الجمعة، 10 فبراير 2017

يوميات جيولوجي (3-2)



منطقة الدراسة
منطقة السبلوقة تقع في الأطراف الجنوبية لولاية نهر النيل السودانية وعلى بعد 90كم شمال الخرطوم، وهي منطقة جيدة للدراسات الحقلية الجيولوجية وفيها الشلال السادس الذي يعد من المناطق السياحية في السودان. ويؤمها الزوار والسياح لتنوع مكوناتها الطبيعية وقربها النسبي للخرطوم.
التتابع الجيولوجي لحبيس السبلوقة Geological Succession Of Sabaloka Inlier:-
أوضحت الدراسات الجيولوجية السابقة أن منطقة السبلوقة تتكون من أربعة وحدات صخرية رئيسة مختلفة التكوين والتركيب، يمتد عمرها من عصر ما قبل الكامبري (
pre Cambrian) إلى الحين الحديث، وهذه الوحدات تشمل من الأقدم إلى الأحدث عمراً حسب ماحددته الدراسات السابقة:
• معقد صخور الأساس Basement Complex
• معقد السبلوقة الناري Sabaloka Igneous Complex
• تكوين الحجر الرملي النوبي Nubian Sand Stone formation
• الرسوبيات الحديثة السطحية Recent Deposits(1)

وما إن وصلنا إلى المكان المقصود حتى نزلنا من السيارة كسرعة البرق وبدأنا نتسلق الجبال ونكسر العينات ونصدم الأحجار الكبيرة في عز الظهيرة ونأخذ القياسات المطلوبة من خطوط المضرب واتجاه الميل وسمك الطبقات ومقاومتها، ولاقينا في تلك الجولة مالا يطاق ومشاق لا يحصى، وكلما نتعب وتضعف عزيمتنا نعلل النفس بالأماني والمآلات الطيبة، وبعد الفتور والإعياء نستحضر الفوائد الجمة التي سنجنيها من تلك المشقة وأستذكر قول إمبراطور الشعر العربي المتنبي: لولا المشقة ساد الناس كلهم *** الجود يفقر والإقدام قتال.

ولكن وبحق لم تكن المسافة الطويلة، ولا حر الشمس في عز الظهيرة، ولا الظمأ المستحكم والجوع الشديد، تضعف عزيمتنا وتلين همتنا في مواصلة مسيرتنا نحو التدرب والإستفادة القصوى من الزمن والأساتذة الموجودين معنا في الحقل والأجهزة الحديثة المتوفرة ولأول مرة في جامعتنا، بل كان الأمل يحدونا نحو الاستفادة ونحو أن نكون يوما من الأيام رواد هذا العلم الجليل، هذه العوامل شكلت حافزا قويا وخلقت في دواخلنا قوة وإيجابية ومحركا فعالا لتلقي العلوم، والسعي الدؤوب لمعرفة المنطقة وتخريطها ودراستها، وقيد جميع المعلومات وكتابتها في دفتر الملاحظات، ورصد كل شاردة وواردة لنصل إلى مبتغانا.

ومما يحرك الجهد ويقوى العزيمة ويضاعف الاجتهاد ويأبى الاستكانة والاستراحة للنفس كوننا طلاب أجانب (وافدين) كما يسموننا السودانيون، وأمامنا أجهزة وأساتذة أكفاء ومنطقة مثالية للدراسة، وجو مهيأ للتدرب لا نجده في بلادنا المنكوبة، إضافة إلى ذلك كان في بالنا أننا من دولة مزقتها الحروب وأنهكتها المجاعة وأضعفها الظمأ، وشعب في أمس الحاجة إلى من ينشله من براثن الحروب والصراعات العبثية، إلى واحة الأمن والأمان وإلى شاطئ السعادة، ولا يوجد شيء أحسن من العلم كي نواجه المثلث المرعب في حياة الإنسان (الجهل والفقر والمرض).

وفوق هذا تجبرك الغربة وندرة هذا العلم في بلدك إلى بذل المزيد ومضاعفة الجهود، بسبب هذه العوامل وأخري كثيرة كان يتحتم علينا دائما ان نبذل مزيدا من الجهد والجدية لنحمل علوما بإمكانها إنقاذ حياة شعبنا الذي يموت من قلة المياه وهو يعيش على ضفاف الأنهاروالأراضي الغنية بالمياه الجوفية.

وليست قلة المياه وحدها ما يعانيه شعبنا، فهو يعاني من قلة اليد والعوز والمجاعة، وهو يعيش فوق بركة من النفط وآبار من الغاز الطبيعي، ومن المفارقات العجيبة أن شعبنا يتسول على فتات الموائد ويعيش لاجئا في كل البلدان، وقد حباه الله بأرضٍ تنوء بمعادن مختلفة وأحجار كريمة وخيرات طافحة وخامات اقتصادية نادرة وأراضي شاسعة صالحة للزراعة، ناهيك عن الثروة الحيوانية والسمكية التي لا تحصى ولا تعد.


ومما يؤسفني جدا أن هذه الخيرات لم تجد عقولا سليمة ولا سياسة رشيدة ولا حكومة وطنية ولا علماء وفنيين يبذلون جهدهم لاستخراجها والتنقيب عنها ليتحول شعبنا من شعب جائع فمه مفتوح لكل لقمة إلى شعب منتج يساهم في تحريك عجلة اقتصاد العالم وتنمية وتطوير بلاده، شعبا ليس عالة على غيره، بل أمة رائدة ومؤثرة في محيطها الإقليمي والعالمي، ولتتحول الصومال من دولة فقيرة اقتصاديا وفاشلة سياسيا إلى دولة غنية تصدر منتجاتها إلى الخارج ويعيش أهلها برغد العيش وبحبوحة الحياة، ويزول هذا النعت الكريه والصفة القبيحة (صوملة) وتنتهي الصراعات العبثية والحروب المصطنعة والمجاعة والدوران في الحلقات المفرغة التي أصبحت العنوان الأبرز في العقدين الماضيين.

