الجمعة، 10 فبراير 2017

يوميات جيولوجي (3-1)


تحركت الحافلة التي كانت تقلنا إلى السبلوقة من أمام مبني كلية العلوم بجامعة إقريقيا العالمية، في الساعة الثانية ظهرًا بعد اتنظار طويل وتأخر شديد، سببته عوائق تراكمت ومصاعب طفيفة في شكلها ولكنها معيقة وصعبة في مضمونها، تعودنا عليها في الدول الإفريقية والنامية جميعا، ولكن انقرضت وتركتها الدول المتقدمة التي تقدر قيمة الوقت وكرامة الإنسان. لم نكن نتوقع هذا التأخر الشديد والانتظار الطويل والترقب الممل، لا سيما ونحن جئنا في الصباح الباكر آملين أن نتحرك عند الساعة الثامنة صباحا ولكن طال انتظارنا وبدأ الفتور يخيّم على الأجساد والتذمر على الجباه واجتاحت موجات من عدم الرضى ملامحنا، وبعد همسات ارتفعت وتحولت إلى جدال ساخن بين الطلاب لبحث سبب هذا التأخر تعرفنا أن التأخر أمر طارئ وخارج عن السيطرة، وأن الأساتذة والمساعدين كلهم على أهبة الاستعداد ولا ينتظرون سوى الضوء الأخضر للتحرك.

لم يكن التأخر المزعج متوقعا، بل كان حدثا طارئا سببه تأخر التجهيزات الضرورية للمعسكر، والتصريحات اللازمة والأوراق الرسمية لزيارة المنطقة وإجراء الدراسات الجيولوجية عليها، لأن معظم منطقة الدراسة منطقة عسكرية محظورة وفيها أكبر مخزون إستراتيجي للجيش السوداني، لذا من الصعب أن تذهب لأي غرض إلى هذه المنطقة المحظورة إلا بإذن مسبق من الوازارة المعنية وجهاز الأمن والمخابرات الوطني، ومن الطبيعي جدا وككل دول العالم الثالث أن تكون مثل هذه الأمور معقدة وتحتاج إلى مراجعة وصبر كي تصل إلى مطالبك.

وقبيل خروجنا من الحرم الجامعي كان السرور والاشتياق الى السفر واضحا، وتحركت المشاعر النبيلة تجاه السفر الميمون، وصدح على الكراسي الأمامية من الحافلة أغنية شجية من الكلاسيكيات السودانية القديمة ذات الطراز الوتري فنثرت في الجو عطورا من الألفة والتواصل وبحورا من وميض الإحساس المرهون بأصالة الفن وجزالة الكلمات، والسودانيون بمجرد سماعهم للأغاني الشجية ذات اللمسات الإنسانية الرائعة لعمالقة الفن ونجوم الزمن الجميل تغمرهم موجة من السعادة العارمة قتتمايل أجسادهم وتتحرك أناملهم وتكسوا البهجة على جباههم السمراء وتقرأ علي وجوههم علامات الرضى والقبول.

وفي هذه الطقوس الخاصة والشخصية الودودة السودانية لم يكن غريبا أن يكون السفر بخلاف المنتظر سهلا جدا، بالإضافة إلى قصرالمسافة وتعبيد الطرق وسلامة المكان والتهوئة الجيدة للباص الذي كان ينقلنا إلى المعسكر، وتشوقنا الواضح للدراسات العملية والجيولوجيا الحقلية الذي هو لب الجيولوجيا وأساسه المتين، وفوق كل هذا كنا متحمسين للسبلوقة لما تركت علينا الزيارة السابقة من انطباعات جيدة ولمسات إيجابية وأيام امتد السروربساعاتها

وفي خضم سفرنا الأنيق وأثناء مداعبة النسائم الندية المحملة على رذاذ النيل في مقدمة جباهنا لم يخل في بالنا أن السفر تعليم للصغير وخبرة للكبير كما قال القدماء، ولم نكن نشعر أي تعب أو عناء في الرحلة، بل كانت رحلة غمرتها الفرحة وهيمنت عليها الأحاديث والإغفاءات القصيرة لبعض الرفقاء، وكانت رحلتنا تشبه السفريات السياحية والزيارات الإستجمامية، ولم نر طيلة الطريق ما يعكر صفونا ويخرب مزاجنا العالي ومعنوياتنا المرتفعة حتى وصلنا إلى المعسكر، ذلك المبني الشامخ في وسط الصحراء وفي الأرضية الجبلية الجرداء بعد مغيب الشمس وفي عتمة الليل البهيم.

