الجمعة، 10 فبراير 2017

ذكريات على ضفاف النيل


تمر بنا الأيام والليالي دون أن نشعر، وتقربنا السنون إلى أجلنا المحتوم ويومنا الموعود، وتحمل لنا الأعوام والساعات أخبارا سارة وأخرى ضارة ،كما يحمل العام في طياته الأتراح والأفراح والبشائر والأنذار المبكرة للأشياء الجميلة في حياتنا.

أنظرُ إلى السنوات الخمسة التي عشت في السودان فأتذكر لحظات الغربة القاتلة، كما أتذكر لحظاتها الجميلة وساعاتها القاتمة، سواء كنت في المقاعد الدراسية، أو في الحدائق العامة وعلى ضفاف النيل والمكتبات التي تعج بأصناف العلوم والمعرفة، فأتعجب كيف مرت الأعوام هكذا سريعة وكلمح البصر!، وفي خضم تيهي على وادي الإستفهامات أتساءل: هل هرولت بنا السنون؟ أم أسرعت ومرت كالبرق وكالموجات السريعة؟ أم أننا لا نحس مرور الأيام والليالي (بانغماسنا) في ملذات الدنيا وشهواتها وجمالها الفاني؟

خمسة سنوات عشتها على أكتاف الجمال ومدينة الخرطوم، وتحملت مشقات كثيرة بسبب العلم وتحصيل المعرفة، ورقصت على أهداب الزمان بخيلاء وشموخ، وعزفت العود وبنغمات رقيقة على كورنش النيل وواحات التسوق المتناثرة على شاطئه وفي أعتاب المنافي المتعبة بالأغاني المشحونة بالوجع والألم، كما أحببت الحدائق الخضراء المنسقة بالزهور عند ملتقى النيلين في المقرن الثملة بسكرة الإيحاءت الرومانسية الصادحة من أعماق الأجساد وفي صميم الأبدان، واجتاحتني وأنا متلفع برداء الغربة لطمة حياتية موجعة في دروب الحب الطويلة.

في غربتي الأنيقة قطفت ثمارا يانعة من بساتين الذاكرة، وتعللت آمالا أيقونية ساطعة، وسامرت أطياف الجمال، وتنعمت في حضن الخرطوم الدافئ أحيانا واللافح أحيانا أخرى في عز الغربة والشوق وفي منتصف الصيف الخرطومي الساخن، وكانت الدراسة مجرد أنسي الذي يقطع لوعة الغربة في الليالي الباردة، وعندما يجتاحني لهيب الشوق كنت أردد في غربتي بإستمرار أغنيات كلاسيكية مختارة، ذات أوتار خماسية أمثال:
Tacliintaan usoo dhoofayeen uga imid dhulkaygii
Dhayal iguma aha oo waan dhowrayaayeey
"التعليم الذي سافرت وتركت وطني من أجله ليس هيّناً عليّ وسأحافظ عليه وأعتني به دوما".

خمسة سنوات كانت الكتب رفيقي في الحل والترحال والأقلام أصدقائي في كل حين، وكانت ملتحفة بتناقضات الحياة والمسالك التي يطول فيها العبور، أخبار مظلمة، وأجواء صحراوية جرداء وطقوس رطبة شتائية، وتدافع الأفكار وتنمية العقل والإدراك، وتنقلات عجيبة من نيروبي لندن أفريقيا إلى عطبرا بلد الحديد والنار، ومن جِكْجِكَا عاصمة الثقافة الصومالية الأصيلة والرقصات الشعبية الموغلة في الوجدان الصومالي إلي بحردار وموضع الجمال في العمق الأمهري وأعالي هضاب الحبشة.

عشت في الغربة والأحشاء تحترق! وعكفت فوق ربى الترقب أطالع صفحات وطني وحب شعبي المليئ بين قصبات الضلوع كأنه مرسوم على لوحة فنية تربطني بأفراد شعبي وتاريخ بلدي، فتزيدني شوقا ولذة خاصة تسكن بين العيون والرموش.

2009،2010،2011،2012،2013 خمسة أعوام مشحونة بالشوق والضنى، ومفعمة بالألم والشجن، خمسة سنوات متناقضةإبتسمتكغرة الربيع وبكت كالثكالى، ولم تكن سوى سنوات غائمة وأرقاما سديمية تائهة المعالمإضافة إلى وميض القلم وليالي المذاكرة على وقع أصوات البعوض وعصافير البطن، وأياما تئن وتتوجع ولا تؤنس وحشة الفراق وقيوده التي لا تلين، كما كانت سنوات لا تخلو عن ساعات أحسست بفرحة الفرج بعد الضيق وأياما متألقات تشع عنها الدفء والنور، ولحظات تتآلف القلوب وتندمج النفوس فيها.