دائما ما كنا نسمع أن الجيولوجيا والمشقة توأمان وصنوان لا يفترقان، بل من الشروط الأساسية للالتحاق بها أن تستطيع المشي بساعات طوال دون أن تشرب ماء أو تجد ما يسد رمقك من الطعام! وأن تكون جاهزا للمبيت في العراء أو في الخيام أو في البيوت المهجورة، وهذه الشروط القاسية والوصف المعبر كان بالتمام والكمال ما كنا نكابده وتجسده المباني التي سكنا فيها، والمسافات البعيدة التي كنا نقطعها مشيا على الأقدام، وهذا طبيعي جدا في الجيولوجيا فلا يوجد في قاموسه الراحة والدعة!، بل كنا نتعب في اليوم ويسيل العرق على جباهنا ونعطر الساحة بالعرق وهدير الرجال، ويبلغ الجهد والتعب مداه ونمتطي صهو الجبال ونقطع الوديان، ونواجه الإعياء ونكره هذا الطبيعة الجغرافية الصعبة والجبال الوعرة والمشي في الأراضي القاحلة والمناطق التي تحيط بها الجبال وتختنقها الهضاب وتتخللها الصحاري المترامية الأطراف، والكثبان المترامية والشجيرات المتفرقة في بطون الوديان وعلى سفوح الجبال.

ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل! كان عنواننا الأبرز والكلمة التي كنا نرددها دائما، فالآمال تنعش الجسد وتقوي العزيمة، وكلما داهمنا شعور غريب وخلجات سيئة ونحن في قمة الجبال أو في بطون الأودية نتذكر الأمل الذي يتراقص أمامنا والمعسكر القريب منا رغم بدائية حياته، لأن المعاناة والمصاعب التي تواجهنا في قطع الفيافي والمفاوز والجبال الرواسي كنا ننساها بمجرد وصولنا وتفرغنا للراحة وأسبابها القليلة أو المعدومة تقريبا في المعسكر، وكان أطفال الحارة وصبايا الحي الذين كانو يقضون معنا معظم نهارهم يشكلون أعظم سرور وأجمل تسلية ومصدر راحة، كنت أتحدث معهم وأبث فيهم شكواي وأشجان غربتي وحنيني إلى قلوبهم البيضاء النقية وملامحهم البرئية ووجوههم السمر، وكنت أتصفح وأقرأ جيدا على قسمات وجوههم وأسمالهم البالية والإبتسامة الحلوة التي لا تفارقهم ـ وكنت أستأنسهم وتخفف عني وطأة الحر ولطمة القر في الليالي الكئيبة الموحشة فأرى في بريق عيونهم الإصرار والأصالة والشهامة والإحتيال على الفقر ببراءة الأطفال وبابتسامة ماكرة وتبله مقصود.

هكذا كان للإصرار مفعوله السحري في قلوبنا، وسهل التكيف في الحياة الجديدة والتعود عليها،ولم يكن سهلا التنقل في هذه الجغرافية الصعبة والطقس الحار في منتصف الظهيرة اكثر من 20كم في بعض الأحيان لولا هذا الإصرار واستحضارنا عظمة الفائدة وحاجة أمتنا إلى هذا العلم العظيم، والليالي الجميلة التي لا تشوبها شائبة، والإرتشاف العذب في كؤوس الحديث والأساطير التي يحكيها الطلاب الذين كانو عبارة عن كوكتيل من كل الأجناس والدول، والحكايات والألغاز الشعبية، وليالي السمر في واحة الفكر والأدب والشعر، وعذوبة السجع الذي يفوق أصوات البلابل وتغريد الطيور.

2013م نفضت عنه غبار السنين وعانقت المجد فيه، تخرجت من الجامعة ورحلت من السودان وتركت حزينا ضفاف النيل والحديقات الجميلة لخرطوم السلام وحيّي الأنيق الصحافة شرق، ورحلت بعدما أصبحت سودانيا بالأصالة وعشت مع سودانيين كرام أمثال أبوبكر خليفة، كرم يمشي على وجه الأرض وعز ورثه من الجابرية في الريف السوداني العريق والعرق دساس يا جماعة، ومحمد شكر الله شهامة عربية أصيلة وإكرام الضيف مغروس في جيناته الحاملة أنفة العروبة وشاعرية الأعراب، ومهند عبد المجيد شيخ الفصل وإمامنا في العراء وخطيبنا في الرحلات الجيولوجية، وعلي محبوب الطلاب، والمشاغب محمد شرف والوقور عمر الفكي والمجنون العبقري دفع الله محمد محجوب والسهل الممتنع موسي محمد ورجال آخرون أكنّ لهم ودا صافيا وحبا أبى إلا أن يسكن في أعماق وجداني تركتهم وفي مقلتي دمعة بعد بسمة! الدموع لفراق الأحبة والرحيل المرتقب من السودان الحبيب!، والبسمة من أجل العودة الحميدة لأرضي وأبناء بلدي وشرق قارتنا الجميلة.

ميناء غَرَعَدْ.. بارقة أمل في وسط الهزائم

  بعد انتهاء معرض مدينة "جالكعيو" للكتاب الذي كان يهدف إلى نشر السلام والمصالحة الشاملة بين القبائل -قبل تعزيز الثقافة والمعرفة- ف...