معسكر السبلوقة

المعسكر عبارة عن مباني تقع فوق هضبة منبطحة قرب (المسيكتاب ) وهي قرية صغيرة ومحدودة السكان، والمعسكر عام للجامعات السودانية، رغم أن ملكيته تعود إلى جامعة الخرطوم أعرق الجامعات السودانية وأقدمها على  الإطلاق، ويتكون من ثلاثة مباني متجاورة ولا يفصل بينهم إلا ممرات وفناء المعسكر الرحب، المبني الأول هو عبارة عن ثلاثة غرف خاصة للطلاب ويسع كل غرفة حوالي عشرين سريرا، أما المبني الثاني وهو غرفتين تقريبا فهو مخصص للأساتذة والمساعدين، ويبقي المبني الثالث مطبخا للمعسكر، ويوجد أيضا مسافة قريبة جدا للمعسكر مبني خاص للبنات وما دام كنا ذكورا ولم يكن معنا بنات بسبب قوانين جامعتنا التي تحظر على الجنس الناعم الانخراط في مثل هذه المتاعب بخلاف الجامعات السودانية الأخرى التي تدرس حواء جنبا إلى جنب مع آدم في الجيولوجيا وفي جميع التخصصات المتعبة، لذا لم نستخدم ولم نفتح هذا المبني البعيد عنا معنويا.


لم تكن الغرف مهيأة لحظة وصولنا، بل كان الغبار والحشرات الصغيرة تملؤ المكان، ورغم وجود الأسرّة الجاهزة والمعقولة لحد ما إلا أن الوحشة الظاهرة على جنبات المعسكر والظلام المخيف الذي خيّم على المباني القليلة المتراصة داخل أسلاك المعسكر كان يدعو إلى الملل والسآمة، ويولد شعورا من الإحباط والقهر النفسي والحنين إلى بيوتنا ومساكننا هناك في الجنوب البعيد وفي الخرطوم النائية.

كان المعسكر رهيبا وتبدو عليه العتاقة وعلى جدرانه التشققات الكثيرة مما يوحي بأننا أمام نمط مختلف وحياة جديدة كليا وأسلوب مغاير لما عهدنا، وفي الساعات الأولى من وصولنا للمعسكر كان التذمر والإحباط واضحين على محيا الطلاب، وكان الجميع يبدي قلقه وعدم قناعته بالأجواء الغريبة والمعسكر الرهيب وغرفه البالية وحماماته القديمة ومرافقه الضعيفة أو المعدومة، وبتنا ليلتنا في فناء المسكر الذي كان أكثر نظافة وأريحية من الغرف، ولم نصحو إلا وقد ارتفع الأذان علي منائر القرية لنصلي الفريضة ونبدأ دراستنا وفصول متعتنا المشوبة بالمشقة.

كنت أتململ على الفراش في ليلتي وكانت بداية الدراسة الحقلية تؤرق مضجعي وخاصة ونحن في الصيف السوداني الساخن، وأفكر كثيرا بالمكونات الأساسية للمنطقة والجبال المحيطة بنا، وعلى هذا الوقع إستيقظنا في الصباح الباكر وبعد أن صلينا الفجر وشربنا كأسا من الشاي، اصطف الجميع على جانب السيارة الخاصة للدراسة وعلى مقربة من الطاولة الكبيرة على الجهة الغربية من المعسكر لنستمع إرشادات ونصائح الأساتذة، وبدأ الأستاذ يشرح الضوابط واللوائح المتبعة في المعسكر طيلة أيام مكوثنا فيه، 
وكيفية استخدام الأدوات الحقلية والحفاظ عليها، ولم ينس أن التعاون والتغاضي عن الصغائر والحلم والأخوة الصادقة ترفع معنويات الطلاب وتجعل المعسكر وجميع الفرقة أكثر هدؤء وأكثر تفاعلا في جميع المناشط،وبعد أن انتهي الأستاذ من شرحه الفضفاض قسم لنا الأدوات الحقلية التي هي عبارة عن شاكوش وعدسة وبوصلة، والأقلام الخاصة للتخريط وأوراق شفافة مخصصة لرسم الخرائط، وبعد لحظات كنا على متن السيارة نجوب في الجبال والبوادي والقفار والمفاوز

ميناء غَرَعَدْ.. بارقة أمل في وسط الهزائم

  بعد انتهاء معرض مدينة "جالكعيو" للكتاب الذي كان يهدف إلى نشر السلام والمصالحة الشاملة بين القبائل -قبل تعزيز الثقافة والمعرفة- ف...