هنا الزمن يمشي سريعا وكأنه يلاحق موعدا، ويمتزج التاريخ بالجغرافيا وجمال النيل الذي أصبح نهرا يرتبط في السودان بموروثات الهوية والحضارة والوجدان، في السنة الأولى من سنوات الغربة والضياع كنت كورقة متعاكسة تدور حول نفسها! كنت أناجي أشجار التمر الباسقات التي يتدلى منها الرطب كضفائر الغواني في عطبرة مع رفقة أجلاء وأصدقاء أوفياء عاشوا في "دار جعل" برفقة الكرم والشهامة، ولم تكن السودان حينها في نظرة مراهق أبعدته الحروب والصراعات العبثية عن وطنه سوى بلد غريب عنوانه النيل، وشعاره التحدي، ولسانه دارجي، وتكاليفه باهظة وصعبة.

وقُطر كثير القوانين واللوائح يصعب لمراهق مثلي جاء من أقصى الشرق للقارة يحمل تمردا على كل القوانين في جيناته وقلبا ناصعا لم تغتلْه أيادي الحقد، وتعويذة جدتي، وبقايا سبحة ويقين أستعين بها في نوائب الدهر، وحبا جارفا للعلم والمعرفة أجبره ليحط به الرحال في وسط الصحراء وفي تلك السنة وفي جناب البرلوم كنت أتذكر ملاعب الطفولة ومدارج الصبا ورمال الشواطئ الذي يشكل النبض الأكبر في بلادي.

أما العام الثاني الذي حملني طيف الغربة إلى عمق السودان والعاصمة المثلثة فقد كان عاما مترعا بالبهجة والجمال رغم الغربة! تعودت أكل الفول محبوب الجماهير وصديق البسطاء وزميل الكادحين وحديث السمار، وأصبحت ماهرا في تحضير الفتة والطعمية والجبنة والشاي وبطريقة أهلي في أقصي الجنوب من الوطن، وكونت علاقة رومانسية غريبة أرسلتني من سكون الغربة إلى دفء العشق وتربة الوطن.
إرتبطت بإنسانة لطيفة وفتاة لامعة في أوساط الطلبة الصوماليين في تلك الفترة، أنسها كان يهوّن علي كثيرا من السآمة والملل ورهبة الغربة، أحسسنا كثيرا  تدفق التعلق في أوصالنا على وقع موسيقى الجاز والألعاب التقليدية السودانية التي تصدح في حناجر السمراوات داخل  السينما والقنوات الثقافية والمسارح  المطلة على النيل العظيم، وضحكنا كثيرا من أجل الأمسيات المبللة بالحب والصباحات المتألقات في الحرم الجامعي وفوق الكراسي الدراسية، وبكينا كثيرا من أجل أحبة رحلوا عن دنيانا الفانية إلى دار البقاء، وآخرين قلبت لهم الدنيا ظهر المجن وشربوا كؤوس الحور بعد الكور أصنافا!.


في بداية السنة الثانية من الدراسة الجامعية والإنخراط في السلك التعليمي لجامعة افريقيا العالمية بدأت أستأنس لقصص الطلاب وتجاربهم وأستوعب ثقافاتهم المتعددة وأساطيرهم المتنوعة وسحناتهم المتباينة، وعلى ذكر هذه الجامعة الشامخة وهذا الصرح العلمي الكبير أتذكر أصدقائي من السودان، وتشاد، وتنزانيا، ويوغندا، والصين، وسريلانكا، وجزر القمر، وبنين، وتوغو، وبوروندي، ورواندا، ومالي، ومالاوي، وتايلاند، والسنغال، وساحل العاج،كما أتذكر الداخليات وقاعة الطعام التي تشبه ساحة الأمم المتحدة والمبني الفاخر لها في عاصمة الموضة والإقتصاد الأمريكي نيويورك، جنسيات متعددة، ولغات مختلفة، وسحنات متباينة، وأفكار متناقضة، وتوجهات متعارضة، وأيديولوجيات متقاطعة تعيش جنبا إلى كتف في الحرم الجامعي وفي الغرف السكنية في الداخليات والفصول والملاعب!.

الغربة صناديق مختلفة وأغلبها حزن مشوب بأمل ولا تدري أي صندوق سيفتح لك أولا، لذا فهي محفوفة بالمخاطر والمفاجآت التي لاتخطر على بالك، ومن أصعب الأشياء التي واجهتني في الدراسة الجامعية كان المعمل الكيميائي الذي لم أره يوما في حياتي!، مدارسنا المتواضعة كانت تفتقر إلى الأساسيات ناهيك عن الأشياء التي تبدو وكانها رفاهية في أعيننا!، وكانت المدارس شبيهة بحالة الطوارئ في بلد لم يعرف الأمن والإستقرار أكثر من عقدين من الزمن، لذا كان تحضير المحاليل وحفظ أدوات المعمل من : السحاحة، والدورق، والأنبوبة، والقمع، وحامل اللهب، وصفعات ولطمات الأستاذ "إمنع الكلام" أستاذ المعمل، والهيدروكلوريك أو كلور الماء  HCL، والعناصر المتفاعلة والطريقة الصعبة لإحضار العينات وكتابة التجارب وصعوبة الحياة وندرة المواصلاة إلى حيّ "محطة سبعة" في الثانية ظهرا وفي شمس الخرطوم الحارقة، كلها تركت في وجداني ترسبات سيئة وخيبات متتالية وذكريات غير جميلة لا تخلو عن نوع من البهاء وإن كانت على طعم الغربة، مما يجعل ذلك العام من السنوات التي لا أنساها أبدا.

