دوما مكانة خاصة في قلبي، وأنا منذ أن تورطت حسن النية والطيبة أوقل إن شئت (السذاجة والحب في عالم تقوده المصلحة ويسوقه الجشع)، اخترت أطيب وأحسن مكان في ردهات قلبي ليكون عنوانه "للأصدقاء فقط"، وممنوع الإقتراب إليه ومخصص للزملاء، سواء كانو ممن عرفتهم عن كثب وعن طريق العالم الواقعي أو جمعتنا الحياة صدفة وبدون مقدمات وتفرقنا ونحن نذرف الدموع ونتسارع مع الزمن، ونحاول أن لا ينسي أحدنا على الآخر، أو جمعتنا التكنولوجيا والعالم الإفتراضي في بحوره وفي وسطه المشحون بالشعور المتناقضة والأقنعة المزيفة.
أخص بالذكر أصدقائي الذين اقتسمنا تكاليف المعيشة وسامرنا كثيرا في ردهة البيت الذي كنا نسكنه بجو من الألفة والتناغم، وحياة قوامها الإخاء والوفاء، نجلس تحت الفضاء في سطح العمارة نستمتع بكل ما للحظات الصداقة من المزاح والتسلية، وكبابي الشاي الممزوجة بالقهقهات تدور كحلقة متصلة بيننا.
أجواء السمر المشحون بالأحاديث الجذابة وذكر النساء وحديث النساء له شجون ووقع خاص يثير الشعور ويلهب الخواطر هنا في الغربة، وهناك وفي المنافي البعيدة لابد للمشتاق أن يتذكر النظرات القاتلة والتغنج المميت والدلال الأنثوي التقليدي. ولاشيء يعادل لذة التعامل مع عطر ذكر الأنيقات سوى القراءة الماتعة حين تلاطفك نفحات الفجر الفواحة.
أصدقائي أثروا في حياتي وكانوا مصدرا لإلهامي، وكانت حياتنا ملتصقة ومتصلة طيلة السنوات التي عشنا معا، وكان تشجيعهم يذكي في نفسي جذوة الكتابة والمثابرة، وأمثال عبد الرزاق محمد عمر الذي أصبحت حياتنا مرتبطة منذ نهاية القرن المنصرم عندما كنا أطفالا يغدون إلي مدارسهم، كان شعلة مضئية في حياتي، دمث الخلق رقيق المشاعر كريم السجايا أمهرنا في المراوغة داخل المستطيل الأخضر وأكثرنا حماسة في جميع الميادين، ولا أنسى آدم حسين عثمان(حمرى) مشجع من الطراز الأول للبلوغرانا(برشلونة)  والصديق الحميم لمجلة سوكر الرياضية، شخصية مهذبة ما لم تخرج عن النص، حياته المرتبة وشخيره المزعج ومزحته القاتلة التي تحول المجلس إلى صخب ولغظ وضحكة مجلجلة طالما خففت عنا ألم السهر.

أما أصغرنا سنّا وأكثرنا حيوية عبد العزيز حسين فتلك شخصية رغم صغرها تحتاج إلى أن نكتب حولها الأسفار ونسيل من تصرفاته مداد القلم، قمّة التحمل في السهر والحكاوي، مشاغب وجرئ وعقلية جبارة، أما عبد الله بوس فعقد الرمان في البيت شخصية لاغنى عنها رغم التعنت في بعض المرات، وهناك عبد الحكيم وعبد الرحمن شاتي وعبدالله سمير والقائمة تطول.
من الصعب أن ننسى الأيادي الرفيقة والأرواح الحنونة والقلوب الكبيرة في لحظة المعاناة وساعة الحرمان، والأصعب من ذلك أن ننسى من يشارك الفرحة معنا ويضيف البهجة إلى مناسباتنا والبسمة إلي مواسم الأفراح التي بالطبع قليلة في ظل منغصات الحياة والكراهية الطافحة في جميع الميادين، ورغم تغير الأحوال وتنكر السنين والنظرية السائدة في الكون التي تقول "لا يوجد من يبدل لك الحب بعشق والإخلاص بود"، إلا أن - وبحمد الله- معظم من وثقتهم ووضعتهم في حدقات عيوني لم يخيبوا ظني، بل كانوا على مستوى الحدث كما تقول "السياسة أو السياسيون إن شئت"، وأحسست أن انتمائي أكبر من محيط الأسرة أو القبيلة أوالكانتونات الصغيرة للقبائل المتناحرة والأفق الضيقة ذات الأبعاد الفاشلة، وأدركت أن إنتمائي إلى الجموع الوفية من الشعب والجمهور الصادق أكبر وأجمل!، وهكذا جعلت البيت الكبير والأصدقاء أسرة خاصة لا أستطع مفارقتها.
قد لانلتقي بتلك النفوس الوفية في طرقات الحياة وفي عمرنا القصير، وقد لا نضحك معهم في فصول الغربة ومواسم العمر، ولكن حتما سنلتقي معهم عن طريق الحب وعن طريقة النفوس التواقة للمعانقة.
وبعد سنوات الكفاح والنضال من أجل التعليم حان موعد الإفتراق ولحظات الوداع، ودائما ما تكون ساعة الوداع مؤثرة لأنها مرتبطة بصداقة ضاربة في جذور القلوب، وذكريات من الشوق والحنين تؤلم حدقة الخيال، ولا يستطيع المرء نسيان ماضيه رغم الهجرة والغربة لأنه متعلق بحاضره ومن هذا المنطلق كانت أصعب لحظة في حياتي عندما ودعت أصدقائي وأنا متسربل برداء البكاء وأواسي نفسي أن الأحزان وإن طالت ستنتهي.

وأخيرا عدت إلى بلدي وهناك وفي مطار جكجكا كنت فردا من بين الجموع المتدفقة من الغربة إلى التربة الزكية للوطن ورحبت بي المدينة بطريقتها الخاصة.

ميناء غَرَعَدْ.. بارقة أمل في وسط الهزائم

  بعد انتهاء معرض مدينة "جالكعيو" للكتاب الذي كان يهدف إلى نشر السلام والمصالحة الشاملة بين القبائل -قبل تعزيز الثقافة والمعرفة- ف...