2011م أجمل سنوات الغربة على الإطلاق وأقصر سنوات المنافي وأنضرها، بداية عادية لسنة جديدة إنتقلت إلى عمارة جديدة مكونه من أربعة طوابق لم أسكن أجمل منها في حياتي، وفيها زرت مسقط رأسي بعد غياب دام (15)عاما كما زرت الأقارب والأحباب ومهد الطفولة وعشت لحظات جميلة لا تتكرر، ولكن في منتصفها وقفت في حافة المجهول دراسيا بسبب تهوري ونزق الشباب، وفيها فقدت إنسانا عزيزا على حياتي وآخر من يعيش بيننا من صلب قرني جدي الكريم، وأخيرا رحلت عنا هذه السنة بهدؤ لاتثير الزوابع ولا تنثر الضجيج، بل ولّت كما جاءت وهي منقبة بحياء عجيب وأحلام كبيرة تصرخ وأمنيات مشروعة إغتالها الواقع أجلتها إلى العام المقبل.

2012م حققت واحدة من أجمل أحلامي وأمنية كانت مرسومة في ذاكرتي وعزفت الكتابة في أركان وجداني لحن النجاح، وصرتُ الإنسان الذي كنت أريد أن أكون رغم بعد المسافة وطول الطريق، كنت محبا للقراءة والكتابة ومشغوفا بإقتناء الكتب والمجلات منذ نعومة أظافري، وكنت أسعى دوما إلى القمة والتربع على هامات المجد، ولم أقتنع يوما في الحضيض ولم أطمع سوى المعالي والتسلق إلى أعلى قمة في أعلى جبل لأغرد وحيدا هناك، وكان طموحي يعانق عنان السماء ويكبر معي كلما كبرت ويقفز معي  ضروب الحياة وقفر المعيشة، أحببت أن أكون كاتبا رغم قلة بضاعتي وصعوبة التجربة وضيق أفقها وندرة الأدوات المساعدة لهذه الأمنية في مجتمع لم يعرف سوى الشفاهة والأشعار والأمثال والحكم شيئا يحفظ له تاريخه وتراثه، وفي وطن يساهم في ترهل الهمم ويلفظ كل القامات ويشرد الكوادر العلمية ويرسل الأدمغة المثقفة إلى المهجر.

حاولت فعثرت فنهضت رغم الجراح!، وتركني الواقع أمام الطرق المسدودة ألاعب أحلامي وآهاتي!، ولكن لم أرم المنديل ولم أستسلم ولم أشك يوما بقدراتي وأن حلمي سيصبح حقيقة، إستهزأ الجميع بعنجهية وحسد! ورأى البعض محاولتي الدؤوبة نحو المجد أنها نزوات مراهق أو سخافة شاب وترهات معتوه مهووس بالكتابة وأماني مسطرة بورق الكربون، وبعضهم حاولوا إذلال شخصيتي وتضعيف عزيمتي واغتيال طموحاتي حين قالوا: من يقرأ ما تكتبه أنت؟ ومن يهدر وقته ليطالع سطورك وأحرفك الباهته وفكرتك الطفولية؟ ولكن جذوة الأمل كانت متّقدة في أعماقي رغم الظروف والمطبات.


2013م نفضت عنه غبار السنين وعانقت المجد فيه، تخرجت من الجامعة ورحلت من السودان وتركت حزينا ضفاف النيل والحديقات الجميلة لخرطوم السلام وحيّي الأنيق الصحافة شرق، ورحلت بعدما أصبحت سودانيا بالأصالة وعشت مع سودانيين كرام أمثال أبوبكر خليفة، كرم يمشي على وجه الأرض وعز ورثه من الجابرية في الريف السوداني العريق والعرق دساس يا جماعة، ومحمد شكر الله شهامة عربية أصيلة وإكرام الضيف مغروس في جيناته الحاملة أنفة العروبة وشاعرية الأعراب، ومهند عبد المجيد شيخ الفصل وإمامنا في العراء وخطيبنا في الرحلات الجيولوجية، وعلي محبوب الطلاب، والمشاغب محمد شرف والوقور عمر الفكي والمجنون العبقري دفع الله محمد محجوب والسهل الممتنع موسي محمد ورجال آخرون أكنّ لهم ودا صافيا وحبا أبى إلا أن يسكن في أعماق وجداني تركتهم وفي مقلتي دمعة بعد بسمة! الدموع لفراق الأحبة والرحيل المرتقب من السودان الحبيب!، والبسمة من أجل العودة الحميدة لأرضي وأبناء بلدي وشرق قارتنا الجميلة.

ميناء غَرَعَدْ.. بارقة أمل في وسط الهزائم

  بعد انتهاء معرض مدينة "جالكعيو" للكتاب الذي كان يهدف إلى نشر السلام والمصالحة الشاملة بين القبائل -قبل تعزيز الثقافة والمعرفة- ف...